صفحات العالم

الشعب السوري الواحد والمتعدّد: ماجد كيالي

ظلّ مفهوم”الشعب” من أكثر المصطلحات التباساً وتعميماً وتوظيفاً، ومن أكثر المصطلحات المسكوت عنها في الفكر السياسي العربي، لاسيما اليساري والقومي، اللذان استخدما، أيضاً، مفهوم الجماهير، المطابق له، رغم حركيته ودلالاته واستخداماته المتعلقة بالحشد والتعبئة، لأن كلا المصطلحين يتضمّنا الإشكاليات ذاتها المتعلّقة بالتنميط والحجب والتوظيف، لاسيما أن هذا المصطلح جرّد، في الغالب، من أساسيه المتلازمين، أي المواطنة الفردية/المستقلة، والسيادة في دولة.

وبديهي أن هذا ينطبق، أيضاً، على مصطلح “الأمة”، الذي يستطيب التيار الإسلامي استخدامه، أكثر من الشعب، فهو يثير الإشكاليات نفسها، لأنه يشمل مئات الملايين من اتباع ديانة واحدة على مستوى العالم، بغضّ النظر عن اختلافاتهم القومية والثقافية والسياسية، والأهم، بغضّ النظر عن إراداتهم الفردية، علماً أن التيارات القومية تستخدم المصطلح ذاته، أي الأمة، الذي تطلقه على الجماهير العربية؛ من المحيط إلى الخليج.

المعنى أن مفهوم “الشعب”، بالشكل الناجز الذي يبدو أمامنا، هو مفهوم تاريخي، أي أنه يعكس تطوّر التشكيلات الاجتماعية، التي بات لها إطارات سياسية وقانونية واقتصادية وثقافية، في مرحلة تاريخية معينة، وهذه كلها، مثل القوميات، تبلورت في العصور الحديثة، مع انتشار وسائل الطباعة والتعليم والصحافة والمواصلات والاتصالات، ومع قيام دولة المؤسّسات والقانون والمواطنين الأحرار.

ومن تتبع تطوّر التجربة البشرية عبر التاريخ يمكن ملاحظة أن مفهوم الشعب في الدول اليونانية والرومانية والإمبراطوريات الإقطاعية كان يقصر على النبلاء والارستقراطية ورجال الدين والمحاربين، فهؤلاء من كان يحق لهم الانتخاب، وحتى في عهد الخلافة الاسلامية فإن الشورى كانت قصراً على “أهل الحلّ والعقد”، أي العائلات الحاكمة والارستقراطية ورجال الدين. هكذا، ففي كل الحالات، تم إخراج العوام، أو الرعيّة، من مفهوم الشعب، ومن نطاق المواطنة المتساوية، في حين تم في المنظور اليساري، أو الطبقي، إخراج كبار ملاك الأراضي والبرجوازية الكبيرة من نطاق هذا المفهوم.

وبالنتيجة فإن هذا المفهوم أخذ دلالاته مع الثورات البرجوازية (الأميركية والفرنسية تحديداً)، التي اندلعت في أوروبا بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر، بإقامة دولة المواطنين الأحرار والمتساوين، استناداً إلى المفاهيم الليبرالية، أي المتعلقة بحرية التعبير والحريات الفردية والسياسية وفصل السلطات، بغضّ النظر عن النواقص التي ظلت تعتور هذا الأمر، من الناحية التمثيلية، أو من ناحية التمكين.

على أي حال” هاهي ثورات “الربيع العربي” وضعت المجتمعات العربية فجأة وبطريقة مفارقة، وصاخبة، وصادمة، وعنيفة، وجهاً لوجه إزاء ذواتها، وإزاء هذا المصطلح. ومثلاً، كيف يمكن أن نكون شعباً واحداً، في سوريا أو العراق أو ليبيا أو مصر أو لبنان، في حين أننا نبدو مختلفين جداً، ومتعادين جداً، في صراعاتنا وخلافاتنا البينية، وحتى في مجادلاتنا، على الهوية والمكانة والسلطة، بحيث بتنا نتصرّف وفق عقلية “ياغالب يا مغلوب”، “ياقاتل يا مقتول”، “نحن أو هم”، أي بقدر كبير من العصبية والإقصائية والعدائية؟ وكيف نكون شعباً واحداً، في أي بلد من البلدان، في حين نبدو كجماعات بشرية مختلفة، في مواجهة بعضها البعض، في “حرب الكل على الكل”، في ما يقارب الحروب الأهلية، على خلفية إثنية، أو دينية، أو مذهبية، أو فكرية، أو سياسية، أو مصلحية؟

هكذا، مثلاً، كان شعار: “واحد واحد واحد..الشعب السوري واحد”، الذي رفعه السوريون في تظاهراتهم، في الأشهر الأولى من الثورة السورية، يعكس حقيقة بسيطة مفادها التوق إلى التوحّد، لكأن ثمة شكّ في اعتبار السوريين شعباً واحداً، أو كأن ثمة خوف على هذه الوحدة.

وفي الواقع فإن هذا الشكّ والخوف والتوق وضع السوريين أمام حقيقتين موجعتين، تمّ حجبهما طوال العقود التي أعقبت الاستقلال، لاسيما العقود الأربع التي حكم فيها نظام الأسد، والذي اشتغل على محو هويات السوريين، وطمس حال التنوّع والتعدّدية بينهم، باعتبار ذلك شيئا معيباً، ينبغي “التحرّر” منه، وباعتباره ينتقص من كون السوريين شعباً واحداً. وقد تبيّن أن محاولات هذا النظام تنميط السوريين في هوية متخيّلة، كان الغرض منها مجرد تزيين علاقات التهميش والإقصاء والمحو، وتكريس علاقات الاستلاب والاستبداد، لاسيما أن هذا النظام التهم الدولة والمجتمع، فليس ثمة سوريا، وإنما “سوريا الأسد إلى الأبد”؛ هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، ففي خضم الثورة السورية، على مشكلاتها وفوضاها ونواقصها، تمكن السوريون من استعادة ذواتهم، والتعرف على خصوصياتهم، وعلى هوياتهم، ومشتركاتهم، واختلافاتهم، ما وضعهم أمام لحظة الحقيقة، لحظة تعريف السوري، وتحديد معنى كونهم شعباً واحداً.

القصد، أن ثمة إشكاليات متضمنة في مفهوم الشعب، وضمنه الشعب السوري، بالقياس لما كان، لكن تجاوز ذلك يفترض تصويب، أو إعادة اعتبار، هذا المفهوم، بتأسيسه على المواطنة الفردية لمواطنين أحرار، مستقلين ومتساوين، وعلى السيادة في دولة، وفق مبدأ “سيادة الشعب”.

على ذلك لا يمكن لشعب، في دولة، أن يصبح شعباً حقاً بإلغاء أي مكوّن من مكوّناته، مهما كان حجمه أو قدره، لا على أساس ديني ولا إثني ولا قبلي، ولا يمكن لشعب أن يصبح شعباً، بمعنى الكلمة، في دولة لمجرّد توافق جماعات دينية، وطائفية، وإثنية وقبلية، مع أنه يمكن تصنيع دول كهذه (حال لبنان مثلاً).

الآن، واضح أن من المستحيل أن يصبح المسلم مسيحياً أو بالعكس، وكذلك السنّي شيعيّاً أو درزيا أو علوياً، وهو ما يصحّ على كل مكوّن إزاء غيره. وبالمثل لايمكن للعربي تذويب الكردي أو الأمازيغي أو التركماني أو الأرناؤوطي أو الأشوري أو الشركسي أو الأرمني، وأيضا ولا أي واحد من هذه المكونات الإثنية يستطيع ذلك ازاء غيره. أيضاً، فإن أي تيار لا يستطيع استئصال غيره، وهذا ينطبق على الإخوان المسلمين أو السلفيين أو الصوفيين أو الجهاديين أو القوميين أو اليساريين أو الليبراليين أو العلمانيين.

إذاً لابد لأي شعب، كي يصبح شعباً حقاً، أن يتعايش مع اختلافاته، الدينية والإثنية والثقافية، وأن يحترم حال التنوع والتعددية فيه، بدلاً من البقاء في أسر الهويات والعصبيات والصراعات الهوياتية، اختصارا للوقت، ولتجنّب الكوارث، والأثمان الباهظة، واعتبار ذلك عامل اثراء، ودليل حيوية. لذا لا خيار ممكن سوى ادراك ضرورة التوافق التعايش في دولة مواطنين أحرار ومتساوين؛ فهذه هي الصيغة الأمثل، التي ابتدعها العقل البشري، حتى الآن.

قصارى القول، الشعب الواحد، هو شعب مواطنين، لا جماعات دينية وإثنية وعشائرية، وهو واحد، على التعددية والتنوع والاختلاف فيه، من دون تهميش أو إقصاء، وهذا هو معنى الشعب السوري الواحد، الغني والقوي بتاريخه وثقافاته ومكوناته.

سوريا لا يمكن ان تكون من دون كل السوريين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى