صفحات الحوار

الشاعر ياسر خنجر… أنا فلسطيني الظروف والجغرافيا سوريّ التاريخ والهوى وممنوعٌ من سوريتي بشكل قسري

 

 

 

يارا بدر

بيروت ـ «القدس العربي»: ياسر خنجر شاعرٌ سوريٌّ شاب، وُلد عام (1977) في الجولان السوري المُحتّل، قرية «مجدل شمس». محكومٌ بقدر النضال ضدّ الاحتلال، اعتقل في سجونه طوال سبع سنوات (1997-2004)، كتب خلالها مجموعتين شعريتين، هما «طائر الحريّة» التي صدرت عن دار «الفارابي» في بيروت- 2003، و»سؤال على حافة القيامة» التي صدرت عام 2008 عن مركز «فاتح المدرس للفنون والثقافة في الجولان».

ياسر خنجر عضوٌ مؤسّس في المركز، إلى جانب التحاقه بجامعة القدس لدراسة موضوع «لغات وحضارات الشرق الأوسط القديم». عام 2013، عن دار «راية» في حيفا الفلسطينية أصدر خنجر ديوانه الثالث «السحابة بظهرها المحني».

الزمن في حياة خنجر مُكثّف الحضور، ثقيل حيناً، فيّاض بالإمكانيّات حيناً آخر، زمن يبّسه الاعتقال وبرودة الزنزانة، اختناق الرفاق في زنازين أخرى، وهو زمنٌ يرّج الأرض بحلم تغيّر الخرائط والتعريفات. في قصيدته المعنونة «سُلّم مُكسّر الدرجات» يقول خنجر:

(لا يأبَهُ الوَقتُ لرَغبَتِكَ الدَفينَةِ في حطامِ الروحِ،/ لا، لا يأبَهُ الوَقتُ لأدراجٍ مُكَسّرةٍ،/ فقَد دَرَّبتُهُ أن يَصعَدَ القلبَ طواعيّةً/ إلى ما يَشتَهي مِن هاجِسِ المَعنى/ سَجيّتُهُ لهاثٌ غارِقٌ في الغَيبِ/ يا سيّدَ الحربِ/ فهَل تقرأ؟).

حول تجربته السياسيّة والشعريّة المحكومة براهنيّة اللحظة التاريخيّة كان لـ»القدس العربي» هذا اللقاء معه:

■ ياسر خنجر، السوري القادم من مجدل شمس.. كيف ترى هويتك الشخصيّة في ظل التعقيدات الجيوسياسية التي ولدت ونشأت خلالها؟

□ الهوية كانت دائماً مسألة معقدة بالنسبة لي، إذ وُلدت وأعيش في الجولان الذي تحتله إسرائيل، حيث تهاجمني اللغة العبرية كيفما نظرت وهي ليست لغتي، فهل أنا جزء من هذه الهوية؟

بالنسبة لي إسرائيل دولة احتلال ولا يمكن أن تكون وطناً، خاصة عندما كنت أتابع أحداث «انتفاضة الحجارة» أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، في لحظة ما أواسط عام 1996 قرّرت ومجموعة من رفاقي تنظيم أنفسنا كمجموعة سرّية للكفاح ضدّ الاحتلال ومؤسساته بشكل عام، وضدّ وجوده في الجولان السوري بشكل خاص، فاعتقلنا على إثرها وأمضيت في سجون الاحتلال 7 سنوات ونصف السنة.

هنا بدأ التعقيد في سؤال الهوية يزداد عمقاً، فقد اكتشفت فلسطين التي فيّ أو ربما صرت فلسطين التي التقيتها في رفاق السجن. وها أنا فلسطيني الظروف والجغرافيا، سوريّ التاريخ والهوى ممنوع من سوريتي بشكل قسري، وتحتلني إسرائيل التي نجحت في بعض محاولاتها من زرع وتعزيز النزعة الطائفية كشكلٍ من أشكال الهوية. كان لا بدّ لي من السؤال: من أنا إذن؟ والإجابة الوحيدة الممكنة بالنسبة لي: أنتَ مَن تريد أن تكون. فنفضت عنّي كل هويَة لا تنحاز للإنسان في كل الظروف. الهوية ليست سؤالاً في الجغرافيا أو السياسية بقدر ما هي سؤال يصيب الضمير في التعريف الذاتي. وهويتي صراع دائم من أجل الحرية وانحيازٌ كامل لكل مظلوم في وجه كل ظلم.

■ كثير من الفنانين والمثقفين، خاصة الممثلين رفعوا عالياً شعار (ليس من واجب الممثل أو الفنان اتخاذ موقف سياسي)، في حين نحى شعراء وكتّاب آخرون إلى اصطفافٍ سياسي مُعيّن في خنادق الساحة السورية منذ آذار/مارس 2011، لماذا برأيك؟

□ الهوية الفنون جميعها ما لم يشغلها قلق على الإنسان وأسئلة تقارب قضاياه، ما لم تكن فعل تفريغ مُمنهج لأسئلة الوجود المصيريّة التي تشغله في سيره إلى الغد الذي يرغب فهي مجرد استهلاك في أفضل حالاتها. بالنسبة لي، لا أعتقد أنه اصطفاف سياسي بقدر ما هو انحيازٌ إنساني أخلاقي. فليس من الضروري أن يتخذ الفنان أو المثقف موقفاً سياسياً بالمعنى المباشر، ولكنه ما لم يتخذ موقفاً أخلاقياً ينحاز فيه إلى الإنسان فإنّه يتحوّل إلى شريك في المجزرة. إنّ كلّ مساواة ما بين القاتل والقتيل أو الوقوف على الحياد بينهما هو جريمة ترتكب باسم شعارات مستهلكة من قبيل فصل الفنون والثقافة عن القضايا الإنسانية الوجودية، وما تشهده سوريا ليس فيلماً أو مشاهد من مسرحية تراجيدية، تحتمل أن يقف الناس محايدين حيالها، إنّ أكثر من مئتي ألف إنسان فقدوا حياتهم، ومئات آلاف المغيبين والمعتقلين، ملايين النازحين، قرى وبلدات ومدن لم تعد مؤهلة للعيش، أطفال يتّموا بلا مدارس بلا غذاء أو مأوى، ما تشهده سوريا لا يحتمل الحياد.

يحاول الكثيرون تجريد الثورة السورية من روحها الحقيقية وتصويرها على أنها صراع بين قوتين سياستين، نظاماً ومعارضة، في تجاهل مقيت للقضية الرئيسية التي تطرحها الثورة ألا وهي الحق في الحرية واختيار الغد الأفضل. السوريون يُقتلون بأبشع الطرق يُعذّبون لمواقفهم وآرائهم، ويواصلون المضّي عبر درب الآلام إلى صُبحٍ جديد، وكلُّ ثقافة لا تصرخ رفضاً للظلم والقتل هي شريكةٌ في الظلم والقتل.

■ السجن عالم التفاصيل، والشعر عالم الصور والتراكيب، يقابل هذا حربّاً تلغي التفاصيل الصغيرة وتفتح عالماً واسعاً لخرابٍ كبير ومأساة إنسانيّة وصفت وفق منظمة الأمم المتحدّة بانها أسوأ كارثة إنسانيّة منذ الحرب العالميّة الثانية، كيف توازن بين هذه العوالم في بُنيّة قصيدتك؟ ُوكيف تتغيّر مفرداتك؟

□ الهويةربما علينا أن نسأل هنا عن الغاية من الشعر، فما الذي تبحث عنه القصيدة وما قيمة الحرف فيها؟ فالشعر ليس غاية بحد ذاته، إنه وسيلة نبوح من خلالها بما يتركه الواقع فينا من آثر، أمّا الحريّة فهي غاية قصوى.

إنّ الثمن الذي يدفعه السوريون في سبيل الوصول إلى الحرية باهظٌ جداً ويفوق التصورات في شدّة بشاعته، ومع هذا يتجاوزون مأساتهم ويواصلون المضي إلى ما يجعل الحياة ممكنة في واقع حر. الشعر في هذا السياق محكومٌ بمدى قربه من هموم الناس ومن القضية الإنسانية، كلما ابتعد عنها كلما قلّ الرهان عليه واضمحلت قدرته على الحضور. ومثلما على الشعر وكل فنّ أن يحتفي بالحرية في التأسيس لحضوره، علينا أن نكون أوفياء لكلّ الذين بذلوا حياتهم في التأسيس لصبح الحرية كحدٍ أدنى للتأكيد على جدارتنا بها.

القصيدة والفنون بغالبيتها تحفظ التفاصيل التي تحاول آلة القتل والدمار إلغاءها، وبما أنّ الشعر انعكاس للحظة تجد طريقها إلى اللغة، فتصير القصيدة بمثابة التأريخ الحسي واللفظي لهذا الواقع، فإنّ الشعر مُلزم بمجاراة الواقع الذي انتصر عليه وسبقه إلى خيار الوضوح. ومن هنا فإنّ اللغة في الفنون لا تكون مفصولة عن غايتها، وفي واقعنا السوري كان على القصيدة أن تكون مواربة، مُحمّلة بالكثير من الرمزية في مرحلة ما قبل الثورة تماماً كما كانت حياة الناس مليئة بالترميز، أمّا وقد نفض السوريون عن حياتهم هذا في اختيارهم للمواجهة، فإنّ التغييّر فرض حضوره في لغة القصيدة ومفرداتها، خاصة التحرّر من كل الغموض الذي توارثته في المرحلة السابقة.

■ معتقل لسبع سنوات، مقاوم ولست مهزوماً كما تعرّف على نفسك في مواقع التواصل الاجتماعي، كيف تصوغ اليوم خطابك النقدّي من موقعك كشاعر؟ وإلى أي مدى ترى نفسك «شاعر مقاومة» وفق المصطلح الذي ساد في السبعينات من القرن الماضي؟

□ الهوية المقاومة التي أنتمي إليها هي ثقافة رفض وليست الشعار الذي اغتصبه محورٌ سياسي يستثمر في تفريغ المفاهيم من محتواها مثلما يستثمر في تفريغ المجتمع من قضاياه الحقيقية الفاعلة. المقاومة التي أنتمي إليها لا تغفر للقاتل حين يكون شريكاً أو قريباً أو حين نجتمع في هويّة سياسية. إنّ الظلم والاستبداد هما النقيض المباشر لثقافة المقاومة، ولا يجد الضحايا أي فارق بين القتلة حين يجتمعون في خندق واحد ضدّ حقهم في الحرية. من هنا فإنني أجد نفسي مقاوماً لمن يغتصب حقي في الرفض أياً كان تعريفه لنفسه.

وأنا لا أعرّف نفسي على الإطلاق كشاعر مقاومة وفق ما ساد في سبعينيات القرن المنصرم، رغم أني أحمل في داخلي كل هموم الصراع مع الاحتلال كأحد أوجه الظلم والقتل، ولكنه ليس الوجه الوحيد، فالقاتل هنا والقاتل هناك، دائماً يتكئان على قولٍ موارب يحاول تكفين بشاعة الهدف. هوية المظلومين واضحة في الضحايا وإن تعدّدت مرايا القاتل فلن تستر هويته.

■ إلى أي مدى تأثرت بتجارب شعراء سوريين مثل «رياض صالح الحسين»، خاصة أنّنا نرى في قصيدتك تلك القوّة الباردة، التي تكاد تكون انعكاساً لمعدنٍ صلب، لكنه ناقل شديد للحرارة حدّ الاحتراق. كما نتساءل إلى اي مدى ترى أنك قد تأثرت بتجارب الشعراء الفلسطينيين على تنوّع تجاربهم من توفيق زياد إلى محمود درويش وسواهما؟

□ الهوية لقد شكلت قراءات السجن الجزء الأكبر من هويتي الأدبية. وفي السجن الإسرائيلي لم يكن من السهل الحصول على الكتب، كان علينا أن نتقدم بطلب مُفصّل عن الكتب التي نرغب باستلامها من الأهل في الزيارات ومن ثم الانتظار لأسابيع حتى نحصل على موافقة جزئية على العناوين التي نطلبها. مع الأسف لم تُتح لي في السجن قراءة شعراء سوريين كثر ومن بينهم رياض الصالح حسين، الذي تعرفت على تجربته بعد خروجي من السجن، ووجدت فيه نبوءة وأوجاعاً سورية مُتطلّعة إلى صبحٍ نقي. في المقابل حضرت كتب الشعراء الفلسطينيين بقوة تركت تأثيراً عميقاً عليّ، فقد كانت تحمل لي تلك الرغبة في الصراخ وقول «لا» صريحة وقوية. فلسطين كانت أكثر حضوراً في كتاباتي الأولى لأني كنت أكثر عرضة لما تبوح به فلسطين، أما في مجموعة «السحابة بظهرها المحني» فقد حاولت من دون قصدٍ أن أُكفّر عن النقص الذي تعرّضت له سوريتي فكانت كل قصائد المجموعة سوريّة الهم والقضية طالما أنّ الهوية صارت سورية بشكل أوضح، وحاولت أن أعكس حضور القلق السوري والحاجة إلى الحرية في كل حرف. فكتبت من زنزانة في السجون الإسرائيلية قصيدة أهديتها لسوري مُعتقل في سورية لرأيه ونشاطه الحقوقي، هو مازن درويش، مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، أهديتها إلى كلّ معتقلي الرأي أينما كانوا. كتبت عن شهداء تعجلتهم فأس الحطاب، وعن الخذلان الذي يكسرنا وعن أملٍ لا بد لنا من الاحتفاظ به كي نواصل المسير إلى الحرية..

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى