صفحات العالم

الشعب السوري أعَز

 


فهمي هويدي

هناك الكثير الذي ينبغي أن يحسب للنظام السوري، والكثير الذي يحسب عليه. إذ لا يستطيع أحد أن ينسى له احتضانه للمقاومة الفلسطينية، التي لولاه لكان قادة فصائل المقاومة إما في السجون العربية أو الإسرائيلية، أو مشردين في أصقاع الأرض، يحسب لذلك النظام أيضا أنه لم يفرط ولم يساوم ولم يشترك في صفقات بيع القضية الفلسطينية، يحسب له كذلك دعمه للمقاومة الوطنية اللبنانية، التي لولاها لسقط لبنان في فخ «الاعتدال» وفي قبضة الحلف الأمريكي الإسرائيلي، كما يحسب له دعمه للمقاومة العراقية التي قضَّت مضاجع الاحتلال الأمريكي وأنهكته هناك.

لأن الموقف السوري على المستوى القومي بهذه الصورة التي ذكرت، فلا غرابة في أن تصطف قوى كثيرة للضغط على النظام في دمشق ومحاولة تفجيره من الداخل.

أعني أن هناك كثيرين لا يتمنون خيرا لذلك النظام الذي تمرد عليهم وأقلقهم وحرص على أن يرفع لواء الممانعة مستثمرا ظروفا عدة، بينها علاقاته المميزة بإيران.

الصورة الإيجابية لموقف النظام السوري على ذلك الصعيد أساءت إليها وسحبت من رصيدها العديد من الممارسات الحاصلة على المستوى القطري، الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول بأن دولة الصمود والممانعة على الصعيد القومي كانت على الصعيد القطري دولة بوليسية بامتياز. أدري أن تلك ليست مسؤولية الرئيس بشار الأسد وحده. لأنه ورث هذا النظام عن أبيه الذي استمر في السلطة نحو ثلاثين عاما (1971 ــ 2000). أدري أيضا أن الرئيس بشار اتخذ عدة خطوات إيجابية نسبية حين تولى السلطة بعد أبيه. فخفف من قسوة الأجهزة الأمنية، وأرخى قبضة الحزب الذي جمدت عمليا لجانه في مختلف المحافظات. وأدخل عدة إصلاحات على صعيد علاقة سوريا واتصالها بالعالم الخارجي. لكن ذلك كله لم يغير من طبيعة النظام ولا كف أيدي الأجهزة الأمنية الباطشة، التي اختلف أداؤها في الدرجة وليس في النوع. لذلك فإن قامة سوريا على الصعيد القومي كانت أكبر منها على الصعيد القطري. وتقديرنا لنظامها على المستوى الأول تآكل قدر لا يستهان به منه بسبب الحاصل على المستوى الثاني.

لأن الأمر كذلك، فإننا نستطيع أن نتفهم غضب الجماهير السورية كما نتعاطف مع مطالبها التي عبرت عنها التظاهرات التي خرجت في العديد من أنحاء البلاد، وشوقها إلى الحرية التي حرمت منها طوال أربعين عاما. وهو الشوق الذي تجلى في ممارسات ومواقف بعض عناصر النخبة التي لم تكف طوال السنوات الأخيرة عن دق الأجراس والدعوة إلى الانفراج السياسي والإصلاح.

أدري أن ثمة فرقا بين الواقع الذي كان في تونس ومصر من ناحية وبين سوريا من ناحية ثانية، خصوصا في تضاريس الخريطة السكانية التي تتميز في سوريا مثلا بوجود مميز للعلويين والأكراد، كذلك هناك فرق لصالح سوريا فيما خص القضايا القومية، إلا أن ثمة قاسما مشتركا بين الدول الثلاث لا يمكن إغفاله، يتمثل في الجمود السياسي واحتكار السلطة وتراجع هامش الحريات مع تزايد هيمنة الأجهزة الأمنية. كما أن هناك قاسما مشتركا آخر بين تلك الدول يتمثل في بطء إجراء الإصلاح السياسي، الأمر الذي أشاع جوا من عدم الثقة في وعود الإصلاح التي تطلق.

 

إن المتظاهرين الذين خرجوا في العديد من المحافظات السورية في أغلبيتهم الساحقة لم يكونوا دعاة فتنة ولا عملاء لجهات أجنبية ولا مخربين يهددون الاستقرار، ولكنهم مواطنون شرفاء فاض بهم الكيل، وباتوا في شوق لاستنشاق نسائم الحرية التي هبت على مختلف أنحاء العالم العربي. وإذا لم يستجب الرئيس بشار الأسد لمطالبهم بسرعة فإنني أخشى على رصيده من النفاد في العام الحادي عشر لحكمه، وأتمنى ألا يصدق ادعاء البعض بأن ما تبقى له من رصيد نفد فعلا بعد سقوط عشرات القتلى برصاص قناصة الأجهزة الأمنية في درعا واللاذقية. عزيز علينا الموقف القومي للنظام السوري، لكن أرجو ألا يكون ذلك على حساب كرامة الشعب السوري. ولا ينبغي أن نخير بين الاثنين ليس فقط لأن الشعب هو الثابت والنظام ومواقفه بطبيعتها متغيرة، ولكن أيضا لأن الانحياز إلى الشهامة لا يعني بالضرورة التفريط في الكرامة.

الشرق القطرية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى