صفحات سورية

الشعب السوري أكثر تحضراً من النظام

 


محمد الحاج صالح

يتراجعُ النظامُ السوري تراجعاً غير منظم، يُشبه في فوضويته وآذاه الانسحاب الكيفي من الجولان في 1967. آنذاك سمعَ السوريون لأول مرة بمصطلح “انسحاب كيفي”. في وعي الناس أن الجيش رفيقٌ للتنظيم، وأن لا جيشَ دون تنظيم. أما أنْ ينسحب جيشٌ بهذه الطريقة، أي كلٌ على هواه أو”على كيفه” في اللهجة السورية، فإنّ صفةَ الجيش والتنظيم تَنْتفي. علينا أنْ نتذكّر أنّ منْ أصدر أمرَ الانسحاب الكيفيّ المُذلّ هو حافظ الأسد والد بشار الأسد. والمشينُ في الأمر أيضاً هو ذاك التبرير الذي ساقَهُ النظامُ آنذاك بأنّ العدوّ لم يحقّقْ أهدافُهُ! كيف؟ لأنّه لم يستطع إسقاطَ النّظام التقدّمي. أيْ إعلاءُ قيمة النّظام وأجهزته المُتسلطة على قيمة الأرض والوطن.

والآن يُعيد النظام الأغنيةَ ذاتها مُعْلياً قيمةَ النظامِ ورئيسِهِ على قيمةِ الملايين في الشوارع والمدن والبيوت. ويُعيد خطاب التبرير المُنحطّ في أنّ سوريةَ مستهدفةٌ طائفياً، وفق ما جاء على لسان بثينة شعبان مستشارة رأسِ النّظام.

إنّهُ الإفلاسُ والانسحابُ السياسي الكيفي إلى الموقع الأوسخ، أيْ إلى حمأة الطائفية. فهي بقوْلِها هذا تُساوي الدولةَ بالسلطة، والسلطة بالطائفة العلوية، لتُثيرَ الغرائزَ الطائفية لدى العلويين والسنّة على حدّ سواء. فهي تقول للعلويين إنّكم مُستهدفون، وتقول للسنة إنّكم طائفيون. وتقول للعرب والعالم إنّ الأصوليين هم البديل عنا. فاختاروا.

لا العلويين ولا السنةَ بوارد الانزلاق الآن إلى حالة طائفية، إذْ تسيطرُ على سورية الآن روحُ ثقافةٍ وطنية جامعة ومتنامية لا مكانَ فيها للطائفية. هناك أصواتٌ نشازٌ طبعاً، لكنّها أبعد من أنْ تُؤثّر، وأبعد من أنْ تكون ذات وزن. والأهمّ أن هذه الأصواتِ تُزدرى وتُحتقرُ من الشعب مثلما تزدرى وتحتقر محاولةَ النظامِ لإحياء الغرائز الطائفيّة المقيتة.

لقد أثبتت الثوراتُ التونسيةُ والمصرية واليمنية والليبية ونأمل أنْ تلحقها السوريةُ، أثبتت أن من يستخدمون العنف ومن يتوسّلُون أقذر الوسائل هُمُ السلطاتُ وليس الثوار. ولقد أثبتت الثوراتُ أنها تعدّل سُلّمً القيم وتحوله إلى سلّم انسانيّ مُتحضّرٍ تسودُهُ أخلاقٌ رفيعة، بينما تثبتُ الأنظمةُ وبتكرار عجيب أن لها سُلّماً من نوع آخر فهي تستخدم العنف والآلاعيب القذرة مثل التخريب وإنشاب الحرائق واستخدامِ العنف وتذْكيَةِ الخلافات على أساسٍ جهوي أو طائفي. يكفي أنْ نتذكّر دورَ “حبيب العدلي” في حرق كنيسة الاسكندرية واتهامِ جهاتٍ أصوليّة بها كي تبدو السلطةُ بمثابة الحامي للمسيحين، وكي يتقبّلَ الغربُ دور النظام المصري البائد، وليغضّ الطرفَ عن قمعه.

لا يمكن فهمَ قمع الشعب في درعا وفي اللاذقية وبالرصاص الحيّ إلا على أساس استجْلاب ردّ فعل عنيف من قبل المتظاهرين، كي تجد السلطاتُ المبرر لقمعٍ دموي كبير وإنهاءِ الاحتجاج. ولذلك من المهمّ للسورين التشبّث بالدرس الذي أعطتْهُ الثورتان المصرية والتونسية في الابتعاد عن العنف. مبدئياً ليس من سوري يشكّ بذلك، أويريد عنفاً إلا النظام. دليلُنا ذاك الشعارُ الذي هتفتْ به الجماهير: سلميّة. سلمية. فالحسّ الشعبي يعرف سلفاً ودون كثير تنظير أو لتّ وعجن أن حبيبَ قلبِ النظام هو العنفُ وأختُهُ الأخرى الطائفية. بالعنف يستطيعُ هو أنْ يردَّ رداً ساحقاً، وبالطائفية يقسمُ الحركةَ الشعبية، ويجعل الناسَ تلتهي ببعضها البعض، ثم يقدّم هو نفسه كإطفائي يحتاجُهُ الجميع. بئس الخطة وبئس الخطاب.

كما أثبتت الثورتان التونسية والمصرية بأنّ الشعبَ أكثر تحضراً وأنبل وأصدق وأفضل أخلاقياً من نظاميهما، تثبتُ الاحتجاجات في سورية بأنها أكثر تحضراً ونبلاً ومصداقية وأفضل أخلاقياً من النظام السوري. يكفي لإثباتِ هذا ما يستخدمُهُ النظام من عنفٍ وقتلٍ وتشويهٍ إعلامي وخطاب تحريضيّ طائفيّ وعلى لسان أكبر مسؤوليه، بدءاً من مقابلة رأس النظام مع “الوول ستريت جورنال” حيث اتّهم شعبَهُ بالانغلاق وبأنه غير أهل للديمقراطية وبأنه أصولي مُتطرفٌ، وصولا إلى المُستشارة غير الموفقة والتي حكّت على جَرَبِ الطائفية لعلّ الناسَ تلتهمُ الطعمَ، ليأتيَ بطلُ النظام الإطفائيُّ الأوّلُ.

محمد الحاج صالح

طبيب وكاتب روائي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى