صفحات الرأي

الشعب يريد إنهاء الخطاب


زياد حداد

يروي أحد المدوّنين المصريين أنه كان في ميدان التحرير يوم ألقى حسني مبارك خطابه الأخير، مخيِّباً آمال الراغبين في تنحّيه، وذلك قبل يومٍ من التنحي الالزامي الذي أُخضِع له، ويذكر هذا المدوّن أن حشداً بقربه لم يكن يكفّ عن تكرار القول لمن كانوا يرونه على الشاشة: “أنجز… خلّص…”، أي أوجز وعجّل بالوصول إلى لبّ المسألة بدل الكلام العاطفي. وفي حين كان بشار الأسد يلقي واحداً من خطاباته الأخيرة، كانت ردود فعل أهل الـ”فايسبوك”، أو “الفسابكة”، تتلخص في نقل الستاتوس (الحالة) الآتي: “الشعب يريد إنهاء الخطاب”.

من يتأمل أبعد من سطح رد الفعل هذا، ويعجله إلى الخلاص من الكلام المنمق والإنشائيات المجترة نحو استقالة الرؤساء وإسقاط أنظمتهم، ير أن الشعب يريد إنهاء خطاب كامل، أي نسق شامل من المفاهيم والأفكار التي سيطرت على الأفهام وقادت إلى الأحوال التي نعرفها.

فلنعدِّد بعضاً من هذه المفاهيم والعبارات التي باتت خارج الاستخدام بفعل الثورات العربية المتتالية: التوريث في الأنظمة غير الملكية، حيث تتم محاربته حتى بمفاعيل رجعية وأخرى استباقية، الأب القائد الحكيم، الشرعية التاريخية أو الثورية، أولوية محاربة الاستعمار ومكافحة الامبريالية، الممانعة، حرب تشرين أو نصر اكتوبر، الاستكبار العالمي، الجرذان أو الجراثيم أو المندسّون أو المهلوسون أو العملاء، الشباب الطائش، قلب العروبة، القُطْرية (بضم القاف)، الفتنة التي أثبتت الشعوب أنها لن تقع فيها، بعد الدرس العراقي، على رغم محاولات الأنظمة القذافية والأسدية المستمرة، لا صوت يعلو فوق صوت المواجهة مع العدو الصهيوني، الموت لأميركا، أنا أو الفوضى… الخ.  لكن أينبغي رمي الطفل مع ماء الحمّام، على ما يقول الفرنجة؟ أم ينبغي فصل السمّ عن بعض دسمٍ في مثل هذه الخطابات؟ أليس أن الاستعمار مقيم في وجود الكيان الاسرائيلي، وأن الاستعمار الاقتصادي والسياسي لا يزال مستمراً في أنحاء بلادنا، وأن المغامرة الليبية تسعى وراء النفط الغزير على رغم أن القذافي لم يكن يمنعه عن الغرب، وأن العملاء حقيقة كما في كل مجتمع، وأن الفتنة الطائفية شبح قد يستفيق في كل لحظة، لا سيما بعدما غذّته هذه الأنظمة بدأب حقود على مدى عقود؟ أليس أن وراء دخان هذه الكلمات ناراً، وأن هنالك بعض الحقيقة خلف خطابات الممانعة والبعثية والقذافية واليسارية المستغرقة في عداء يتيم للولايات المتحدة الأميركية والغرب، وحديثاً أضاف البعض “الرجل الأبيض”، كأن ما كان ينقص العنصرية اللبنانية هو هذه الإضافة؟ يستحق الموضوع وقفةً لترتيب الأفكار والتدقيق في ما وراء السأم من الكلمات أو القرف من التلوث الذي انتابها لكثرة ما لاكتها أحناك الطغاة.

الشعب الذي يريد انهاء الخطاب، مطالباً بالحرية وبرفض الذل، ليس شعباً يريد استبدال هوان بآخر أو استغلال بمثيله، وليس يبيع وطنه أو يجازف به، ولا يأمل في الانغلاق داخل حدوده ورفض الفضاء العربي الذي يستلهم بعضه بعضاً، نضالاً وأملاً. ما تقوم به الشعوب والنخب الوطنية المثقفة اليوم هو إعادة تحديد المفاهيم، والغايات، والوسائل. ترشيق الخطاب المفهومي يفسح في المجال لعروبة بليغة، أي لعروبة موجزة ومتماسكة.

الرد على الاستعمار بالإعمار

يحدد الشعب اليوم وجهته. الاستعمار، المنبوذ على رغم رقة أصل التسمية، يقوم تحت ستار المبادئ السامية باستغلال ضعف دولنا ومجتمعاتنا لفرض الهيمنة والنفوذ السياسي عليها واستغلال مواردها الاقتصادية والجيو ـ استراتيجية. مثل هذا التعريف للاستعمار يشير إلى أن النافذة المتاحة له إنما هي من صنع أيدينا. غير أن الرد لا يكون بالانغلاق ولا بالتستر، من جهتنا، خلف لواء التوحد وإنشاء الجبهة الواحدة لمقاومته. الرد يكون أساساً بالنهوض بالدول والمجتمعات العربية بحيث تدخل حلبة العلاقات الدولية، السياسية والاقتصادية والمعرفية، بقدرة وافية على الدفاع عن مصالحها في وجه كل مستعمر، سواء أتى من الغرب وأوروبا أم من روسيا أم من الصين أم سواها من الدول.

أي أن الرد على الاستعمار يكون بالإعمار، بإعمار دولنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا. مثل هذا الإعمار لا يكون من خلال الإقصاء أو النبذ، ولا من خلال استتباع فئات المجتمع والهيمنة عليها، بل من خلال إفساح المجال لها للتفاعل والتنافس والابتكار.

الإعمار أيضاً يكون بالانفتاح المعرفي، لا بالتحجر على أصول مفترضة. في مجال المعرفة العلمية، من غير المهم لغير دواعي الانتفاخ أو التوكيد الذاتي للأصول العربية ـ الإسلامية (ماذا عن أصول هذه الأصول؟) لشطر مهم من المعارف، إن كان البناء على هذه الأصول مهملاً. وما بُني عليها إنما بناه ما نصفه بالغرب، وهو لطالما كان منشطراً متناحراً، وعلى رغم ذلك سيطر على المعمورة! من الحتمي لأي تقدم في عصرنا أن يقوم على الاتصال بالغرب الذي لا يزال حتى الساعة المنتج الأول وشبه الوحيد (إذا استثنينا اليابان) للمعارف العلمية وللمنجزات التقنية، مثلما هو المقنّن الوحيد للتشريعات القانونية الحديثة، ولن يصعب على من شاء أن يراجع جهود رشيد رضا ومحمد عبده وعبد الله العلايلي العثور على اصول اسلامية مفترضة لها!.

ومن شاء أن يراجع أي تجربة تقدمية ناجحة، من اليابان وألمانيا وكوريا وصولاً إلى اميركا اللاتينية والهند، يلاحظ أن الانفتاح على “الغرب” وسوقه وجامعاته وقوانينه شرط شارط لهذا التقدم. يعيدنا هذا إلى مرحلة التساؤل عما يجب أخذه من الغرب وما ينبغي رفضه، حرصاً على تماسك مجتمعاتنا، إلا أن الإجابة اليوم أعقد بكثير مما كانت عليه قبل قرن من الزمن، حيث لا يمكن اختصارها بأخذ التقنية ورفض القيم، بل ينبغي ترك المجال للمجتمعات وتفاعلها الحضاري وللدول التي تنسق هذا التفاعل وفقاً للمصلحة العامة كي تجد مزيجاً مناسباً من التقنيات والقيم والتشريعات الضرورية، مثلما تنبذ جانباً من القيم وحتى التقنيات إن لم تكن مناسبة لطبيعة مجتمعاتنا وبيئتها. على سبيل المثال: أنماط العمارة وموادها، التنظيم المديني الذي لا يمكن استيراده بقرار، وحتى مجموعات من الصناعات أو الزراعات التي لا ينبغي دعمها بشكل أعمى إن كانت غير قادرة على الإقامة في ربوعنا بشكل تنافسي واعد.

الخروج من تحالف

الاستكبار والاستبداد

لم ترفض الشعوب العربية الثائرة الدعم الأجنبي لثوراتها، عربياً أكان أم دولياً. كما تؤكد نخبها كل يوم أن مثل هذا الدعم ضروري، بخاصة في ظل تسلط الأنظمة الوحشي والدعم الخارجي لبعضها وارتباط دعم قطاعات رجال الأعمال لها بالأفق الاقتصادي القائم على العلاقة بالخارج. تخالف مسألة الدعم الأجنبي للثورات مسألة التدخل العسكري في البلاد، حيث إن ما بدا مبرراً في ليبيا، بشكل أو بآخر، يصير غير مقبول في سوريا أو في البحرين. غير أن هذه النخب نفسها، شأنها شأن عامة الشعب، غير غافلة عن التعامل الانتهازي للدول ما بينها. بل هذه هي القاعدة في “لعبة الأمم”. غير أن في الإمكان أن نشارك في اللعبة من دون أن تكون الحصيلة صفراً، أي بعبارة أخرى من الممكن فرض معطيات تجعل مصلحة الشعب ومصلحة الدول تتقاطع، بدل أن يكون هنالك اصرار أعمى على تناقضها.

يعني ذلك أن العالم لا يختصر في الاستكبار، وإن كانت الانتهازية والمصلحة في صلب تكوينه. كما يعني أن الاستبداد هو أفضل من يخدم مصالح الاستكبار، حين يكون مقيماً وراغباً في بذل كل نفيس كي يخلد في الحكم، كما حين ينهار ويخلّف مجتمعات ضعيفة ومؤسسات محطمة وأحقاداً عميمة. وبدل أن ننوء تحت عبئين معاً: عبء الاستكبار وعبء الاستبداد، يسمح تحديد الأولية في تقدم المجتمع وضمان حريات الأفراد الأساسية معاً، بأن نغيّر معطيات اللعبة بحيث ينشأ تعاطٍ مثمر للطرفين اقتصادياً وبحيث يتم توزيع ثمار هذا التعاون عملاً وازدهاراً وحرية رأي وتعبير، وليس في هذا تناقض لكل عين لا ينحصر نظرها في سوريا أو كوريا، الشمالية في طبيعة الحال!

جدلية التفتت والوحدة

لا يزال موضوع التقسيم أو انشطار الدول احد تابوهات التفكير العربي، المهجوس بأفكار الوحدة باعتبارها سبيلاً أوحد إلى العزة والكرامة وليس إلى التقدم أو إلى تحسين أحوال البشر! على رغم ذلك، لم يثر انقسام أكبر الدول العربية، مساحة، أي السودان، دولتين، أي رد فعل عارم، لا في الخرطوم ولا في المدن العربية الأخرى. أي ان هنالك بدايات انفصام بين واقع ردود فعل “الشارع العربي” وبين ما يتداوله المثقفون.

الفصام الآخر يتجلى في رفض الحدود كما “رسمها الاستعمار” وفي رفض المساس بها معاً. أي ان الفكر العربي يحسب أن الحدود هذه لا تطابق الواقع، غير انه يفترض واقعاً مسبقاً ينبغي، بحسبه، أن تطابقه هذه الحدود، وهو واقع موحد من المحيط إلى الخليج. بالطبع، لا يخرج الفكر العربي أي اثبات تاريخي على فرضيته هذه عن الواقع، على رغم التشدق الدائم بالتاريخ، ولا يوضح كيف يمكن منطقة تشكلت على مدى آلاف السنين من الصراعات بين “أممها المختلفة” ولم يجر توحيدها في واقع الأمر سوى في عهد الأمويين.

من ناحية أخرى، تعزف الكتابات العروبية عن تقديم أي دراسة اجتماعية أو ديموغرافية، أو أي مقارنة معمقة لطبيعة الأنظمة الاقتصادية والاحتياجات المستقبلية  قبل القفز إلى الاستنتاج الشهير عن ضرورة توحيد الدول العربية، وكأن تكامل هذه الاقتصادات مفروغ منه. أو كأن إعلان الرغبة في تحويل عائدات النفط من البلدان القليلة عدد السكان إلى البلدان التي تعاني من تضخم عددها السكاني، لن يثير لدى الأولين رغبة في التحالف مع الشيطان لحماية هذه العائدات تحديداً من هذا التهديد الديموغرافي. أو كأن التفاوت في القدرة الشرائية، بين السوريين والإماراتيين على سبيل المثال، لن يؤدي عملياً إلى سيطرة الأغنى على الاقتصاد والعقارات من دون أي حماية دولتية – بما أننا شعب واحد! – وإلى تضخم هائل بسبب ضخ سيولة نقدية غير مدروسة. بيد أن العامل الايديولوجي، الذي يعمي ويصمّ عن وقائع الحياة، يعمي أيضاً عن امكانات التعاون والتكامل الحقيقية التي لا يمكن اكتشافها إن لم تجر دراسات معمقة وإن لم نبدأ من تسهيل وجود قواعد بيانات إحصائية  موثوق بها ومتاحة لعموم الباحثين.

انشطار السودان بعد أطول حروب القارة الأفريقية، قد يكون مقدمة بالغة الأهمية لمقاربة جديدة للموضوع، إذا تفادى نظاما الشمال والجنوب أحقاد الماضي واستكشفا معاً إمكانات التعاون ما بينهما. ذلك أن تجربة إيجابية كتلك، قد تكون رداً على الخطأ العراقي الفادح، وتشكل دليلاً على أن احترام حقوق شعوب بلادنا، باختلاف فئاتها، في اللغة والتعبير وحتى المطالبة بالاستقلال إن عجزت الدول الحالية عن معاملتهم على أساس المواطنة، يسعه أن يكون مدخلاً إلى تعاون وتكامل يبنيان على تلاقي الإرادات لا على الهيمنة باسم ضرورة الوحدة.

أعمدة رشيقة لعروبة بليغة

لا ينبغي لأخطاء الفكر السائد ولا لجرائم الدول القائمة في حق شعوبها أن تعمي بصائرنا عما هو حقيقة قائمة على الرغم من ذلك كله: العروبة كفضاء رحب لنا جميعاً. هذه العروبة الرحبة، غير الشوفينية، هي ما يجعل الهم الفلسطيني قائماً في القاهرة، بعد الثورة، لكن ليس على حساب شباب مصر نفسها، كما يجعل سوريا حاضرة في قلب كل منا بمقدار حضورها في الثقافة والموسيقى والفنون، في حين إن أزمات البحرين واليمن تحرك المشاعر بمقادير أضأل بكثير للسبب نفسه.

العروبة المقبلة ينبغي أن تبنى أولاً على فتح الفضاء العربي، على امتداد الدول العربية كافة، أمام تبادل دون قيود للفكر والثقافة والفنون بما يسمح بتعزيز هذا الحضور المتبادل، وهذا يتطلب مسبقاً فتح آفاق الخلق في داخل الدول نفسها بطبيعة الحال. وثانياً على فهم أفضل للانتفاع المتبادل الذي قد يتأتى من خلال عرض مشاريع محددة ومدروسة، في مختلف الدول العربية على مصادر التمويل حيثما وجدت، حيث ان الانتفاع المتبادل، المضبوط بقواعد قانونية ينبغي لكل دولة احترامها لكسب ثقة الممولين، قادر على تجاوز جدلية طمع البعض وخوف البعض الآخر من الاستغلال. مثل هذه المشاريع تعزز بناء مستقبل مشترك قائم على معطيات حقيقة وراهنة. وثالثاً على ادراك التحدي المشترك أمام العرب، حيث لا تعود القضية الفلسطينية “قضية العرب المركزية” بل تتكشف عن كونها نتيجة بحتة لقضيتهم الحقيقية، أي تخلّف البنى المؤسساتية والدولتية عن واقع العالم من حولنا. قضية العرب المركزية هي اكتساب بنى مؤسساتية تحترم الفرد وطاقاته وتنظّم عمل المجتمع بدل قمعه، وهذه هي القضية المشتركة الأولى والأهم بدليل قدرتها، تحت اسم الحرية والخلاص من الاستبداد، على نشر العدوى من بلد الى آخر. التحدي مطروح أيضاً على اللبنانيين الذين لا يزالون ينتظرون مآلات التطورات من حولهم بدل المبادرة إلى الإمساك بمفاتيح مصيرهم.

كلمة أخيرة، حين تكون العروبة فضاء ثقافياً في الدرجة الأولى، وحين يكون خمس كلمات اللغة الفارسية مستقىً من العربية، وتكون هذه اللغة الشريفة ذات تأثيرات في التركية والسواحلية والمالطية وغيرها مثلما تلقت منهم، تكون هذه العروبة منفتحة، غير شوفينية، وتكون جسراً لبناء مستقبل مشترك مع الأمم المجاورة. يظل أن مستقبل الكتل العربية الأكبر مرتبط بمصير البحر الأبيض المتوسط. على مدى تاريخنا الطويل، كانت العلاقة مع الأوروبيين، حرباً وسلماً، تبادلاً وتجارة، ترجمة وتعريباً، أساسية في تعريف المنطقة وتطورها. وليس من النافل أن اكتشاف الأوروبيين لطرق تجارة أخرى إلى الهند، ومن طريق الخطأ اكتشاف القارة الأميركية، من دون المرور بالمنطقة العربية، أدى مباشرة إلى انحدارها السريع. مفاد القول، يمكن التاريخ أن يعلّمنا دروساً في الأساسيات، غير أن من الضروري أن نتجنب تحويله مولّداً للأحقاد. الشعب الذي يريد إنهاء الخطاب، يريد ذلك كي يبدأ الفعل والعمل. تخفي الثورات، وراء قناع السياسة، أملاً عارماً وحماسة وتشوقاً إلى المستقبل، في هذا أيضاً هي تنهي خطاب البعث والنهضة والعهد الذهبي في الماضي السحيق.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى