صفحات الرأي

الشبكية وتفعيل المواطنة/ إبراهيم غرايبة

 

 

أُفضّل استخدام مصطلح “الشبكية” على تسميات أخرى، مثل الإعلام الجديد، أو شبكات التواصل الاجتماعي، لأني أجدها تسميات قاصرة، فالجديد لن يظل جديداً، وفيسبوك وأخواتها لم تعد مجرد شبكات للتواصل الاجتماعي، لكنها شبكات عملاقة للأعمال. ويكاد العالم، بأسواقه ومؤسساته، أن ينتقل إلى شبكة الإنترنت، وقد ختمت المقالة السابقة بسؤال: ما الذي سيحدث للعالم، عندما يتحول البشر جميعهم إلى إعلاميين؟ ففي الإنترنت وشبكات التواصل، يكاد يكون كل شخص في العالم يخاطب العالم كله بما شاء، وكأن كل إنسان في هذا العالم صحافي، يطل على العالم كله ويخاطبه بما يريد.

إن آثاراً وتحولات كثيرة مصاحبة للتقنية تحل تلقائياً، وتفرض نفسها علينا، لكن الاستجابات الإصلاحية والاجتماعية لا تأتي تلقائياً، لشديد الأسف، ويظل سؤال ملحّ؛ كيف يمكن توظيف هذه التحولات التقنية في الإصلاح؟ ومؤكد أن الجماعات الإصلاحية يجب أن تظل مسكونة بالسؤال عن الحيل والثغرات التي يمكن أن تجدها دائماً في الموارد والتقنيات الجديدة.

بالطبع، وفي جميع الأحوال، يستمد العمل الإصلاحي وجوده وتأثيره من قاعدة اجتماعية، ونخبة تعي أهدافها وتطلعاتها، ويمكن التفكير، هنا، بحكم المساحة المتاحة، بنموذج واحد من الأعمال والأهداف الممكن تعزيزها وتطويرها، من خلال الإنترنت وشبكاتها الاجتماعية، وهي بناء المواطنة والشعور والوعي بها، ففي ظل هذا الاتجاه ونموه، يمكن للإصلاحيين، جماعات ومؤسسات واتجاهات، أن يشكلوا جمهورهم وقواعدهم ونخبهم.

يمكن بسهولة، ومن غير تكلفة، بناء مجموعات وشبكات، تستهدف التأثير على السلطة والمجتمعات والأسواق، مثل رصد حالات الظلم والفساد والرشوة والتقصير والتشهير بها ونشرها، وإنشاء مجموعات نقاش وتواصل محدودة وضيقة للأحياء والبلدات، لتقييم أداء المؤسسات المحلية ورصد مشكلاتها، المدرسة والعيادة والنادي والحديقة والمكتبة العامة والفضاءات العامة والخدمات البلدية والاستهلاك، إذ يمكن تحويل سكان الحي، أو البلدة، إلى مجموعة واحدة تتبادل المعلومات والأفكار حول القضايا الأساسية والمشكلات التي تهم ساكني الحي، والتشاور حول تحسينها، والتواصل مع وسائل الإعلام والمعنيين بها.

ويمكن بناء شبكات وبرامج رقابية على المؤسسات والأعمال المحيطة، ويفضل تحديد الأهداف والمجالات وتضييقها، لتكون على مستوى المدن والمجتمعات المحلية، ففي ذلك تواصل أكثر خبرة وحميمية، وأكثر كفاءة وفاعلية، فتكون المدارس والعيادات والبلديات ودور العبادة

“ليست الشبكية مجرد تقنية يجري تطبيقها، سواء في الإصلاح أو التأثير أو التسويق أو في أي اتجاه، لكنها منظومة جديدة تغير الاتجاهات العامة والاجتماعية للناس، وتكرس فلسفة ومفاهيم وقيماً جديدة، أو تعزز قيماً ومثلاً جميلة معروفة”

والمحلات التجارية والمطاعم، والتي يفترض أن يعرفها ويتعامل معها جميع الساكنين، ثم تتطور علاقات السكان ببعضهم، لتنظيم عمليات الانتخاب البلدية النيابية والنقابية وتطويرها، وتقييم أداء النواب وأعضاء المجالس البلدية والنقابية، أو لبناء شبكات تعاون وعلاقات اجتماعية فاعلة ومفيدة.

ويمكن للمجتمعات المحلية الصغيرة، والمركزية الكبرى، أن تطور من خلال الشبكة ولايتها، ومشاركتها الثقافية، ووعيها ذاتها ووجودها، فتكون فضاء مفتوحاً للمعرفة والخبرات في الشعر والموسيقى والطهو واللباس والمسرح والقصة والرواية والعمارة والأثاث. ويمكن، أيضاً، تقديم المعلومات والخبرات المتاحة في تصميم البيوت والملابس وتطويرها، وحل المشكلات القائمة، ويقيم المشاركون، أيضاً، أداء المؤسسات الثقافية والفنية، ويتولون بأنفسهم تطوير الثقافة والفنون ورعايتها، بدلاً من وصاية المؤسسات العامة والخاصة، لتكون شريكة، وليست وصية على الناس وثقافتهم.. وفي إنتاج الناس ثقافتهم ووعيهم، يبدأ الوعي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالتبلور والوضوح لدى المجتمعات والنخب، فما يشكل الناس أفضل من أي شيء آخر حول مطالبهم وأهدافهم هو القدرة على التعبير عنها ثقافياً وفنياً، ففي الثقافة والفنون، تستودع الأمم، كما يقول هيغل، أسمى أفكارها، والنقطة الأساسية، هنا، أننا بالشبكية نحرر الثقافة والفنون من الهيمنة والوصاية، لتكون ملكاً للمجتمعات، ولتدير بها برامجها وقدراتها على تقييم البرامج والقيادات السياسية والاجتماعية.

وأخيراً، ليست الشبكية مجرد تقنية يجري تطبيقها، سواء في الإصلاح أو التأثير أو التسويق أو في أي اتجاه، لكنها منظومة جديدة تغير الاتجاهات العامة والاجتماعية للناس، وتكرس فلسفة ومفاهيم وقيماً جديدة، أو تعزز قيماً ومثلاً جميلة معروفة من قبل. ومرة أخرى، يجب التذكير بأن ذلك لا يحدث تلقائيّاً، لكنه يتحقق بالوعي والإدراك المفترض أن يصاحب التقنيات الجديدة، وما تعنيه الشبكة، ويجب أن تدركه المجتمعات والجماعات الإصلاحية هو المساواة التي تكاد تكون مطلقة أو مثالية، ففي هذه القدرات المتساوية على المعرفة، والوصول إلى مصادرها، يجب/ يفترض أن تنشأ مساواة اجتماعية جديدة ومختلفة، والتقنية كانت على الدوام أداة في المساواة الاجتماعية، والاقتراب منها، لكنها اليوم في الشبكية ممكنة جداً، وبمستوى غير مسبوق. وفي القدرات التقنية الجديدة والمساواة المصاحبة، لم يعد ثمة فرصة لبقاء الهرمية التي ظلت قائمة على مدى التاريخ، .. العالم أصبح شبكة ولم يعد هرماً، .. وفي الشبكة، لا يوجد نخب وأقليات تهيمن على القواعد، بل كل عضو فيها من يستطيع الوصول إليها، ويصبح مركزاً مساويّاً في أهميته وتأثيره لكل عضو آخر في الشبكة. وفي هذه المساواة الجديدة، وفي انهيار الهرم، تتشكل مجتمعات وقيم ونخب وفرص، وتذهب أخرى.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى