صفحات الثقافة

الشاعر السوري يفضل ثورة “المسارح”

أدونيس.. الأنا المتعالية ودماء السوريين

أحمد الشريقي

لم يفاجئ الشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس) أحدا في موقفه الأخير تجاه الثورة في المدن السورية وقراها على نظامها الاستبدادي، إلا أولئك الواهمين بأن الشاعر الذي تجاوز عتبة الثمانين حرّكته مشاهد الدم المسفوح، لكنه خذل أبناء شعبه في ثورتهم لنيل الحرية، ورفض ثورة تخرج من الجوامع، حسب قوله.

في موقفه الأخير سواء في زاويته بصحيفة الحياة أو في مقابلته في برنامج تلفزيوني، لا يغادر أدونيس مقولاته السابقة من ضرورة إجراء القطيعة التامة بين الدين والسياسة كشرط للنهوض وبناء الدولة الحديثة.

وحتى ذلك الوقت فإن الشاعر يربط انحيازه لحركة الشارع بخروج الجماهير من الساحات العامة والكنائس، ولا ضير لو كانت من المسارح أيضا، لكن خروجها من المساجد -برأيه- أدلجة للدين الذي لا يرفضه بوصفه رصيدا روحيا، فهو أيضا حاجة كيانية يجب ان تحترم، لكنه ضد استغلاله سياسيا وتحويله إلى أداة في الصراع الاجتماعي السياسي.

وإذا كان صاحب “الثابت والمتحول” يرفض الأيدولوجيا ومن ضمنها أدلجة الدين ومعها أيضا ما يسمى الإسلام المعتدل، فإن خطابه ينطوي على أيدولوجيا تنفي الاستناد إلى الدين كمرجعية في التغيير، معلنا موقفه “لا أستطيع مثلا أن أقبل إطلاقا أن أنضم إلى تظاهرة سياسية تخرج من الجامع، لكن لا أستطيع بالمقابل أن أقبل أن تقابل هذه التظاهرة بالعنف والقتل”. وإذ يبدو الموقف متوازنا من رفض العنف في الحالين، فإنه من طرف خفي يضع الجلاد والضحية، والمطالب بالحرية ومُصادرها في سلة واحدة.

فزاعة النظام

وبينما يرى صاحب “مفرد بصيغة الجمع” أن الذين حكموا البلدان العربية ويحكمونها منذ أكثر من نصف قرن، لم يتركوا وراءهم إلا التفككَ والتراجع والانهيار، لا يدعو في المقابل إلى قطيعة مع تلك الأنظمة، بل يقدم خطابا مراوغا بين ثناياه رؤية تصالحية مع النظام، مستخدما نفس “الفزاعة” التي يتستر النظام بالقمع تحت مظلتها، وهي الخشية من اندلاع حرب أهلية، ملوحا بالنموذج العراقي بعد الاحتلال، إضافة إلى أنه لا يشير إلى الفارق بين تغيير يستند إلى الداخل كما في حال سوريا، وآخر يستند إلى الاستبداد الخارجي والاستعمار الجديد.

يقول أدونيس إن “لدى العرب تجربة في العراق أثبتت أن مجرّد الخلاص مما هو قائم: من الأحكام العرفية المهينة، وثقافاتها الرقابية الأمنية الأكثر إهانة، ومن السلطة الفاسدة ومؤسساتها وأصحابها، ليس كافياً”.

ويتابع “لا يتم تغيير المجتمع بمجرد تغيير حكامه. قد ينجح هذا التغيير في إحلال حكام أقل تعفناً أو أكثر ذكاءً، لكنه لا يحل المشكلات الأساسية التي تنتج الفساد والتخلف”. والوصفة التي يقدمها هنا أنه “لا بد في تغيير المجتمع من الذهاب إلى ما هو أبعد من تغيير الحكام، وأعني تغيير الأسس الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية”.

لكن صاحب “الثابت والمتحول” لا يقول لنا كيف يمكن بناء المجتمع الحديث بدون تغيير الحكام ومنظوماتهم الفاسدة، فضلا عن أن الخطاب نفسه يحمل استخفافا بالشعوب نفسها التي ترفع شعاراتها في الحرية كمطلب أساسي لا يتحقق النهوض المنشود دونه.

يحدد أدونيس رؤيته لما يجب، من وجهة نظره ضمن تشخيصه لواقع الثورات العربية، في أمرين: الأول “ضرورة القطيعة الكاملة، نظراً وممارسة، مع منطق الحِلف الظاهر الفعّال بين الدين والسياسة، (وبينهما المال). أما الثاني فهو ضرورة التوكيد، جهراً، على بناء المجتمع العربي المدني، والدولة المدنية”.

تغيير مسرحي

ويعتبر هذا الشاعر -الطامح المزمن لجائزة نوبل- أن تغيير الأنظمة الراهنة يجب أن يترافق في ترابطٍ عضوي مع التغيير، مدنياً، على نحو جذريّ وشامل. “دون ذلك فإن هناك مخاطرة في ألا يكون تغيير الأنظمة إلا نوعا من التغيير المَسْرَحي – الشكلي”.

أما وصفة أدونيس للخروج بسوريا إلى آفاق الديمقراطية فهو إلغاء المادة الثامنة في الدستور السوري وهي “حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قائد للمجتمع والدولة” التي تشكل أساس الوباء في الحياة السورية الراهنة، وكذلك إنشاء قانون يسمح بتأسيس الأحزاب، والدعوة إلى انتخاب تشريعي حر، يؤسس لعهد جديد في سوريا، تتنافس فيه القوى الاجتماعية السياسية، كلها من دون استثناء، في مناخ ديمقراطي يتمّ فيه تداول السلطة سلمياً ووفقاً للمعايير القانونية.

يقدم أدونيس الوصفة دون أن يقول شيئا عن دموية النظام، وما إذا كان هذا النظام قادرا على أن ينقلب على نفسه ويغير أسلوبه الدموي الذي انتهجه طوال العقود الماضية، ليصبح مؤهلا لأن يكون إنسانيا وديمقراطيا.

لا تبدو مقولات صاحب “أغاني مهيار الدمشقي” جديدة ولا مفارقة لمشروعه الفكري، و-ربما- الشعري أيضا الذي رأى فيه الناقد السعودي عبد الله الغذامي نموذجا بعض سماته أنه نخبوي وغير شعبي، ومنفصل عن الواقع ومتعال عليه، وهو بالمجمل يعتمد على إحلال فحل محلّ فحل، سلطة محلّ سلطة، علاوة على أنه خطابٌ الأنا فيه هي المركز.

الأنا المتعالية

ومن أناه المتعالية لم ير أدونيس في الشاعر اللبناني الراحل خليل حاوي الذي انتحر احتجاجا على التخاذل العربي لدى اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982، شاعرا غيورا منه، وفي محمود درويش صاحبَ خطاب تصالحي مع الأنظمة العربية، وأنه وارث لبعض شعره، وفي الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي صاحبَ شعر ضحل، وغيرهم كثير ممن طالتهم سهام أدونيس.

أبعد من ذلك يرى الغذامي أن النموذج الاجتماعي السياسي الذي يقدمه أدونيس نموذج فحولي وذاتي مطلق وقطعي، وبما أنه كذلك فإن الفحولية بالضرورة نافية للآخر، فكل ثورة غير ثورته ليست بثورة، وكل بيئة غير بيئته ستوصف بأنها مهترئة متعفنة، والكل متخلفون، والجماهير العربية جاهلة، ولذا فإن قيمته في تعاليه كما يحدد هو ويقرر أنه فوق الشعب، متعاليا بذلك على الناس الموصوفين عنده بالجهل والتخلف، ليظل هو في عليائه وتفرده.

 

بعد ذلك كله يبقى السؤال مطروحا عما إذا كان النظام الدموي ومعه الشاعر الفحل -وهما وجهان لعملة واحدة- مؤهليْن وقادرين على حمل سوريا وشعبها إلى آفاق الحرية والتقدم!؟

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى