صفحات الثقافة

السّيف أكذب إنباء!

 


خيري منصور

لأن سمعة الكلام في عالمنا العربي سيئة والناس، وليس الشعراء فقط، يقولون ما لا يفعلون فقد حظي بيت شعر لأبي تمام عن معركة عمورية بهذه الشهرة، بحيث أصبح حجة من يشكون في جدوى الكلام!.

والسيف ليس اصدق انباء من الكتب كلّها، فهو يكذب ايضا، لأن ما من سيف واحد ومطلق، شأن كل سلاح يصلح لأن يدافع عن الحق والباطل، والسيف الذي شهره ريتشارد ليس بالطبع سيف الأيوبي، كما ان سيوف اشهر المعارك في تاريخنا الاسلامي كانت موزعة بين كفار ومؤمنين، ولعله من الطريف أن يشك في صدق السيف امبراطور مثل نابليون بونابرت، الذي كان السيف وما الى جانبه من سلاح صاحب الفضل في كل ما انجز من امبراطوريته، رغم انه انتهى في جزيرة سانت هيلانة، وسيفه قابع في غمده! وكان بونابرت قد اعطى الكلمة حقها مقابل السيف، لأنها ذات نفوذ مضاعف، لكن العرب الذين تعاقبت عليهم الهزائم وضعفت منهم العزائم أحبوا ما قاله ابو تمام عن صدق السيوف وكذب الكتب، وما كان لتلك الموعظة ان تتحول الى موروث وهي ‘ اذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب’، لولا الشك العميق في جدوى الكلام، وكأنه نقيض الفعل او بديله، هذا على الرغم من ان الكلام لم يكن دائما على هذا النحو من المجانية والمنع من الصرف، فثمة كلمات قليلة اودت بمن جازفوا بها قديما وحديثا، لو اتعظوا بما أوصاهم به الأسلاف الصامتون لانتهى الامر الى مصير آخر.

لا قيمة للسيف او اي سلاح آخر حتى لو كان نوويا اذا كان أعمى، وبلا فكرة او هدف يشحنه وبالتالي يحدد له البوصلة، خصوصا وأن هناك من انتحروا بأسلحتهم او أغمدوا سيوفهم في صدورهم، سواء كانوا عربا او يابانيين او من اي شعب آخر في العالم، فالساموراي ليس سوى أحد تجليات هذا الاستخدام المضاد للسيف، وأذكر ان الكاتب تولستوي روى حكاية طريفة عن طفولته، قال فيها انه كان مع عدد من رفاقه في زمن الصبا يتحدثون عن الموت، الذي كان مترعا بالغموض والأشباح بالنسبة إليهم، ثم أخذ أحدهم يقصّ على الصبيان حكاية فارس قوقازي احاطه الاعداء من كل الجهات، فلم يجد امامه الا ان يغمد سيفه في صدره وهو يغني … عندئذ سأل احد الصغار لماذا يغني المرء وهو يموت؟

كان تولستوي قد أورد تلك الحادثة من صباه وهو يتحدث عن ضرورة الفن وجدواه، فجعله مرادفا للحياة، بل الحياة ذاتها وقد تقطرت كالرحيق في لحظات الافتراق!

* * * * * * *

في كتابه ‘ ما قبل الدولة’ يقول الانثروبولوجي بيار كلاستر ان نفوذ الكلام ليس نابعا من منطقه الداخلي بل من مصدر هذا الكلام ويستشهد بما كان يسمعه من شيوخ القبائل البدائية فما يصدر عنهم قد يكون عديم المعنى لكنه يتحول الى ايقونات بالنسبة إلى مرؤوسيهم، ولو شئنا الذهاب الى ما هو أبعد لوجدنا ان معظم الاقوال والحكم المأثورة في التاريخ تستمد قيمتها ونفوذها من قائليها، لو جاءت بلا تواقيع من هؤلاء لربما أهملت وتم تجاوزها، وهذا ما دفع الناقد الانكليزي د. ريتشاردز الى اجراء تجربة ميدانية في هذا السياق، فأورد لعدد من نخبة تلاميذه نصوصا ومقولات بلا تواقيع، ثم اكتشف ان معظم الردود كانت لغير صالح تلك النصوص والمقولات. فالطالب او اي كائن آخر يكون حرّا وغير مرتهن للاسماء حين يبدي رأيه في نصوص او كتابة ما، لكن ما إن تنسب هذه الاقوال الى اسم ذي شهرة ونفوذ حتى يتبدل الأمر …

ولعل ابا تمام في قوله ‘ السيف اصدق إنباء من الكتب’ لم يشمل بطل تلك الحرب التي كتبت عنها القصيدة وهي معركة عمورية، فالمعتصم اخر جيشه بالكلام اولا، كما ان الاستغاثة به ومناداته بـ ‘ وامعتصماه’ تمت من خلال الكلام لا السيف، لأن السيف أخرس حتى لو كان ثرثارا على طريقته في إراقة الدم.

واذا كان الكثير من الكتب يكذب فإن الكثير من السيوف تفعل ذلك ايضا، وهناك طرفة تروى عن عربي ذهب الى الحداد ليوصيه بصناعة سيف طوله متران كي يتقدم به الصفوف لمواجهة الاعداء، وحين احضر الحداد السيف كان طوله اقل من مترين بقليل مما دفع هذا الدونكيشوت الى رفض تسلمه. عندئذ غضب الحداد منه وقال له: ‘ انت جبان، ولو كنت فارسا لتقدمت بسيف قصير خطوة واحدة كي يستطيل ويصبح عدة امتار وليس مترين فقط!’. والمسألة اخيرا ليست في فض الاشتباك او الارتباط بين السيف والكلمة اي الفعل والكلام، لأنهما ليسا نقيضين الا في حالة واحدة، عندما تكون هناك مقايضة بين الفاعل والمفعول به، بحيث يقول الفاعل لضحيته: ‘ قل ما تشاء ودعني أفعل ما أشاء!’.

* * * * * * *

الاستخفاف بالكلام، والتهوين من نفوذه غالبا ما يأتي نتيجة لتراكم الصمت القسري وكظم الغيظ، بحيث يكون التهرب من هذا السلاح الأشد فتكا من اي سلاح هو سبيل من فقد الحول والقوة، واراد اعفاء نفسه من عبء الشهادة والمساءلة، فالكلام كان الأسبق من السيف في ثورات كوبرنيكية غيّرت مسارات العالم، ولولاه لما حدثت تلك الثورات، لأن الشقاء والبؤس وحدهما كما قال روسو لا يخلقان العصيان والتمرد بل الوعي بهذا الشقاء هو ما يحدث ذلك، والوعي يتطلب بالضرورة تعبيرا عنه هو الكلام سواء كان شفاهيا او مدوّنا، ورغم ان تاريخنا العربي الاسلامي يعجّ بالامثلة حول جدوى الكلام بل باعتباره حلا حاسما الا ان عهود العسف والاصمات القسري والطغيان حوّلت الكلام الى قصدير وليس فضة كما تقول الحكمة المأثورة مثلما حوّل الصمت الى ماسٍ لأنه سبيل للنجاة ..

ولو بقي بلال بن رباح يؤذّن في الجرّة بحيث لا يسمع صدى صوته سواه لكان الكلام مجرد شكل آخر للصمت، لكن الجهر بالصوت يعني اولا وقبل كل شيء آخر ترجمة النوايا الى كلمات، والافكار الى اصوات مسموعة.

* * * * * * * *

حين كتب عبد الله القصيمي ذلك البدوي الجارح والخارج من الاسراب كلّها عن العرب باعتبارهم ظاهرة صوتية، لم يكن يقصد الكلام بما يعنيه بل كان يرصد بسخريته اللاذعة اعلاما عربيا افرغ الكلام من حمولة المعنى، وحوّله الى طبول بعد ان جوّفه تماما. وحقيقة الأمر ان العرب في الزمن الذي قال فيه القصيمي ذلك كانوا ظاهرة صَمْتِيّة وليس صوتية، لأن هناك من كان ينوب عنهم في الكلام والاحلام والخيال ولا يترك لهم فعلا يمارسونه بالأصالة لا بالإنابة الا الموت!

وقد يمضي زمن طويل قبل ان يستعيد الكلام نفوذه، ويكون الاحتكام فيه لمنطقه الداخلي وسحره الخاص وليس لمن يصدر عنهم هذا الكلام، فنحن حتى الان نتعامل مع التواقيع على المكتوب او المروي، وهذا هو بالتحديد ما يعنيه اهل المنطق بالمصادرة، ولو اتيح لأي اكاديمي او مثقف عربي ان يكرر تجربة ريتشاردز فإن المفاجأة ستكون صادمة، بحيث يكون حذف التوقيع او مصدر الكلام هو المعادل الموضوعي لحذف القيمة من نصوص عارية وبلا نسب!!

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى