صفحات مميزةياسين الحاج صالح

السُّنّة التدمُرية: صيدنايا، التحول العنصري، الإبادة/ ياسين الحاج صالح

 

 

 

«المسلخ البشري» هو عنوان التقرير الرهيب، الذي أصدرته يوم 7 شباط 2017 منظمة العفو الدولية عن سجن صيدنايا في سورية. المنظمة المتحفِّظة في الموقف السياسي وفي لغة التعبير تبدأ تقريرها، مع ذلك، بالجملة الصادمة التالية: «سجن صيدنايا العسكري هو المكان الذي تقوم الدولة السورية فيه بذبح شعبها بهدوء». وفي نحو خمسين صفحة، يورد التقرير وقائع تقْشعِرُّ لها الأبدان عن التعذيب والإذلال والتجويع والبهيمية والقتل في ذلك الجحيم المعزول والمحروس بحرص. ويُقدِّر التقرير الذي يتناول «عمليات الشنق الجماعي والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا» أنه من المحتمل أن 13 ألف معتقل قد تم شنقهم فيه بين أيلول 2011 وآخر عام 2015.

من كان من أهل التجربة في سجون الدولة الأسدية، سيشعر أنه سبق أن عرف أكثر ما يقرأه في تقرير منظمة العفو، ومع ذلك يبدو أن هناك تقدماً في مستوى الفظاعة لم تسجل مثله شهادات مباشرة من سجن تدمر في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته. فقد اقتضى الأمر نحو عقدين من السنين كي يصير مجمل عدد المفقودين في سورية في سنوات الأب بين 15 و17 ألفاً، يعتقد أن معظمهم أعدموا في ذاك المعزل الصحراوي، بينما هناك اليوم ما قد يتجاوز 13 ألفاً من المقتولين خلال ما لا يتجاوز أربع سنوات وثلاثة أشهر يغطيها التقرير الذي بين أيدينا. وهذا دون أن يكون سجن صيدنايا هو المسلخ العامر الوحيد في «سورية الأسد».

على أن السُنّة التدمُريّة التي أرساها حافظ الأسد تبقى هي السارية في الحقبة الأسدية الثانية، رغم الفارق الكمي، وتبدُّل موقع مصنع الرعب الأساسي من تدمر إلى صيدنايا. في سنوات الأب كان يجري تعذيب عشوائي للسجناء يومياً في تدمر لعشرين عاماً، وكان معظمهم من الإخوان المسلمين أو المحسوبين عليهم، بمن فيهم نساء قضت بعضهن تسع سنوات هناك، لكن مرّ بالسجن لسنوات معتقلون يساريون وبعثيون موالون للحكم العراقي، ولبنانيون وغيرهم.

تدْمَرَة سورية، أعني تعميم نظام سجن تدمر على البلد، وعلى نحو تدميري للمجتمع السوري، هو النقلة النوعية التي تحققت لبشار، ويستحق أن يرتبط اسمه بها تاريخياً. ستتفحص هذه المقالة السُّنة التدمرية أو التقليد التدمري، أعني ما يميز سجن تدمر في وقت سابق وصيدنايا اليوم، وما يجعلهما معسكري اعتقال وتعذيب، وليسا مجرد سجنين، وتنظر في أوجه اختلاف بين صناعات الموت الأسدية والنازية (والسوفييتية)، وتقترح تفسيراً لتطور النزعات الإبادية في الدولة الأسدية، وتختم بالنظر في الشروط السياسية والثقافية الدولية التي وفرت الحصانة لصناعة القتل الأسدية حتى اليوم.

السُّنّة التدمُرية

من أكثر الوقائع صدماً للمعتقل السياسي في «سورية الأسد»، وبخاصة في سجن تدمر، أن الجلاد يُحبّ عمله. ينجزه بـ«تقوى» حسب تعبير دمشقي عن العمل المتقن. الأمر بعيد عن تنفيذ روتيني لعمل منفِّر، يقوم به المرء مضطراً بحكم الوظيفة. لدينا هنا مساحات واسعة من التطوع والحرية، ومن الحب، في عمل الجلادين، وهم لا يكفّون عن الابتكار والإضافة. الأمر بعيد عن الشر المبتذل، مثلما وصفته حنه أرندت: شر خاضع لتراتب بيروقراطي منضبط، يخلو من انفعال شخصي مباشر ومن هامش مبادرة حرة للجلاد. ليس هناك جلاد أصلاً في معسكرات الاعتقال النازية. هناك آلة، فيها عاملون يقومون بدورهم وفق نظام ثابت. لا شيءَ شخصيٌ في وصف بريمو ليفي لتجربته في أوشويتز (كتابه: If This is a Man)، معسكر الاعتقال النازي.If-this-is-a-man

المعتقل هناك عضو في «جيش معتقلين» يعملون جماعياً (وإن كان هناك ضرب من تقسيم العمل حسب مؤهلاتهم) يُجوَّعون جماعياً، ويُقتَلون جماعياً أيضاً. القتل في معسكر الاعتقال النازي «صناعي»، مرتبط بنظام إنتاج معقلن ورأسمالي، ويجري إرسال المعتقلين إلى أفران الغاز، بخاصة حين تنضب طاقتهم على العمل، وهناك قبل ذلك نظرية حول انحطاط اليهود والغجر والمرضى… وحول تفوق العرق الجرماني وألمانيا التي «فوق الجميع»، حسبما كان يقول النشيد الوطني لألمانيا النازية. لكن لا يبدو أن هناك انفعالاً شخصياً قوياً من قبل أفراد القوات النازية حيال المعتقلين. ليفي يتساءل في كتابه: «كيف يمكن لأحد أن يضرب شخصاً دون غضب؟»، ويقول إن الشعور الوحيد الذي تركته أولى اللكمات التي تعرض لها هي «الاندهاش العميق» (ربما نتوقع المهانة، أو الغضب، أو الكراهية). وكتابه يعطي الانطباع بأن التماس الجسدي بين قوات الصاعقة النازية وضحاياهم اليهود (والمجرمين الجنائيين والمعارضين السياسيين) محدودٌ جداً. لويس ألتوسير الذي قضى 3 سنوات في معسكر اعتقال نازي كأسير حرب فرنسي يورد في مذكراته The Future Lasts a Long Time صورةً عن أوضاع أقل وحشية بكثير، لكن تجربته أيضاً تعطي الانطباع بنظام مُعقْلن وغير شخصي.

في المعتقل الأسدي، بالمقابل، لدينا شرٌ مُمارسٌ بشغف، يفسح مجالاً واسعاً لمبادرة الجلاد وإبداعيته، ودوماً مع تماس جسدي مباشر. يمسك مثلاً جلادان معتقلاً مهزولاً من يديه ورجليه، ويؤرجحانه وهما يصرخان بجذل: واحد تنين، واحد تنين… قبل أن يقذفانه عالياً ليسقط على الأرضية الأسمنتية فيُدقُّ عنقه وينكسر ظهره، ويموت خلال دقائق. أو يندفع جلاد مسرعاً، ثم يقفز عالياً قبل أن يحط بقدميه على ظهر سجين منبطح على بطنه في الباحة الإسمنتية ذاتها، فيُقتَل أيضاً خلال دقائق. هاتان مرويِّتان من زميل دراسة من مدينة حماه السورية، قضى 12 عاماً في سجن تدمر. وأورد ما يشبههما من حيث المبادرة والابتكار مصطفى خليفة في روايته عن سجن تدمر القوقعة، وفرج بيرقدار في خيانات اللغة والصمت، وبراء السراج في من تدمر إلى هارفارد.

والوسيط، حين لا يكون التماس الجسدي مباشراً، هو أداة التعذيب.

تعرضتُ شخصياً وقتَ اعتقالي في أواخر عام 1980 لتعذيبٍ غير مميت، اقتضى جهداً عضلياً من الجلاد. كان يعمل ضد الوقت، ويريد الفراغ من مهمته. لم يكن جسدي مباحاً له تماماً، وهامش الإبداعية ظل ضيقاً: أقحمَ خيزرانة رفيعة في أنفي وحرّكها وقت كنت أتصنع الإغماء حتى غرغرتُ بالدم، ودعسَ شريك له بحذائه على فمي كيلا أصرُخ، وهذا بينما كنت محشوراً في الدولاب ويداي مقيدتان تحت ظهري. الباقي هو الجلد على القدمين في بساط الريح والدولاب، أي التعذيب الروتيني، على تناقض هذا التعبير الذي يُضمر أن الجلاد قوة تعذيب آلية فحسب، عليها أن تنتج الناتج المرغوب: اعتراف المجلود، دون انفعال من قبل الجلاد، ودون مساس مُهلِك بتكامل المجلود الجسدي. لا يكون الأمر كذلك أبداً، أعني لا يكون التعذيب روتينياً مجرداً من الانفعال الشخصي، لكن مستوى الروتينية في جلدنا، نحن معتقلي الدولة الأسدية اليساريين، كان أعلى من معدّلها في جلد الإسلاميين.

كان مستوى الإبداعية بالعكس تماماً، أعلى في التعامل مع الإسلاميين. عموماً يبدو أن مساحة الإبداعية تتناسب طرداً مع إباحة أجساد المعتقلين للجلادين، أي مع حرية الجلاد في التعامل مع جسد المعذب، لذلك كانت أوسع في التعامل مع أجساد الإسلاميين. كان الوصول إلى السقف، أعني قتل المعتقل الإسلامي تحت التعذيب، متاحاً وآمناً (بالمقابل، قُتِلَ منا نحن اليساريون تحت التعذيب آحاد).

والخلاصة أن السنّة التدمرية تقوم على الإبداع في التعذيب. فإذا وضعنا في بالنا أن مفهومي السنّة والإبداع نقيضان، وجب أن يُسجَّلَ للأسدية التي لم تبدع في شيء آخر أنها جعلت الإبداع سنّة، وتشكلت هي بالذات في سنّة تعذيب، قد لا تُذكَر في التاريخ بغيرها.

أنظمة القتل

يشترك نظاما القتل الجماعي الأسدي والنازي في نطاقهما الواسع، لكن مستوى العقلنة أكبر بكثير في المعسكرات النازية. هنا ثمة صناعة كبيرة من حيث التنظيم، ومن حيث الإنتاجية، والمنتجون المباشرون فيها، قوات الصاعقة النازية، منفصلون عن أدوات إنتاج الموت، لا يملكونها، على ما يقتضي نمط الإنتاج الرأسمالي. لكنهم ليسوا بروليتاريا تنتج القتل لتعيش، إنهم إداريو صناعة القتل، بالأحرى، الذين يشرفون على تقسيم العمل بين المعتقلين النافعين اقتصادياً، وعلى تنظيم قتل غير النافعين من أطفال ومرضى.

لا تصلح كلمة جلاد لوصف منتج الموت النازي، لأنه عنصر في نظام صناعي للقتل لا يترك له هامش مبادرة تقريباً. أما القتل الأسدي فيمكن اعتباره صناعة من حيث الإنتاجية، أعني عدد المقتولين، لكنه متواضع من حيث التنظيم الداخلي ومستوى العقلنة، ونمط إنتاج الموت فيه من صنف المانيفاكتورات، الإنتاج الحرفي المتدني التنظيم والقائم على تقسيم عمل بسيط. كان تعبير صناعي قد راج في وسائل إعلام غربية (قد تكون الغارديان البريطانية أول من استخدمه وقتها) في وصف القتل الأسدي بعد تقرير سيزار، لكن يبدو لي أن الأمر بحاجة إلى استدراك. يمكن الكلام على صناعة قتل أسدية من وجهين. من حيث إنتاجيتها العالية، ثم من حيث كون هذه الصناعة منظمة بحرص، يشارك في حضور حفلاتها مندوبو أجهزة أمنية متنوعة حسب تقرير منظمة العفو الدولية، ثم من حيث درجة من العقلنة، أعني توثيق القتلى وترقيمهم على ما رأينا في صور تقرير سيزار، وما يحتمل أنه تقديم تقارير حول الإنتاجية إلى جهة عليا.

لكن القتل الأسدي قتل دون صناعي من حيث وسائل إنتاجه: التعذيب والمشنقة. وهذان يقتلان أفراداً، قد يبلغ عددهم خمسين كل دفعة حسب تقرير منظمة العفو، المبني على شهادات معتقلين سابقين وعناصر شرطة عسكرية قضاة منشقين. وحتى إن أضفنا ضحايا الجوع والمرض في المعتقلات الأسدية، يبقى القتل غير مؤتمت، إن جاز التعبير، كما في أفران الغاز النازية. والخلاصة أن نصيب العلم والتكنولوجيا المتطورة في صناعة القتل الأسدية متواضع خلافا لشقيقتها النازية. ومن أجل قتل ست ملايين سوري، يلزمها ثورة تكنولوجية وتجاوز نظام المانيفاكتورة.

ورغم أن ضحايا النازية لم يُقتصروا على من جرى شيّهم في أفران الغاز، بل تشمل كثيرين ماتوا من الجوع والمرض في معسكرات الاعتقال، فإن لنظام العمل والقتل النازيين طابع جماعي، يحد هو الآخر من هامش إبداعية الجلاد. في ما أسميه السجون الباطنة في «سورية الأسد» التعذيبُ جمعي، لكن أسوأه هو ما يطال أفراداً، يجري تعليمهم لسبب ما أو دون سبب، أي إفرادهم عن غيرهم بعقاب لا تسعيرة محددة له. ومرجع الأمر إلى مزاج الجلاد وتفضيله الشخصي. على أن النظام مصمم من فوق بحيث يتيح له هذه المساحة الواسعة من الحرية.

والتواضع التكنولوجي لنمط الموت الأسدي هو سبب اقتضائه للجهد العضلي والتماس الجسدي، وهو ما يشرح هامش الحرية الأوسع لحرفيي الموت الأسديين، إذ يتعذر عليهم إنتاج الحجم المطلوب من الموت دون أن تُباح لهم أجساد المعتقلين ويحوزوا حرية تامة حيالها. ومن هنا أيضاً «التقوى» في عملهم. لطالما كانت التقوى-الإتقان فضيلة عليا لحرفيي بلاد الشام.

ومن هنا، أخيراً، استحقاق حرفيي الموت هؤلاء لصفة الجلاد خلافاً لنظرائهم النازيين.

الجلاد هنا هو صبي الحرفة، لا يملك وسائل إنتاجه، لكنه ليس منفصلاً مثل العامل في المصنع الرأسمالي. والتماهي بـالمعلم (لقب حافظ الأسد، وقادة فروع الأمن، وكذلك لقب قادة الشبيحة) يُسهِّل للصبيان التحمس للقتل إرضاءً له. التنظيم الاجتماعي السياسي لحرفة القتل، وللطائفية دور حاسم فيه، يقنع حرفيي القتل بأن أدوات القتل ونظامه العام، الدولة الأسدية، ملكهم.

والقصد أن الفارق الجوهري بين نمطي القتل الأسدي والنازي يحيل إلى نمطين من إنتاج الموت وتنظيمه الاجتماعي. القتل النازي رأسماليٌ كما سبقت الإشارة، يستنفد قوة العمل لدى المعتقلين قبل أن يشويهم، ويبادر إلى التخلص ممن لا يُستفاد منهم من أطفال ومرضى وعاجزين. صحيحٌ أنه يقتل اليهود لأنهم يهود، لكنه رغم ذلك يستغل القادرين منهم على العمل إلى النهاية، وإن لم يكن يبالي بإعادة إنتاج قوة عملهم. ليفي يشير في كتابه إلى أنه كان ينتمي إلى فئة «اليهود النافعين اقتصادياً» (ص 46)، وهو بقي على قيد الحياة إلى وقت سقوط النازية لأنه كان من هذه الفئة. لو انهار في أي وقت، لو تحول إلى «مُسُلمان» (الكلمة مشتقة من مُسلم على الأرجح، ص101-103) لجرى انتقاؤه وتحويله إلى أفران الغاز.

هناك حدود لعقلانية نظام القتل النازي، تتمثل في اللامبالاة بإعادة إنتاج قوة عمل المعتقلين، وقبل ذلك في عنصرية معاداة السامية. أما نظام القتل الأسدي فمرتبط بالاقتصاد الريعي للسلطنة الأسدية، الذي يقوم على غزو الدولة واستباحة الموارد العامة، أي على أن الدولة هي بئر البترول الذي لا تنضب عوائده، وهوما يتيح للدولة الأسدية أن تستقل عن محكوميها استقلالاً واسعاً مثل كل الدول الريعية، وألا تفكر في السوريين كأفراد ومنتجين، وأن تتخلص من الثائرين منهم، لأنه خطرون ولا يُنتفَع منهم بشيء.

ويبدو أن نمط القتل السوفييتي، كان أشد تمركزاً حول الإنتاج من نظيره النازي، على ما يستدل من A World Apart لليهودي البولوني غوستاف هيرلنغ. وإن يكن المآل الأخير لمن استنزفت قدرتهم على العمل وهدهم الجوع والمرض هو المقبرة، وليس غرف الغاز (غالباً عبر حيز وسيط يقضي فيه المعتقل أيامه أو أسابيعه الأخيرة، ويسمى mortuary، مماتة). إلا أنه أقرب إلى القتل النازي من حيث تشغيل السجناء والاستفادة من «قوة عملهم». سجون الغولاغ السوفييتية (يقول هيرلنغ أن عدد المعتقلين في مطلع أربعينات القرن العشرين يقدر بنحو 20 مليون معتقل) هي معسكرات عمل إجباري أو سخرة، وهو ما يشير إلى مركزية العمل والإنتاج فيها. إلا أن القتل السوفييتي يشبه القتل الأسدي من حيث أنه غير مؤتمت، وأن المعتقلين يموتون فيها بأعداد كبيرة، لكن فرادى. والتقابل الأساسي بين نظامي القتل النازي والسوفييتي والنظام الأسدي هو حلول التعذيب في سجون الأسديين الباطنة محل «الأشغال الشاقة» في سجون ومعسكرات الروس والألمان. تساء معاملة السجناء بشدة عند الأخيرين، وهم جياع غالباً، لكن لا يجري تعذيبهم. السجون الباطنة الأسدية بالمقابل تجمع بين التعذيب والجوع.

التبذير في الحياة البشرية والتصرف بها بحرية مشتركٌ بين أنظمة القتل الثلاثة، لكن النظام الأسدي أكثر شخصيةً وأشد امتلاءً بالكراهية والإذلال.

الكراهية والطائفية

غير الاقتصاد، هناك دور سياسي مهم للرابطة الاجتماعية الإيديولوجية. جلادو الدولة الأسدية هم من حازوا أفضلية معلومة طوال عقود في التماهي بهذه الدولة واعتبروها ملكاً لهم، فصاروا حماتها المتحمّسين. الكلام على التماهي يعني الكلام على الحب، فنحن نتماهى مع من نحب ونُجلّ، ولا يمكن أن نتماهى مع من لا نحب أو نجلّ. من نحب ونجلّ هو مثلنا الأعلى، سندنا وعزوتنا، و«قائدنا إلى الأبد» («الأمين حافظ الأسد»، أو «سيدنا محمد»)، نفعل كل شيء من أجله. نقتل من أجله. التماهي يعني أن ما يريده من نتماهى به هو شيء نستبطنه نحن ونريده شخصياً، أن «مرضاته» هي رضانا أيضاً، نحن المؤمنين به، وأننا نتفانى في خدمته ونضحي بأنفسنا من أجله. وموضوع التماهي شخصي، وهو في الحقبة الأسدية الأولى حافظ الأسد، واليوم بشار (بحكم الموقع والوراثة ربما، وليس بحكم التفضيل). جلادو الدولة الأسدية الأشد ضراوة والأقوى عداءاً لمعارضيها هم الأقوى حباً وإجلالاً لها، وتفانياً في خدمتها بوصفة دولة أسدية، وليس بوصفها «سورية» أو «الوطن» أو «الدولة»… وإن كانت إيديولوجية الأسديين تقوم على استغلال هذا الالتباس لمصلحتهم. هذه مهم من وجهة نظر المسؤولية القانونية: نظام القتل في الحقبة الأسدية مرتبط بالولاء لشخص، على نحو يجعل هذا الشخص مسؤولاً مباشرة عن كل قتل وتعذيب مورس في عهده. حافظ، ثم بشار هما شخصياً الأسوأ في نظاميهما، ومنبع الشر فيهما، ومن حولهما أدوات تنفيذ شريرة، لكن أدنى شراً منهما.

فإذا كان الجلادون الأسديون يفتكون بالمعتقلين بغِلٍّ شخصي، فلأن العلاقة بينهم هي علاقة تنافي، العلاقة بالعدو وما يرتبط بها من انفعالات الكراهية والرغبة بالإذلال والقتل. نصون هويتنا ونظام تماهينا بنفي العدو وإفنائه. وحين يصل التماهي ذروة الالتحام بالمُتماهى به، «الفناء» بلغة الصوفية، يبلغ أيضاً إرادة إفناء من تجمعنا به علاقة تنافٍ: الإبادة. أفق الإبادة تكثفه شعارات من نوع «الأسد أو لا أحد»، «الأسد او نحرق البلد». وهي تكثف الرغبة بقتل الجميع إن كان للأسد، وهو موضع التماهي وسند الهوية، أن يَبيد.

تتميز المعسكرات الأسدية عن النازية والسوفييتية بما يتولد عن الكراهية الشخصية من نازع قوي نحو الإذلال الشخصي. بحدود ما أتيح لي من اطلاع على أحوال معسكرات النازيين والسوفييت، لم يكن هناك اغتصاب إذلالي للسجناء، الرجال والنساء وللأطفال. في السجون الأسدية مرويات الاغتصاب متكررة جداً في سنوات الثورة. ورغبة التوسع في الإذلال تدفع الجلادين إلى إجبار معتقلين على انتهاك بعضهم جنسياً، مثلما ورد في تقرير منظمة العفو. إجبار المعتقلين على صفع بعضهم يحركه أيضاً ما يحرك الاغتصاب من توسع في الإذلال وتحطيم المجتمع. يجب أن يكره المعتقلون أنفسهم وبعضهم.

كمصدر طاقة يغذي تماهيات وتنافيات نشطة، توفر الطائفية مقادير كبيرة من الولاء دون مقابل، أو بمقابل قليل، ومع الولاء استعداد كبير للإذلال والقتل دون عواقب. وهي بهذا المعنى اقتصادية أو قليلة الكلفة سياسياً، ولها مفعول ريعي كمناجم لاستخراج الولاء الرخيص، مثل امتلاك الدولة. الطائفية مضادة لعقلنة السياسة والنظام الاجتماعي بهذا المعنى، على نحو ما هو الريع النفطي مضاد للعقلنة الاجتماعية والسياسية في بلدان البترول.

وما يرتبط بالتماهي من كراهية هو من التجارب الأكثر صدماً للمعتقل وهو بين أيدي الجلادين الأسديين. لسنا هنا بعيدين عن التجرد والروتينية فقط، وإنما نحن متورطون في علاقة عداء شخصي مباشر كأنك اعتديت على هذا الجلاد بالذات، كأنه ينتقم منك رداً على عدوان شخصي بادرت إليه. هذا أيضاً يحيل إلى درجة متقدمة من التماهي بالنظام أو عشقه، تسهل منه علاقات القربى (الدموية أو المتخيلة)، بما يجعل من معارضة الدولة الأسدية عدواناً على مُحبّيها والمتماهين بها. كارهو المعتقلين هم محبو حافظ الأسد وبشار الأسد وأتباعهم الأوفياء. الأسد هو الكاره الأصيل للمعتقلين، وهو صاحب القرار في اعتقالهم وتعذيبهم وإبقائهم في سجونه السنين الطوال، وقتل من يجري قتلهم منهم. كان حافظ شخصياً قد سوغ اعتقال سجين يساري، تمكنت عروسه من الوصول إليه، بالقول: إذا حدا يقلك زيح لأقعد محلك، شو بتعمل؟ (المعتقل أحيل بعد 12 عاماً من اعتقاله إلى محكمة أمن الدولة العليا بدمشق، ونال حكماً بـ15 عاماً، أتمها قبل أن يُخلَى سبيله؛ كانت العروس هجرته قبل سنوات). الجلادون يكرهون المعتقلين لأن الأسد الذي يحبونه يكرههم.

الكراهية أحد أوجه علاقة التنافي، بقدر ما الحب أحد أوجه التماهي. ومن يجري التفظيع بهم هم على نحو خاص هم من المكروه الطائفي، على نحو ما أخذت تُعرِّفه دولة الأسديين، وبخاصة من نازعوها احتكار السلاح، وعملوا على أن «يزاح» حافظ كي «يقعدوا محلّه»: الإسلاميّون. ولذلك أيضاً فإن التعذيب المستمر والقتل يجريان في السجون الباطنة للدولة الأسدية مثل تدمر في زمن الأب وصيدنايا في زمن الإبن، وليس في السجون الظاهرة. السجون الباطنة هي سجون التقابل الطائفي الأشد حدة بين السجناء والسجانين، بينما السجون الظاهرة مثل عدرا والمسلمية في حلب، وصيدنايا نفسه في زمن الأب، فهي السجون السورية العامة التي لا يكاد يختلف تركيب سجنائها عن تركيب سجانيها المختلط، وفيها قضى معظم سنواتهم معتقلو النظام غير الإسلاميين، ومنهم كاتب هذه السطور. السجون الظاهرة هذه تقابل الدولة الظاهرة التي تعرض وجهاً عاماً، عابراً للجماعات الأهلية.

السجن الباطن هو معسكر اعتقال وتعذيب على كل حال، وليس سجناً بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. ونزلاؤه مغيبون قسرياً، وليسوا سجناء. وقد يقضي الواحد منهم سنوات تصل إلى عشرين عاماً ولا يعرف أهله عنه شيئاً، وقد لا يعرفون أنه مات إلا بعد سنوات طويلة عن طريق أحد الناجين من المعسكر.

أفتحُ قوساً هنا للقول إن تقريراً لهيومان رايتس ووتش (مرصد حقوق الإنسان) صدرَ في أواخر عام 2011 يتكلم على إعادة استخدام سجن تدمر، وعلى أن عدد المعتقلين فيه نحو 2500. هنا ثمة فجوة في المعلومات، فلا نعلم ماذا كان نظام سجن تدمر عند إعادة استخدامه، وهل كانت تجري فيه عمليات إعدام، ومتى أُخلي قبل الاستيلاء الأول لداعش على المدينة. أُغلقُ القوس.

عبر ثنائية السجون الظاهرة والسجون الباطنة تنسخ الدولة الأسدية بنيتها الأساسية، أعني التمايز بين دولة ظاهرة ودولة باطنة، على نحو ما كنتُ ناقشتُه بشيء من التفصيل في «السلطان الحديث». الباطن والظاهر يتأسسان هنا أصلاً، في التلاحم الأمني الطائفي المحجوب وراء الدولة العامة الظاهرة.

المُركّب الطائفي-العنصري

فإذا وضعنا في البال أن الطائفية تتحرك على مستوى الدولة الباطنة ورموزها غير المعلنة وخطابها غير العام الذي يعتمد الإيماءات غير المباشرة والتلميحات غير الصريحة، ساعدنا ذلك على فهم اقترانها بأشد العنف والموت والوحشية في مثل سجن تدمر أيام الأب وصيدنايا أيام الابن. وساعدنا أكثر على فهم تقدم القدرات الإبادية للدولة الأسدية بين الزمنين الأسديين.

بيد أننا محتاجون أولاً إلى وقفة أمام مفهوم الطائفية. يبدو لي أن المفهوم، وفي سياق المسارات المتشعبة للثورة السورية، لم يعد وافياً بمطلب الإحاطة بجملة الوقائع والعلاقات والعمليات التي لا نزال ندرجها تحته منذ ثمانينات القرن العشرين. فإن من حيث دلالته اللغوية التي تحيل إلى الجزء من الشيء أو القطعة منه، أو إلى العدد المحدود (بين واحد وألف حسب «لسان العرب»، والإسلاميون يستندون حصراً إلى الدلالة اللغوية للمفهوم لنفي صفة الطائفة عن المسلمين السنيين)، أو من حيث الدلالة الاصطلاحية المعاصرة لمفهوم الطائفة والطوائف، وهي تحيل إلى الجماعات الدينية والمذهبية في مجتمع معين منظوراً إليها كجزء من هذا المجتمع، يتفوق ارتباطها المشترك بها على الفروقات فيما بينها، أو حتى من حيث التصورات النظرية الأكثر تركيباً التي تكشف وساطة الدولة والسياسة في تشكل الطوائف من وراء التمايزات الدينية المذهبية، بحيث نرى أن الطائفية في الدولة والسياسة هي ما تؤدي إلى تشكل الطوائف خلافاً للانطباع الشائع (تناولت هذه القضية في مقالة قديمة: صناعة الطوائف: الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية، شباط، 2007). في كل صوره يبدو المفهوم غير كافٍ اليوم. الأمر لا يقتصر على الربط بين تمايزات أهلية اعتباطية وبين وقائع الامتياز الاجتماعي والسيطرة السياسية على نحو يُصلّب الفوارق بين الجماعات فيصنع منها طوائف، بل يتعداه إلى تأسيس نظام تراتبي من التمييز والاستحقاق، يرفع البعض فوق غيرهم درجات على نحو يسهل أمر إبادة منخفضي الدرجات، مع تطوير هذا النظام عقائد وثقافة تسوغ التفاوت الجوهري. مفهوم الطائفية أضعف من أن يستوعب هذا الميل المتنامي، ويبدو لي أن مفهوم العنصرية أصلحُ لاستيعاب هذا التطور. لمدرك العنصرية ميزة مهمة، تتصل بما يتضمنه من اتجاه إلى الفصل بين العناصر ومن تراتب، فيندرج فيه بهذا المعنى بعد «طبقي» (لكن أوثق صلة بالمكانة والاعتبار منه بالدخل والقدرات المادية)، يضاف إلى بعد الاختلاف الأهلي، وبعد ثقافي نفسي، يجوهر أو «يعنصر» المراتب الناشئة ويرفع حواجز بين عالمين. «سورية الأسد» أنجزت خلال جيلين تحول الطائفية من «نعرات» موروثة من الماضي إلى آلية أساسية من آليات عمل السلطة العامة وإعادة إنتاجها، إلى نظام تمييز عنصري. وهذا مسار قطعناه عبر حربين كبيرتين باهظتي الكلفة، خرجنا بمحصلتهما من الصراع السياسي إلى الحرب، ومن الحرب إلى الإبادة. الإبادة مكتوبة في العنصرية.

خلال جيلين من الحكم الأسدي تطورت الطائفية باتجاه العنصرية باقتران مع واقعتين: توريث السلطة، وما تضمنه من تأسيس سلالة ملوكية أرستقراطية، ثم التحول الاقتصادي في عهد بشار، على نحو أغنى الأقرب إلى مراكز السلطة وأفقر وهمّش من لا تتوفر لهم شبكات محسوبية فاعلة، وهذا في بلد تدهور مستوى القضاء والإدارة فيه على نحو مطرد خلال أربعين عاماً. جوهر التحول في زمن بشار هو استيلاء محظيي الدولة الأسدية على الاقتصاد الوطني والموارد العامة، وتحول سورية إلى حكم الأثرياء. وتحققت قفزة في التقدم نحو العنصرية أثناء سنوات الثورة بفعل انخراط آلة السلطة العامة التي يديرها أثرياء في ممارسات إبادية واسعة النطاق. أثناء ذلك استطاع بشار الأسد أن يتكلم على تحسن في النسيج الاجتماعي بعد قتل مئات الألوف وتهجير الملايين من محكوميه، وذهب محفوفاً ببعض أزلام نظامه إلى داريا التي هجر سكانها عن بكرة أبيهم، فيما لا يمكن فهمه إلا كاحتفالٍ بالنصر. وتحقق العنصرية تقدماً أكبر إلى الأمام تحت دخان «الحرب ضد الإرهاب»، ومداعبة ما ينطوي عليه مفهوم الإرهاب المعاصر من كوامن إسلاموفوبية، تنقل علاقات التماهي والتنافي من النطاق المحلي السوري إلى نطاق دولي أوسع. عبر الحرب ضد الإرهاب والسكوت على الممارسات الإبادية طوال ست سنوات، كان النظام الدولي سنداً للتحول العنصري في سورية، وسأعود إلى هذه النقطة.

ما قد يثير التحفظ في مفهوم العنصرية هو أن الأمر لا يتعلق بعناصر، ببيض وسود وصفر وسمر، أو ببيض و«ملونين»… الفوارق بينهم ظاهرة. لكن عدا ما أشير إليه للتو من «عنصرة» فوراق غير ظاهرة، يجري تثبيتها بالثقافة وحراسة ثباتها بالقوة، وبعناصر تماه ظاهرة تستثمر الجسد البشري كحامل أساسي للرموز، وبخاصة أجساد النساء، فإن العنصرية المعاصرة في كل مكان تنزاح من مجال «العرق» واللون والإثنية إلى مجال الثقافة والدين وأنماط الحياة.

وعلى كل حال، أفضّل استخدام تعبير المركب الطائفي-العنصري للدلالة على الشكل الخاص من العنصرية المتولد عن شحن التمييز الطائفي بتراتب اجتماعي وامتياز سياسي ثقافي، أو للدلالة على تطور هذا الطائفية في اتجاهات أكثر تصلباً وأقرب للتمييز العنصري. ينفتح مفهوم الطائفي-العنصري على تاريخية تحولات النظام الطائفي، وعلى تاريخية مفهوم الطائفية ذاته في سياق ما يقترب من نصف قرن من الدولة الأسدية. ومن وجه آخر يشير المفهوم إلى تحول مرغوب في دراسة ظواهر مماثلة لهذه التي نتناولها هنا من مجال نظرية الدولة الوطنية والتنظيم السياسي القائم على الاندماج والتجانس، والنزّاع إلى كبت التفكير في الطائفية والمشكلات السياسية المرتبطة بالتمايزات الثقافية، إلى مجال النظرية الاجتماعية والتفكير في حركات التحرر والانعتاق الاجتماعي ومقاومة التمييز. لقد أمسى الإطار النظري التقليدي للتفكير في الطائفية عائقاً على مستوى المعرفة، ومصدراً للغش والتكاذب في النقاش السياسي، وعقبة كؤوداً أمام أي عمل سياسي تحرري. مفهوم الطائفي-العنصري يمكن له بالمقابل أن يحفز على نقلة في تفكيرنا الاجتماعي والسياسي، كما يحرض على الثورة ضد الامتيازات الاجتماعية والسياسية. المطلوب والحيوي جداً هو الثورة ضد العنصرية وتمزيق أقنعتها، وليس المضي إلى ما لا نهاية في تبادل الاتهامات بالطائفية والتبرؤ منها.

وقبل هذا وذاك، يوفر المفهوم شرحاً للتدمرة الشاملة وما حققته الأسدية من تقدم في مجال الإبادة. في عهد حافظ يمكن التكلم على إبادة على نطاق محدود، في سجن تدمر وفي حماة 1982. الإبادة هي القاعدة العامة في عهد بشار، وهي ما تسوغ الكلام على التدمرة. في الزمن الطائفي للأب كان الضحايا بعشرات الألوف، أما في زمن المركب الطائفي-العنصري للابن، فالضحايا بمئات الألوف. وسوف يكونون بالملايين إذا لم تطو صفحة الدولة الأسدية وتيسر لها أن تتطور نحو نظام للتمييز العنصري المحض، على ما تقتضي نزعاتها التمييزية الأصيلة، وما يبدو أنه تدفع إليه البيئة الدولية الراهنة.

في إطار هذا الاستعداد الطائفي-العنصري، تحوز السلفية الجهادية ميزة تكيّف تفاضلية، من حيث أن ميلها الطبيعي يتمثل في رفع الفوارق العقدية إلى مرتبة أجناس اجتماعية أو الطائفة إلى عنصر، وإن جرى توسل مفهوم الأمة كاسم لطائفة السلفيين (والإسلاميين، ودوماً مع مصادرة تمثيل الإسلاميين للمسلمين دون إشكال). أبيض السلفية وأسودها هما مسلمها ولا مسلمها، مع ولاء مسلمها وبرائه الذي يُضيِّق نطاق الإسلام الصحيح إلى أقصى حد، ويوجب كراهية غير المسلمين الصحيحين وجميع غيرهم. هذه الأهلية الذاتية العريقة تلقي بعض ضوء على انتشار السلفية الجهادية في البيئة السورية اليوم، وهي كانت تشهد منذ ما قبل الثورة بسنوات التحول التدريجي نحو المركب الطائفي-العنصري. منهج السلفية التكفيري لا يعترف بتمايزات أهلية، ولا يرضى بأقل من من فوارق عنصرية، وهو الأقدر تالياً على التكيف النشط مع شروط البيئة الطائفية-العنصرية الجديدة. في خطاب الأسديين حضرت السلفية كاسم لآخر عدوٍ غريب منذ بداية الثورة، وفي خطاب السلفيين تحضر النصيرية دائماً كاسم لآخر عدو غريب أيضاً. في الحالين هناك عَنصرة مُحرّضة سياسياً لقطاعات مهمة من السكان، على نحو يسوّغ الإبادة.

وبنظرة عامة إلى تاريخ الطائفية وتحولاتها، نرى أنه في حقبة حافظ الأسد تمثل التقابل الطائفي في النظام والإخوان المسلمين. يعتمد النظام في إغلاق المجال السياسي وإعادة إنتاج ذاته على أجهزة أمنية وعسكرية مطيفة على نطاق واسع، ويواجهه إسلاميون سنيون سوريون، الإخوان، يعارضون النظام المغلق طائفياً ويواجهونه بالقوة. أما في عهد بشار فإن التقابل الطائفي العنصري يجمع بين بشار وأجهزته والطبقة المثرية الجديدة وبين السلفيين. ومثلما استعانت الأرستقراطية الحاكمة على دأب سلالات ملوكية في التاريخ بالأجنبي كي تحمي العرش، فإن التكوين الأممي للسلفية الجهادية والمجاهدة يضعها في موقع النقيض الأنسب. الإخوان المسلمون ليسوا مؤهلين ليكونوا هذا النقيض بحكم تكوينهم السوري وبنيتهم السياسية أو التي تجمع بين الديني والسياسي، وقد وضعتهم في موقع المعارضة السياسية للنظام، لا في موقع المجاهدين (وإن كان يبدو أن الحدود أقل وضوحاً، وأن مجموعات مجاهدة هي أقرب إلى الإخوان)، ولا بطبيعة الحال في صفوف المعارضة الداجنة الأقرب إلى النظام. ليس هناك عنصر سياسي في تكون السلفيين بالمقابل، وهي ميزة إيجابية في مواجهة نظام لا سياسي جذرياً مثل دولة الأسديين.

بعبارة أخرى، الإخوان طائفيون، سياستهم تقوم على توحيد السنيين، واستثمار الطائفة السنية الموحدة كقاعدة اجتماعية لهم، يخوضون بها الصراع على السلطة. طائفية الإخوان تضعفهم ولا تقويهم في شروط تعنصر الطائفية أو التحول من من الطائفية إلى الطائفية-العنصرية. وهذا لأن الطائفية لا تستبعد السياسة استبعاداً جوهرياً مثل العنصرية، وهو ما يحد من طاقات الطائفيين على الإبادة. وبالفعل يمكن نسبة واقعة إبادة وحيدة إلى الإسلاميين في سنوات حكم حافظ هي مذبحة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979. وهناك منذ ذلك الوقت نقاش حول درجة من التمايز بين الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين التي ارتكبت المجزرة وبين الإخوان، وهو تمايز سار إلى الامحاء بفعل توسع النظام في قمع للإسلاميين كلهم. أما السلفيون فهم عنصريون، يعنصرون السنيين، أو يعملون على أن يصنعوا منهم شعباً سنياً إن جاز التعبير، صافياً. وهذا برنامج ينطوي على طاقة إبادة أكبر بكثير: إبادة غير السنيين بقدر المستطاع، وإبادة السنيين الممتنعين على الصفاء.

والخلاصة، أن التحول الطائفي-العنصري عنوان أساسي في التاريخ (وللتأريخ) السياسي والسياسي الديني في سورية خلال نصف القرن الأخير.

الإبادة

الإبادة تجد نفسها في موطنها الطبيعي في عالم الماهيات والعناصر، المركب الطائفي العنصري.

لا يقتضي الأمر قتل جميع أفراد جماعة أو «عنصر» معين حتى نتكلم على إبادة. يحيل تقرير منظمة العفو الدولية إلى نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، فيعرف الإبادة بأنها «تعمد فرض أحوال معيشية، من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء، بقصد إهلاك جزء من السكان». هذا محقق في معتقلات مثل تدمر وصيدنايا، يعزل فيها المعتقلون عن العالم، فلا يزارون ولا يعرف مصيرهم من أسرهم، ويبدو هذا العزل أشد إحكاماً في زمن بشار من زمن أبيه، حيث أمكن لبعض الأسر الثرية أن تشتري رؤية معتقليها بالمال الكثير. لكن الشرط الإبادي محقق على نطاق أوسع بكثير في المناطق المحاصرة والمجوّعة من البلد، مثل مضايا ومخيم اليرموك، والغوطة الغربية والشرقية، وحلب الشرقية قبل إعادة احتلالها من قبل النظام وأسياده. حصار مناطق وتجويعها جديد على قلة ما هو جديد في «سورية الأسد». كان حافظ الأسد «ينهي المهمة» بسرعة، فيقتل عشرات الألوف في أسابيع قليلة، مثلما فعل في حماة قبل 35 عاماً. وهذا ما يأخذه على بشار مزايدون فاشيون على النظام، ومنهم جميل حسن، أحد كبار قتلة النظام، في مقابلة أجراها معه روبرت فسك، الصحفي البريطاني الذي رافق قوات النظام وهي ترتكب مجزرة داريا 2012، ونشرت في المنبر الديمقراطي العريق: الإندبندت!

لكن نعلم أن الأمر لا يقتصر على «فرض أحوال معيشية… بقصد إهلاك جزء من السكان»، ولا على صناعة قتل في صيدنايا والمقرات الأمنية والمشافي، مما غطى تقرير منظمة العفو الدولية جانباً مُهمّاً منه، وأنه حتى القتل في السجون، تعذيباً أو إعداماً أو تجويعاً، والقتل جوعاً ومرضاً تحت وطأة الحصار، هما نسبة محدودة من صناعة موت متسعة، مارستها الدولة الأسدية في مواجهة السوريين الثائرين منذ البداية، واستخدمت فيها الآلة الحربية التي يفترض أنها بنيت خلال عقود لحماية البلد. ونعلم أن سلاح الطيران والصواريخ بعيد المدى والسلاح الكيماوي قد استخدمت في هذه الحرب الاختيارية. نعلم أيضاً أنه كان هناك عنصر تمييزي قوي في سياسة النظام الإبادية، وأن ضحاياها هم على نحو مخصوص من المسلمين السنيين. الإبادة هي هذا المزيج من القتل المتعدد الوسائل ومن النزعة العنصرية.

تقرير منظمة العفو لا يشير، ولا يُنتظَر منه أن يشير، إلى العلاقة بين الإبادة والعنصرية، وإن كان يلمح في موقع منه إلى الصفة الطائفية لمن يدخلون إلى قاعة الإعدام. كلما اقتربنا من قلب السلطة ومصنعها السري، ظهر التمييز أكثر. الدولة الأسدية مصفاة، لا يصل إلى مركز دائرتها غير المؤمنين الموثوقين.

ولعلّي أكرر باستذكار شعارات: الأسد أو لا أحد! الأسد أونحرق البلد! الأسد أو بلاها هالبلد! وكذلك: الجوع أو الركوع! لكن الغرض هذه المرة إظهار البنية المشتركة لهذه الشعارات: كل شيء أو لا شيء! أو: نحن أو العدم!

الغرض أيضاً هو القول إن هذه البنية لا سياسية جوهرياً. وفي اعتقادي أن سحب السياسة من المجتمع أو الإفقار السياسي للمجتمع هو ما اقتضى الطائفية من قبل نظام حافظ الأسد كسند موثوق لسحب السياسة، وهو أيضاً ما دفع قطاعات واسعة من السوريين إلى التماس السياسة المحرمة عبر «الشريعة» و«الكنيسة» ومعادِلاتهما، أي طائفياً أيضاً. ومشفوعاً بالإفقار الاقتصادي في عهد بشار، سيفضي الإفقار السياسي المستمر إلى عنصرة الطائفية، وإلى الإبادة. القتل الفردي والجماعي ليسا عارضين هذه البنية النازعة للسياسة، على ما ينبغي أن يكون صار واضحاً الآن. فإذا كانت المشكلة في كيان الثائرين على البنية والعاملين على امتلاك السياسة (والدولة الأسدية لا تكف عن قول ذلك)، فالصحيح هو التخلص منهم من أجل سلامة «النسيج الوطني». إنه مبدأ الإبادة النازي نفسه، مُمارساً على مستوى الدولة الباطنة، على ما تقتضي بنية الدولة الأسدية، دون نظريات علمية منحولة (لكن الإيديولوجية الحداثية تقوم بدور مماثل لنظريات العنصرية النازية: بشار نفسه عرف الإرهاب بأنه «تفكير مريض ومبدأ منحرف وممارسة شاذة»، وأرجعه إلى «بيئات» يعمّها «الجهل والتخلف»)، ودون خطاب عام معلن (النظام ينتحل خطاب «محاربة الإرهاب» الدولي، وهو خطاب يقرن على نحو يزداد جوهرية الإرهابَ بالإسلام).

إسلاموفوبيا

تنظر هذه الفقرة الختامية في ما يحتمل أن يكون سهّلَ، على المستوى الدولي، نظام القتل الجماعي الأسدي أو ضمن له الحصانة، رغم الإحاطة الكافية بوقائعه من قبل المنظمات الدولية والقوى النافذة ووسائل الإعلام الكبرى.

النقطة الأساسية في هذا الشأن هي، في تصوري، الإسلاموفوبيا الصاعدة في الغرب ودولياً منذ تسعينات القرن العشرين. تنتمي الإسلاموفوبيا إلى عالم معاداة السامية التي كانت خفضت من قيمة حياة اليهود، فجعلت إبادتهم أمراً هيّناً على مبيديهم النازيين. وهي مثل معاداة السامية تقلل من الحساسية حيال ما يصيب المسلمين، وترفع بشدة عتبة التعاطف معهم. الإبادة الأسدية كانت أمراً هيناً في الغرب (وبالتالي في المؤسسات الدولية، وفي العالم) طوال ست سنوات بفعل الأثر العنصري الفعال للإسلاموفوبيا. ومن غير المحتمل لتقرير منظمة العفو الدولية عن مسلخ صيدنايا البشري أن يترك أثراً لهذا السبب ذاته، الذي كان أيضاً قد جرد تقرير سيزار من قبل من الأثر، وقبلهما معاً المجزرة الكيماوية.

ليست الإسلاموفوبيا ظاهرة نفور من المسلمين في بلدان الغرب وحدها، تتسبب بإزعاجات لهم وإعاقة التعاطف معهم حين يتعرضون للتمييز هناك؛ إنها ظاهرة نفورٍ من المسلمين في مواطنهم أيضاً، يتنضد فيها التمييز القانوني والسياسي، والعدوان العسكري أحياناً، فوق طبقة مظلمة أعمق من النفور الثقافي، وتضعف فرضهم في التفتح المساواة.

مثل معاداة السامية ومثل التمييز العنصري ضد السود، ليست الإسلاموفويبا مجرد ظاهرة من ظواهر السياسة والصراع السياسي مثل صراع المستعمرين السابقين مع حركات التحرر الوطني العالمثالثية، ولا هي كذلك من ظواهر الإيديولوجية والنزاع الإيديولوجي مثلما كانت معاداة الشيوعية في الغرب. يمكن لها أن تأخذ هذين المظهرين، فتسوّغ نفسها بوقائع سياسية (جرائم إرهابية متنوعة مارسها إسلاميون، مشهورة ومشهدية؛ تقابلها من جهتنا وقائع السيطرة الأميركية والغربية الثقيلة والمتنوعة)، أو بخطابات عدوانية يطلقها إسلاميون متنوعون (وهناك الكثير منها). لكن الإسلاموفوبيا تعطي عمقاً ماهوياً، وعنصرياً، غير عقلاني وغير علماني، لوقائع لا يمكن التقدم في معالجتها إن لم ينظر إليها كوقائع سياسية واجتماعية دنيوية. يجري على هذا النحو نقل توترات وصراعات إنسانية تعقدت بفضل ممارسات القوى الغربية القوية والغنية والنافذة عالمياً إلى عالم إنسانيتين مختلفتين، متعاديتين جوهرياً. ولها بهذا مفعول مماثل للتمييز الطائفي المديد المقترن بامتيازات اجتماعية وسياسية وتنظيرات ثقافية وممارسات إبادية من حيث جوهرة أو عنصرة فوارق اجتماعية وثقافية وسياسية، تاريخية ونسبية ومتحولة، ورفعها إلى مرتبة فوارق ثابتة مطلقة.

وفي الإسلاموفوبيا أيضاً تراتبٌ يضع المسلمين في مرتبة أدنى من التطور ومن القيمة، على نحو يوازي تطور الطائفية في سورية الأسد باتجاه تراتبي عنصري، يخفض من شأن فقراء المسلمين السنيين أكثر من غيرهم، ويشد من أزر هذا التطور. يجري تجنيد العلمانية والتنوير، والحداثة، في معركة دينية سياسية، وفرت سنداً عالمياً لتجنيد مماثل في «سورية الأسد» منذ ثمانينات القرن العشرين.

وللإسلاموفوبيا عمق تاريخي سابق لانتهاء الحرب الباردة، يتمثل في صورة بالغة السلبية للمسلم والعربي في الإعلام والفنون، وخاصة السينما الأميركية. وتمد هذه الصورة جذروها بدورها في الاستشراق. ولعل إطلاق صفة «مسلمان» على المعتقلين المُحطّمين في معسكرت الاعتقال النازية، أولئك «الصامتين» «المنخورين» الذين «ماتت الجذوة الإلهية فيهم»، و«لم تعد لهم أية قصة»، بتعابير بريمو ليفي، وقد انتهوا كلهم إلى حجرات الغاز، أقول: لعل ذلك يحيل إلى سُنّةٍ استشراقيةٍ كانت لا تملُّ من القول إن مدرك إسلام مُستمد من الاستسلام، فصار ذلك «اللاإنسان» (ليفي) الذي استسلم نهائياً لشروط الاعتقال وتخلى عن كل مقاومة هو «المسلمان». وهو يموت خلال شهور بعد وصوله إلى هذه الحالة على قول ليفي، الناجي من آوشفيتز.

لقد مدد الاستشراق في عمر القرون الوسطى الأوروبية بأن أقصاها نحو الخارج، «الشرق»، إلى حيث عالم المحسوس الذي يمثل اختلافاً لا خطر منه عن عالم «الأمم المتخيلة» الذي كان يشتغل بكامل طاقته في أوروبا منتجاً الأمم الأوروبية الحديثة.

عبر هذه الجنيالوجيا، تعيدنا الإسلاموفوبيا إلى الماضي، صوب القرون الوسطى. قبل أسابيع فقط كانت ماري لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية العنصري المتطرف في فرنسا، المعادي للمهاجرين والمسلمين بخاصة، تتكلم في لبنان على أن حماية المسيحيين والأقليات توجب «إبادة العدو» (هذا تعبيرها فعلاً)، داعش، حسب آي بي سي نيوز. ليس فقط يجري تصوير أن الخطر الذي يتعرض له المسيحيون والأقليات يأتي حصراً من جهة الأكثرية الإسلامية التي لا تحضر إلا بوصفها ممثلة بداعش، وليس فقط ينصب تنظيم يميني عنصري أوروبي نفسه حامياً للأقليات في إقليمنا، وإنما كذلك لا يقال شيء عن حقيقة أن هذه الأكثرية المزعومة التي تبدو مصدر أخطار فقط تعرضت للتحطيم أكثر من غيرها. السياسية اليمينية المتطرفة مساندة، بالمناسبة، لبشار الأسد (زيارتها للبنان جاءت بُعيد صدور تقرير منظمة العفو الدولية، «المسلخ البشري»، عن سجن صيدنايا). وليس هناك سبب للشك في أن مساندتها له مرتبطة بالتطور الطائفي العنصري لنظامه، وتسويقه للفكرة الرائجة في أوساط اليمين الغربي من أن الخطر على الأقليات يأتي من الأكثرية المسلمة العدوانية، وأن نظامه حام لتلك الأقليات المهددة. بعبارة أخرى، تسوق الدولة الأسدية نفسها كاستمرار للاستعمار الأوروبي المباشر الذي كان سوّغ نفسه في زمن «المسألة الشرقية» بحماية الأقليات من الخطر الإسلامي نفسه، وهو يحظى بالدعم في الغرب لهذا السبب بالذات.

ألسنا أقرب إلى العصور الوسطى حين تعاد صراعات الأديان والطوائف لتكون مستقبلنا، حين يجري تعميم عالمي للشرق الأوسط، وهو أصلاً مخلوق للقوى الاستعمارية الغربية، ليصير أيضاً مستقبل العالم؟ في عالم ترمب وبوتين وبشار الأسد ونتنياهو… نحن في عالم من العناصر والجواهر، عالم القرون الوسطى.

عالم الطائفية-العنصرية.

الإسلاموفوبيا أحد أوجه تدهور العلاقات الدولية في اتجاهات أقل تجريداً وأقل «خيالية»، وأكثر حسيّة وهوياتية، على نحو يبدو أن صعود سياسات الهوية وتيارات اليمين القومي في الغرب يؤكده. وهي، مع الصراعات السياسية الدينية في منطقتنا من العالم، ومع «الإرهاب الإسلامي» وجوه مسألة عالمية كبرى، المسألة الإسلامية.

وما أريد ترتيبه على ما تقدم هو أن الدولة الأسدية في بنيتها التمييزية الجوهرية، وقد تطورت في اتجاه عنصري إبادي أثناء الثورة السورية، تشكل نسخة مطابقة لبنية دولية تطورت باتجاهات أكثر تمييزية ضد المسلمين في ربع القرن الأخير بعد أن كانت من قبل تمييزية أصلاً. هذه نقطة أساسية تفسر في تقديري ما نالته دولة الأسديين من رعاية تمييزية في سنوات الثورة/ الإبادة. هناك بنية أعمق تجد نفسها أقرب إلى الدولة الأسدية مهما أجرمت ضد محكوميها، لأن هذه البنية بالذات تطورت في اتجاه المركب الطائفي العنصري خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فإذا كان المسلمون يشغلون اليوم مواقع سبق أن شغلها السود واليهود في بلدان الغرب، فإن «سورية الأسد» توفر بنية مماثلة. لا وجه عادلاً للوم المؤسسات السياسية الغربية مباشرة على مذابح الأسديين، لكن نحتاج إلى إظهار الارتكاز البنيوي للدولة الأسدية على هياكل تراتبية دولية توفر لها الحصانة بينما هي تتوسع في مذابحها. بينما كانت الدولة لأسدية وأسيادها يهجون أهالي الوعر المحاصر منذ ثلاث سنوات، كان الطيران الروسي يقتل عشرات السوريين في مذبحة، والطيران الأميركي يقتل عشرات آخرين في مذبحة أخرى. العنصرية مكون جوهري للبنية الجامعة للثلاثة. والإسلاموفوبيا و«حماية الأقليات» هما الوجهان الأبرز لهذه العنصرية.

الدولة الأسدية لا تحظى بالدعم من مراكز النفوذ الدولية المعاصر رغم أنها عنصرية، بل بالضبط لأنها عنصرية. وفضلاً عن العنصرية، يقرب خطاب «الحرب على الإرهاب» ومدرك «الإرهاب الإسلامي» بين الثلاثة.

ولم تكن النزعة الحداثية (مزيج من الليبرالية والعلمانية وأنماط حياة الطبقة الوسطى الغربية) التي صعدت في الثقافة السورية في صورة إيديولوجية ثقافوية علمانية منذ تسعينات القرن العشرين بعيدة عن تقدم العنصرية في سورية، أو انتقال التمايزات الأهلية الموروثة إلى امتيازات اجتماعية وتراتبات حضارية. أعمال جورج طرابيشي وأدونيس أسهمت في رأيي في التنظير للتمييز، وخففت من حساسية سوريين كثيرين حياله.

وبنظرة عريضة، يبدو أن الموجة الراهنة من العنصرية، الإسلاموفوبيا، تسجل فشل الحداثة السياسية والحقوقية على المستوى العالمي، مثلما سجل تقدم التمييز العنصري في سورية فشل الحداثة السياسة والحقوقية في بلدنا. العالم الذي تتراجع ممارسات وأفكار المساواة والنقاش الحر والثقة والديموقراطية في تكوينه يشكل سنداً لنظام تمييز عنصري فتي وصاعد في مملكة الأسديين. وليس إلا التماثل البنيوي بين الدولة الأسدية وقوى السيطرة الدولية المعاصرة هو ما يمنح الحصانة للإبادة الأسدية.

فلنقل بوضوح وإيجاز، إن النظام الدولي الراهن كان سنداً للإبادة والعنصرية في سورية. وأن ما يُحتمَل أن تتمخض عنه مفاوضات جنيف هو، عبر إبقاء بشار الأسد وسلالته، إضفاء الشرعية على تحول نظام للتمييز الطائفي إلى نظام للتمييز العنصري، وهذا بعد أن عمّد نفسه بالدم طوال ست سنوات، وأظهر قدرة مميزة على التطور في اتجاه إسرائيلي حيال فلسطينييه الخاصين. في مجالنا السياسي الثقافي، تحظى الدول بقبول من المؤسسات الغربية أكبر كلما كانت قوية حيال محكوميها وضعيفة حيال تلك المؤسسات الغربية، أي بقدر ما تنسخ بنية العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية. وبالمناسبة، ليست مشكلة المؤسسات الغربية تجاه الزعيم التركي أردوغان اليوم، آذار 2017، أنه قوى في مواجهة محكوميه، على ما يعطي الانطباع الخطاب الغربي الذي يتكلم على القمع والتسلطية في تركية (والقمع والتسلطية في نموٍ فعلاً في تركية اليوم)، بل بالضبط أنه قوي حيال القوى الغربية وأكثر استقلالية مما ألِفَت من حكام منطقتنا.

الإسلاموفوبيا هي أيضاً البيئة السياسية الفكرية النفسية الأنسب للإسلاميين من أجل رفع الحواجز في وجه العالم وفرض التجانس الداخلي في مجتمعاتنا. ولديهم الكفاية من المبادئ الدينية التي تجعل منهم الدين الوحيد الصحيح، الأرفع من غيره، و«الأشرف» من غيره، والمباح له ما لا يباح لغيره. المركب الطائفي-العنصري يقع في صلب تطور الإسلامية المعاصرة.

وبنظرة عريضة أيضاً، نميل إلى أن صعود السلفية في سورية وفي مجالنا، وهي الإيديولوجية الإسلامية الأقوى طائفية-عنصرية، متوافق مع البيئة الجديدة في مجالنا من العالم، وفي العالم. فإذ يرتفع الطلب على رفع الأسوار وتصيلب الفروقات ومعاكسة ميول الاختلاط والتهجين، وتسويغ الإبادات المحتملة، فإن السلفية مؤهلةٌ لتلبية الطلب أكثر من غيرها من الإيديولوجيات الإسلامية الأخرى. وهذه قد تقتدي بها، أو «تتسلّف» على نحو كان لاحظه قبل نحو عشر سنوات المرحوم حسام تمام بخصوص الإخوان المسلمين المصريين.

تقابلُ الطائفيات-العنصريات هذا نذيرٌ بمذبحة عالمية كبيرة جديدة، قد لا يكون ما يجري في سورية غير فصلٍ تمهيديٍ فيها.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى