صفحات العالم

الشريط البربري المبهر

دلال البزري

 ذاك المعارض الذي أكل قلب الجندي السوري في شريط مصوّر على اليوتيوب؛ قد يكون احتاج، قُبيل التصوير، الى شيء من التركيز مع صاحب العدسة، حامل الخلوي أو الـ”آي فون”، شيء من “الكادراج” والإضاءة الصحيحَين، من ترتيب الوقفة، أو تعابير الوجه. قد يكون ذاك المعارض، بُعيد التصوير رمى قلب عدوه قرفاً من لزاجة دمه أو رائحته، أو جرى الى أقرب مياه، أو وضع يده بيد “المخرج” إيذاناً بانتهاء المهمة، وتمني نجاحها.

لكن ما من أحد شاهد هذا الشريط تصور بأن هذا الرجل البربري، البدائي، احتاج الى شيء من الصواب، شيء من الضْبط، ليتمم “مهمته” على أكمل وجه. فالمشهد الذي قدمه مروّع. قطع رتابة أعداد القتلى والجرحى ومشاهد الدمار، القادمة من سوريا…  جال العالم كله، احتل صدارة إعلامه كله، كاسراً ملله، وأحيانا سكوته، تجاوز زائري شريطه على اليوتيوب المليون شخص، ولم يبق طرف أو دولة او حزب أو شبكة تواصل أو منظمة حقوق انسان… إلا وأدانته بشدة بالغة. الجميع انتفض واستنكر وقال عنه أشياء جارحة.

ما سرّ “النجاح” الاعلامي الهائل لهذا الشريط؟ انه شريط محبوك، مدروس، لا تخرج مشهديته عن تلك التي نشاهدها في أفلام الرعب الهوليودية. كان يمكن لبطله المعارض أن يأخذ “وضعية” أخرى، ان يجلس فوق الجثة، أو يشرع الى تقطيعها. ولكن لا: شاء ان تكون الوضعية وقوفاً، والقلب قد انتزع بعد “تشريح” غير مثير وغير مسل… كما في وضعيات  أفلام الوحشية “الناحجة”. لذلك، فقد “أصاب” البطل المعارض والمخرج: صوروا شريطا لن تهمله اي عين، شريطا مبهراً، جذاباً، نعم جذاب، كما تكون ساحات الاعدام والرجم والجلد جذابة… خارجة عن مألوف اليوميات…

المألوف في حالتنا السورية؟ الاستباحة اليومية للشعب السوري وثروته، وقافلتها اليومية من القتلى والجرحى والسجناء، والنازحين المعدمين والنازحين غير المعدمين، الضائعة حياتهم، المحطمة طفولتهم ومراهقتهم وشبابهم، المحرومين من الماء والكهرباء والخبز…. شرح يطول، والاعلام لا يلتقط منه الا الأسهل؛ أي الأكثر بعثا على الإثارة. والا فقد جمهوره أو قراءه أو متابعيه… كل هذه المأساة، يصور بعضها الى حين… الى أن تصبح روتينا لا يجوز الغوص فيه، وإلا هرب الزبون الى قناة اخرى او صحيفة اخرى… حيث الخبر المذهل، المفاجىء، المسلّي، والمستنْكَر في آن…

بعد شريط التهام قلب الجندي واستهلاكه اعلامياً على نحو متميز، ما هي “الخبطة” المقبلة؟ يصعب ان نحدسها، طالما لا نملك مخيلة التوحش اللامحدود. لكن من المؤكد ان هذا النهج الاعلامي في التعاطي مع حالة مثل الحرب السورية، يمثل تهديدا خطيرا للسوريين ولبلادهم: اذ يقبع في سريرته نوع من “التطبيع” مع عنف يضرب بهم يومياً، سواء “هجوا” من بلادهم أم رابطوا فيها. مع أنه عنف، لو قُدّر ان يؤرخ له يوما، فسوف يملأ عشرات المواقع والدفاتر بقصص، أشبه بالخيال؛ شعب بأكمله يستشهد. وتغطية أنينه تتطلب إعلاما آخر، غير لاهث خلف المدهش والمثير والجذاب… إعلاما حساسا ومبدعا، متحررا من عبودية نسبة المشاهدة او القراءة، ومن الاعلانات، يوقظ الضمائر النائمة او الهاربة، يتعجب كل يوم، يؤنب كل يوم، يقتفي أثر التائهين الهائمين على وجههم في أرض الله الضيقة. إعلام لا يألف العنف والموت، لا يغرق في بديهياتهما.

فاذا بقي العنف على هذه الدرجة من “الطبيعية”، او تجاوزها، فهو مرشح للاستمرار مدى من الدهر، غير معروفة خواتمه.

اسأل اللبنانيين، الذين خاضوا حرباً صار عنفها “طبيعياً” الى حدّ ان لهيبها ما زال يلسعهم حتى الآن، بعد أكثر من عقدين على نهايتها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى