صفحات الرأي

الشعب يريد…!

 


سمير العيطة
“الشعب يريد…”. هذا التعبير هو ربّما أهمّ ما يميّز عصر النهضة الجديد الذي يعيشه العالم العربي، ويصل صداه حتّى… إلى الصين. فالشعوب العربيّة بقيت لزمنٍ طويل هي الغائب الأكبر، ليس فقط في المعادلات والصراعات الإقليميّة، بل أيضاً وخصوصاً في الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الداخلية.

ما يلفت الانتباه، هو أنّ هذه الإرادة الشعبيّة قد عرفت، في تجسّدها الجديد، أن تعطي لكلّ مرحلة… هدفها. فلا حديث عن الأمور الإقليميّة والخارجيّة، حتّى لو تعلّق الأمر بقضيّة فلسطين الغالية على القلوب، قبل الهدف الداخلي. هكذا لم تعد تمشي لعبة طلب الأنظمة “لتضحيات” داخليّة في سبيل “القضية” ولا التهويل “بالأجندات” الخارجيّة. إعادة تشييد البيت الداخلي هو الأولويّة، فهو الذي يصنع الاستقلال الحقيقي والمنعة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، عدا أنّ الشعب يعرف أنّه لو كانت له كلمته في تحديد السياسات الخارجيّة فستكون حتماً أفضل ممّا هي عليه الآن.

والشعب لن ينجرّ إلى صدامٍ مع الجيش. “الشعب والجيش يد واحدة”. فهو يعرف أهميّة الحفاظ على وحدة مصهر الانتماء الوطني هذا، كضامن للدولة-المؤسّسة التي هي شرط – ضروري ولكن غير كافي – للديموقراطية، كما برهنت له ذلك تجربة العراق المرّ ة تحت الاحتلال الأميركي. فـ”سلطة ما فوق الدولة” هي التي وسّعت نفوذ الأجهزة الأمنية على حساب الجيش، وخلقت قوّاتها الخاصّة المستقلّة لحمايتها، وبثّت الفساد في صفوف بعض العسكريين أو همّشتهم، كي تبسط سلطتها دون منازع. إرادة الشعب الأعزل بحاجة إذاً إلى الجيش كي يقف معها ضدّ المرتزقة… كما في ليبيا. هذا لا يعني أنّ التناقضات والنزعات السلطويّة ليست موجودة داخل المؤسّسة العسكريّة، وحتّى أحياناً الارتباطات الخارجيّة، لكنّ هذه هي معركة تالية، ضامن نتائجها أنّ زمن الانقلابات العسكريّة التي تأتي بأنظمة تخالف إرادة الشعب قد ولّى…

والشعب لن يذهب إلى صدامات طائفيّة أو مع حركات الإسلام السياسي. فالمثالان العراقي واللبناني أثبتا أنّ هذه ستدمّره. “الشعب يريد… إسقاط النظام الطائفي”، كما يصدحها اللبنانيّون. الأنظمة السلطويّة والقوى الخارجيّة هي التي لعبت دوماً على ورقة الانقسامات الطائفيّة والتهييج من خطر التطرّف الديني، كي تستمرّ هيمنتها باسم “نحن أو الفوضى” أو “حماية الأقليّات”. لم يكن الأمر سهلاً في مصر، فالأجهزة الدينيّة تضامنت في أغلبيّتها مع النظام حتّى النهاية. إلاّ أنّ شباب مصر ثبتوا، والتحموا سويّة في “ميدان التحرير”، فانفصلت قواعد الأجهزة الدينيّة عن رؤوس هرمها وانقسمت الحركات الدينيّة على نفسها. واليوم، تأتي المراجعة: سواء عن كيف تحوّلت مؤسسّة الأزهر من حاملٍ للنهضة والفكر إلى كابحٍ لها أو عن كيف يمكن إعادة الطابع الديموقراطي لمؤسّسات الكنيسة القبطيّة؟ أمّا ما يسمّى بـ”الحركات الإسلاميّة”، فقد أثبتت أنّ فيها الصالح والطالح، وأنّها على الأقلّ لا تمثّل أغلبية، وأنّ الإقصاء هو الذي كان يغذّي إشعاعها. وأنّ عليها إعادة بناء نفسها وفكرها حتّى يكون لها دور مستقبلي ولو على الطريقة التركية.

الشعب يعرف أيضاً أنّه لن يستطيع أن يحصل على كلّ شيء في يومٍ واحد. يعرف كيف ينكفيء منظّفاً الشوارع في مصر بانتظار أن يأتي الجيش بما عنده. ويعرف كيف يعود ويحشد لأنّ الجيش والقضاء يتقاعسان سواء في محاسبة رموز العهد البالي أو في إرساء خطوات ملموسة للمرحلة الانتقالية. كما يعرف في تونس كيف يرفض تعيين والياً أو محافظ أو مدير جهاز أمن ليس سوى استمراراً لما ثار ضدّه. هكذا تعرف الشعوب العربيّة أنّ “عصر النهضة” الجديد الذي انطلق هنا وينتظر لحظته هناك لا يكمن في سقوط رمز… بل أنّ القضيّة هي “حرب استنزاف” طويلة. حرب استنزاف لاكتساب كلّ الحقوق الاجتماعية، حقّاً حقّاً: التفاوض على الأجور وشروط العمل، التنظيم النقابي الحرّ، الحقّ في العمل وتعويض البطالة، حريّة التعبير، الأحزاب السياسيّة، حريّة الاعتقاد، حريّة المرأة، إلخ…

ليس شرطاً أن تنتهي إرادة الشعوب العربية في كلّ مكان… بثورة. لكنّ هذه الشعوب قد استيقظت في كلّ مكان لتنتهي إلى فرض إرادتها… هدفها الأوّل هو “الاستثناء العربي”، أنّ الأنظمة تقوم على “سلطة فوق الدولة”. بالنسبة لها، ولّى الزمن الذي يمكن فيه للملكيات العربية ألاّ تخضع هي نفسها لدستورٍ شعبيّ، وللجمهوريّات ألاّ تعرف انتخابات تعدديّة حقيقيّة حتّى للرئاسة. وولّى الزمن الذي يخلط فيه على مستوى السلطة المال العام مع المال الخاص. وولّى الزمن الذي يستخدم فيه تعبير “التحرير الاقتصادي” لمنح احتكارات لمقرّبين أو لشركات خارجيّة تعمل لصالحهم. وولّى الزمن الذي يغطّي فيه الخطاب عن “نموّ الاقتصاد” الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، ويتمّ الاهتمام بالعاصمة دون غيرها من المناطق. وعاد زمن الساحات العامّة… كي تكون لا للمركبات بل للشعب.

فهل من ملكٍ عربيّ عقلانيّ يوفّر على شعبه ضحايا ويؤّسس بنفسه لدولة “النهضة الجديدة”، يخضع هو فيها لإرادة شعبه حتّى يحمله فوق رأسه. وهل من رئيسٍ عربيّ عقلانيّ يستبق تجسيد هذه الإرادة ويدخل اسمه في التاريخ الإنساني فاتحاً الحريّات السياسيّة حتّى لمنافسته هو، ويعمل للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، متخليّاً عن أقربائه وزبانيته من أجل الوطن.

إذ أنّ “الشعب يريد…”

* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم

A Concept mafhoum, www.mafhoum.com

لوموند ديبلوماتيك العربية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى