صفحات الثقافة

الشاعرة السورية أميرة أبو الحسن تكتب الخوف


صلاح حسن

يخاف الإنسان من أشياء كثيرة في الحياة تصيبه بالقلق الدائم وتقض مضجعه ولا يستكين إلا بعد إن يطمن احتياجات هذا القلق، غير إن الشيء الوحيد المخيف والذي لا يمكن تطمينه هو الموت الذي ينتظر كل الكائنات الحية بما فيها الإنسان، أعلى الكائنات وجوداً. وإذا كان الناس العاديون يقلقون كعادتهم فإن الشاعر القلق أصلاً يتحول هذا القلق لديه إلى مرض يومي لا تخمد اشتعالاته المهدئات ولا الوصفات العقلانية أو نصائح الطبيب النفسي.

يقلق الإنسان أو يبدأ القلق الدائم عنده حينما يصل إلى مرحلة متوسط العمر ويدفعه هذا القلق الذي ينهش بأظافر مسنونة إلى ارتكاب أخطاء جسيمة ولا نقول حماقات لأن هذه الأخطاء لا يمكن إصلاحها بوصفها قرارات نهائية لا يمكن الرجوع عنها في أي حال من الأحوال. هذه القرارات المصيرية غالباً ما ترتبط بالحياة الاجتماعية والعاطفية وغالباً ما تكون نتائجها وخيمة ومأسوية وتجر إلى ويلات لا تنتهي. المبدع والفنان والشاعر على وجه الخصوص هو أكثر ضحايا هذه المرحلة التي تتسم بالاضطراب والتخبط وفقدان الاستقرار، ما يدفعه إلى خيارات نهائية لا تقل مأسوية عن فعل الانتحار.

في ديوان الشاعرة السورية أميرة أبو الحسن «رجل أضاع النوم في سريري» الصادر عن دار الغاوون 2011 نجد الكثير من هذه العناوين التي تتحدث عن مشكلة متوسط العمر وما تجره من ويلات بسبب التخلي عن المحبوب القديم والبحث عن حبيب جديد قد يجدد الأيام الماضية ويعيد الشباب والحيوية المفقودة للرجل / المرأة. يبدأ الديوان بنصوص سردية هي اقرب إلى البوح منها إلى أي شيء آخر، بلغة هادئة ذات إيقاع منساب وبطيء لا يكاد يسمع، تسترجع فيه الشاعرة حياتها المتوهجة التي مضت بسرعة وذلك الرجل المعبود الذي تخلى عنها بعد إن تسلل الملل إلى جسديهما وروحيهما بمرور الوقت ووصولهما إلى المنطقة التي لا يعبرها عابر من دون جراح.

«أحياناً أرسل إليك رسالة بيضاء اختصاراً للوقت / وأحياناً اختصاراً للوقت أيضاً / أرسل إليك وردة منكسة الرأس لأخبرك إني حزينة / ترى : هل أصبح الوقت خوفنا الكبير ؟ / يخيفني النسيان أكثر «. تتحدث الشاعرة هنا عن الخوف الكبير وعن النسيان الذي يخيفها أكثر «الوقت» الذي يأتي في موعده دائماً ولا يتوقف أو ينتظر، لكنه يرسل إشاراته التي لا تقبل التأويل حيث يبدأ العد التنازلي ومعه يبدأ القلق والبحث عن خيارات سريعة ستكون، نتيجة لهذا القلق خيارات اقل ما يقال عنها إنها مدمرة ومأسوية ولا يمكن التراجع عنها كالقفز من الحافة إلى الهاوية.

«لم يكن القفز من الحافة صعباً / لا أذكر سوى وهج الشمس ووجعي / يتلقفني الشوك فأفتح عيني / أرى كل النساء اللواتي سبقنني / أجسادهن .. تلك التي كانت تشع بقلق سري / جرحتها رؤوس الصخور المدببة / جميعنا نرتدي تراباً أحمر / يلد أشواكاً رقيقة / نجلس صامتات نحدق إلى الأعلى / في رؤوسنا فكرة واحدة / جحيمنا هذا .. أجمل «. ابتداء من هذه القصيدة « الجحيم لم يكن في الهاوية « ينقلب السرد بجمله الطويلة الراكدة وإيقاعه الباهت ولغته الوديعة ويتحول إلى ضربات وصور وحركات قوية كمن يتنفس بسرعة ويضيق نفسه وتزداد دقات قلبه فجأة.

نحن نعتقد إن الديوان كان ينبغي إن يبدأ من هنا، من هذه القصيدة التي ستليها قصائد أخرى بالجودة نفسها من حيث البناء واللغة وتعدد المضامين لأن الشاعرة في هذه النصوص التي تلي هذه القصيدة لا تذهب مباشرة إلى موضوعها الذي خاض فيه الكثيرون، بل تقتطع تفصيلاً صغيراً وتعمل عليه يوحي بالفكرة ويدور حولها ويشير إليها تلميحاً لا تصريحاً، ما يولد لدى القارئ حراكاً للمشاركة في كتابة النص أو المساهمة في وضع نهاية له على الأقل، وبذلك يكون الشاعر قد حقق ما يريد من كتابة نصه، سجن القارئ في عملية الكتابة وتحريره من خلالها أيضاً.

هناك نصوص قصيرة في الديوان يصل عددها إلى ثلاثين نصاً تتناول الفكرة نفسها التي تحدثنا عنها في البداية فيها تكثيف شديد وتقشف لغوي وضربات قوية تعبر عن الفكرة بطريقة أفضل بكثير من نصوص الديوان الأولى لأنها تحدث صدمة لا يمكن إن يحدثها السرد والإيقاع البطيء «من قلب مكسور إلى قلب مكسور تعال .. لنتألم معاً» أو «تعبت وأنا أدل الرجال إلى بيتي / ما من واحد منهم / عرف الطريق بقلبه».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى