صفحات الناس

السِّلم الأهلي السوري بلا بوصلة

 

بشار عبود

كلما اقتربتُ من فهم المعارضين السوريين لنظام بشار الأسد، ينتابني شعور غريب بأننا لا نعرف بلدنا على حقيقته. وكلما حضرت لقاءً أو اجتماعاً، أيقنت أننا لا ندرك حجم الأمراض المستحكمة بسوريا وعمقها. والأخطر من ذلك، أن حبّ معارضينا لبلدهم، حال، وما زال يحول، بينهم وبين فهم واضح وجلي لمستقبل هذا البلد.

  في مؤتمر السلم الأهلي الذي عقده الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في إسطنبول بالتزامن مع ذكرى 17 نيسان (عيد الجلاء) الغالية على قلوب السوريين جميعاً، ذهبنا للاحتفاظ بالأمل… أمل البناء والتعايش السلمي وإعمار القلوب لمكوّنات المجتمع، قبل إعادة إعمار الأبنية المدمّرة والبنى التحتية للبلد.

 لم يكن ــ في ذهني على الأقل ــ أنني سأحضر مؤتمراً عادياً، خصوصاً أن هذه الفكرة التي تظلّل المؤتمر، هي من وجهة نظري من أعقد المشكلات وأهم المعضلات التي ستواجهنا جميعاً بعد سقوط المستبد الممسك بزمام البلد، رغم دخول الثورة عامها الثالث. إذ أن تمريرات العصابة الحاكمة لفيديوهات طائفية ممنهجة بدقة، وتركز في مضمونها على خلخلة النسيج المجتمعي، يحتاج فعلاً إلى مثل هذه المؤتمرات ليعمل أبناء المجتمع السوري على ردم هوّة حفرها النظام بين أبناء بلد يتميز بتركيبة سكانية متعددة المذاهب والاتجاهات.

 لمستُ في المؤتمر أننا جميعاً لا نريد أن نعترف بحالتنا الوطنية المَرَضية، ولا نريد حتى الحديث عن الفجوات العميقة والمتجذّرة التي اشتغل عليها الأسد الأب، ومن بعده الابن، طيلة العقود الأربعة الماضية، وترسخت خصوصاً خلال الثورة الراهنة.

ذهبنا لنفتح نافذة تمرر نسيماً إلى صالون الوحدة السورية، منطلقين من أن عدوّنا واحد، مثلما هو شعبنا واحد. ذهبنا لنقول إن الحرب الأهلية لا مكان لها في بلدنا، وأنها كابوس سنعمل جميعاً على الخروج منه. ذهبنا لنتفق على أن النظام هو من يقودنا جميعاً إلى حيث لا نريد، وأننا تعلّمنا من جارنا لبنان كارثة الحرب الأهلية. ذهبنا كي لا نشمّ رائحة الخيبة قبل مشاهدتها. فكّرنا بأن المستبد هو المشكلة الوحيدة، وقلنا كفى آلاماً، البلد يجب أن يلتقط أنفاسه غداة إزاحة الزعيم البائد الذي زوّر كل شيء وألغى كل شيء وجوّف كل شيء وفرّغ كل شيء وقتلنا وحوّلنا إلى دمى.

 لا شك في أن بشار الأسد، ومن قبله والده، ألحقا ببلدنا أضراراً فادحة تحتاج معالجتها إلى عقود وجهود مضنية، لكنها ليست كالجهود التي رأيناها في مؤتمر السلم الأهلي في اسطنبول. فهذه الجهود لا تعمّر ولا تقود إلى سلم أهلي، وإن افترضنا فيها حسن النية. بل هي جهود من النوع الذي يعرقل المسيرة.

والأسئلة تطرح نفسها بإلحاح: هل ستكفي صناديق الاقتراع للانتقال إلى نظام مدني تعدّدي ديموقراطي، إن لم يكن بين السوريين اتفاقاً وطنياً جامعاً؟ هل سينجح المجلس الذي انتخبه من لون سياسي واحدن في صياغة سلم أهلي في بلد متعدد الطوائف والإثنيات؟ هل الشعور بالنصر وامتلاك المال والقوة كفاية لإنجاب بلد معافى أو لخطوة في درب صحي؟

 ما لم يُمثّل جميع السوريين في مجلس السلم الأهلي، فإن القوى التي تمكنت من عقد مثل هذا المؤتمر، وقادت إلى فوز جماعة واحدة من السوريين، ما يشير إلى افتقاد الخبرة وضحالة الرؤية، فكيف لنا أن نثق بها لإدارة شؤون الدولة والمجتمع السوري المليء بالتناقضات والأزمات؟ يقودنا هذا إلى أن تلك القوى توقعت وليمة فسارعت إلى الانقضاض عليها.

 تجارب بلدان شهدت ربيعها العربي، أكدت شرعيتها في صناديق الاقتراع، لكن هل شرعيتها كاملة بالمعنى المجتمعي والوطني؟ وما الذي يفسر القرارات المرتبكة والمتسرعة في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن؟ وما الذي يفسّر سهولة اتهام القيادات، التي تسلمت الحكم في تلك الدول، وتوافق الجماهير على تلك الاتهامات؟

 يحتاج منظمو مؤتمر السلم الأهلي، أو من يقف خلف انعقاده، إلى مراجعة. يجب الاعتراف بأن سوريا تحتاج إلى توافقات واسعة بين الأطراف كافة، بدل الاتكاء على مفهوم حزبي أقل ما يقال عنه أنه ضيق الأفق. فالوطن هشّ، لا يحتمل مثل هذه المغامرة. ومن الأَولى، وطنياً وسياسياً، ألا تنتصروا بدعم الآخرين. يجب أن تتنازلوا عن قوة لمساعدة الشركاء الضعفاء.

  الألم كبير لدى الجميع. وفي أزمة، كالتي نعيشها، وفي بلد متعدد التركيب مثل سوريا، لا حل إلا بتقاسم الأطراف للألم، والوصول بالعدالة الاجتماعية إلى حدودها الممكنة، ولو كانت مشوّهة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى