صفحات الرأي

“الشعب يريد” لجلبير الأشقر

نظرية المؤامرة تعكس احتقاراً عميقاً للشعوب الثائرة

[“الشعب يريد” دراسة في 382ص قطع كبير

[جلبير الأشقر.

[ترجمة: عمر الشافعي بالتعاون مع المؤلف

[الناشر: دار الساقي، بيروت 2013

هل يكفي أن نفسّر “الربيع العربي” بحجم الفساد ونهب الثروات وانتهاك حقوق الإنسان في المنطقة؟ وأي المصطلحات بإمكانها أن تصف الحراك الشعبي الذي أودى بعدد من حكام الأبد: ثورة أم مؤامرة؟ وما هو مستقبل هذا الحراك في ظل تولي الأصوليات الإسلامية المعتدلة مقاليد السلطة؟ أسئلة شائكة وعالقة من هذا القبيل يحاول أن يجيب عنها الباحث اللبناني جلبير الأشقر في كتابه الجديد “الشعب يريد” مؤكدا منذ المقدّمة أن الانتفاضات الجارية تشكل سيرورة ثورية طويلة الأمد للدلالة على وقوع الحدث وعدم اكتماله، ذلك لاعتبارين: كون الموجة الثورية التي هزت المنطقة العربية بأكملها لم تسفر عن انتفاضات معمّمة إلا في ست دول، وكون الثورات السياسية غير قادرة على حل الأسباب العميقة للانفجار التي يقتضي حلها تغيرات اجتماعية-اقتصادية جذرية الطابع.

ينطلق الأشقر في قراءته لمجريات الواقع من المقولة الماركسية التي تعتبر أن البنى الفوقية في المجتمع من فكر وثقافة وسياسة هي انعكاس للبنية التحتية الماثلة في الاقتصاد، وأن: “القوى الإنتاجية في مرحلة من تطورها تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة، بحيث تتحول العلاقات إلى قيود تعيق تقدم تلك القوى”، وعندئذ تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعية، وهو ما تشهده المنطقة العربية نتيجة تشكيلاتها الاقتصادية العاجزة التي تكونت في ظل عوامل ذاتية وظروف تاريخية خاصة، أدت إلى الانسداد في تطور القوى المنتجة، وإلى نوع من التنمية المعاقة، حيث يُلاحظ الباحث أنه من بين جميع مناطق العالم الثالث تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأزمة الأشد حدة فيما يتعلق بتطور الناتج المحلي الإجمالي، وهو المؤشر الأكثر شيوعا للتنمية الاقتصادية.

يلخّص الباحث الوضع الاجتماعي الراهن في المنطقة بثلاث صفات هي الفقر، اللامساواة واللااستقرار رغم وفرة وسائل الإنتاج من رأس المال والعمل والموارد الطبيعية، ويرى أن الأزمة الاقتصادية ووتائر النمو المنخفضة تعود أسبابها لما عُرف بـ “سياسات الانفتاح”، الاسم الذي أُطلق في الفضاء الناطق بالعربية، منذ سبعينات القرن العشرين، على التحرير الاقتصادي، المصحوب بخصخصة أملاك الدولة وتقليص المكتسبات الاجتماعية، بعد أن كان القطاع العام قد سيطر على أغلب اقتصادات المنطقة في الستينات، وأدى إلى ارتفاع معدلات التنمية.

في هذا السياق يلاحظ الكاتب أن نسبة السكان دون خط الفقر (البالغ دولارين يوميا) تظل مرتفعة في العديد من البلدان العربية، وإن لم يكن البؤس واسع الانتشار سوى في موريتانيا والسودان واليمن وكذلك بين الفلسطينيين خصوصا في قطاع غزة، وأن اللامساواة في الدخل بين الأفراد في البلد الواحد تصاحبها لامساواة في دخل الفرد بين البلدان المجاورة، وهذه التفاوتات هي الأعلى في المنطقة العربية منها في أية منطقة جيوسياسية في العالم، وأن نسب البطالة العالية أغلبها بين الشباب والنساء وخريجي التعليم العالي، وأن أكثر من سبعة وتسعين بالمئة من العاطلين عن العمل لا يتلقون أية إعانة، وأن تدني الأرقام المتعلقة بالمشاركة والتشغيل، يكشف عن وجود عوامل إعاقة تكبح التنمية وتضعف القدرة على استيعاب الطاقة العاملة، التي تزيد مع الزيادة السكانية. وهذا ليس تعبيرا عن التناقض بين النظام الرأسمالي وتطور القوى المنتجة، بل هو إعاقة مرتبطة بنمطيات معينة للرأسمالية العربية، قامت على ريعية الاقتصاد وميراثية النظم الحاكمة، وهي نمطيات أسهمت السياسات الغربية في بلورتها وبقائها لضمان استقرار المنطقة والتحكم بمواردها، متجاهلة كل ما له علاقة بالمسألة الديموقراطية وحقوق الإنسان.

تنبع السمة الاقليمية الأولى من حصول الدول العربية على نصيب هام من تصدير خامات مستخرجة من باطن الأرض وغير متجددة (نفط وغاز ومعادن) حيث شكّلت صادرات النفط والغاز أكثر من ثمانين بالمئة من إجمالي صادرات المنطقة عام 2007، وتتيح هذه الصادرات ريعا، يعني دخلا منتظما لا يدره على صاحبه عمل يقوم به أو يستأجره، وتشكل الريوع المنجمية جزءا هاما من الناتج المحلي الإجمالي لأغلب الدول العربية، يُضاف إليها الريوع الجغرافية كرسوم العبور، والريوع الرأسمالية المشتقة من الاستثمارات المالية والعقارية، ومحافظ الاستثمارات عن طريق الصناديق السيادية، والريوع الاستراتيجية أي صنوف التمويل الخارجي التي تتلقاها الدول نظير وظيفة عسكرية أو لاعتبارات أمنية، واللافت هنا أنه كلما اعتمد تمويل الدولة على الريع زاد الميل نحو النظم الميراثية، وتقلصت سلطة برجوازية السوق، وقل الاعتماد على السوق الداخلية أو مراعاة متطلباتها.

وحسب ماكس فيبر فإن: النظام الميراثي كناية عن سلطة مستبدة مطلقة ووراثية، تعمل مع حاشية من الأقارب والمقربين، وتستملك الدولة بعناصرها الثلاثة: الوسائل الاقتصادية، الإدارة والقوات المسلّحة التي يهيمن عليها حرس بريتوري ولاؤه للحكام وليس للدولة، والرأسمالية التي تتطور في ظل هذه السلطة هي رأسمالية محاسيب، تهيمن عليها برجوازية دولة على حساب رأسمالية السوق، وتدفع للحكام ريع نقدي، وتندرج في هذا الإطار جميع الملكيات والإمارات العربية في مجلس التعاون الخليجي والأردن والمغرب والنظام السوري والعراقي حتى 2003، والليبي حتى 2011.

أما النيوميراثية فهي نظام جمهوري سلطوي مؤسسي، أي أن ممارسة السلطة لها بعد بيروقراطي “قانوني-عقلاني”مع وجود درجة كبيرة من استقلالية الدولة عن القادة السياسيين المعرّضين دوما للاستبدال، وتظل المحسوبية سمة طاغية في هذه النظم، بل إن الفساد بمعنى شراء الامتيازات عبر الرشاوى يميل لأن يكون أوسع انتشارا، وحينما يبقى نظام نيوميراثي أتوقراطي في الحكم لفترة طويلة، فإنه يميل إلى التحول لنظام ميراثي، يجري فيه نقل السلطة بشكل وراثي أو شبه وراثي، كما هي حال مصر واليمن قبل الثورة، أما تونس (بن علي) والسودان والعراق الحالي وموريتانيا فهي نظم نيوميراثية، ويمثل لبنان حالة خاصة يسوده نظام لتداول السلطة المركزية ومن ثمة اقتسام المغانم بين مجموعات مصالح متنوعة تشمل مكونات شبه مافيوية.

في الدول الميراثية تمتص الأسر الحاكمة من موارد الدولة ما يحلو لها فوق العوائد الأميرية التي يتلقاها أفراد العشائر الحاكمة في الملكيات والإمارات، أو المرتبات الكبرى التي يحصلون عليها على أسس مختلفة في الجمهوريات، وفي الدول الميراثية والنيوميراثية يستغل أفراد الزمر والعشائر الحاكمة ممن يستهويهم عالم الأعمال ما يتمتعون به من وضع مهيّمن، تكفله لهم السلطة السياسية، بغية جمع ثروات طائلة بوسائل تشمل الرشاوى وغيرها من العمولات في ظل غياب المساءلة القانونية، الأمر الذي يفسّر عدم تطور الرأسمالية في صورتها النموذجية (المنشأة العقلانية) التي تحتاج إلى مناخ قانوني وإداري ملائم ودقيق، والتي يقودها مقاولون لا تردعهم المخاطرة التي تنطوي عليها الاستثمارات ذات آجال الاستهلاك الطويلة في رأس المال الثابت، في حين تزدهر الرأسمالية المضاربة أو التجارية سيما في قطاع البناء والعقارات، أي الرأسمالية الساعية وراء الربح القصير الأجل والمتعايشة مع برجوازية الدولة.

في الفصل الرابع يحلل الباحث بنية القوى الفاعلة في الثورة ومعطيات العملية الثورية، فيلاحظ غياب التشكيلات السياسية، حيث اتسم المشهد بضمور تاريخي للتيارات الليبرالية والماركسية والقومية، في حين فرضت الحركة الأصولية نفسها منذ الربع الأخير من القرن العشرين بوصفها القوة المهيمنة في الاحتجاج السياسي على صعيد المنطقة العربية ككل، ثم أخذ نفوذ هذه الحركة بالتراجع خلال السنوات السابقة لانفجار 2011، لكن التشكيلات السياسية ليست سوى جزء من الفاعلين المحتملين في الحراك الجماهيري، فثمة مكونات اجتماعية أخرى لا تقل شأنا كالحركة العمالية والنضالات المطلبية في إطار تجمعات المجتمع المدني.

وإذا كانت الحركة العمالية قد سُحقت في أغلب البلدان العربية بفعل شروط استبدادية أو من خلال إخضاع الحركة عبر تأطيرها الإلزامي في نقابات رسمية وفقا لممارسات النظم الشعبوية أو الشمولية، فثمة بلدان يتميزان بوجود حركة عمالية مطلبية هامة رغم افتقار تاريخهما الحديث إلى النقابات المستقلة: في تونس “الاتحاد العام للشغل” وقد أسهم في النضال من أجل الاستقلال قبل أن يصبح القوة الرئيسية في المجتمع المدني، وفي مصر “الاتحاد العام لنقابات العمال” وكان منذ نشوئه مؤسسة من مؤسسات السلطة الناصرية، وكانت النضالات العمالية عشوائية تلتف حوله الناس كحال انتفاضة الخبز عام 1977. وفي كلا البلدين اضطلعت الحركة العمالية بقوة نضالات الشرائح الشعبية خلال العقد الأول من هذا القرن، ما جعل نظامي بن علي ومبارك الحلقتين الضعيفتين ضمن سلسلة النظم العربية.

أيضا تنضوي الذوات الفاعلة على احتشاد قطاعات اجتماعية منبثقة من الشرائح الوسطى الحديثة في أوساط المهن الحرة كالمحامين والمهندسين والأطباء، كذلك الطلبة ومعلمي التعليم العالي والصحافيين وذوي الياقات البيضاء من الموظفين الحكوميين والعاملين في الخدمات التجارية والمالية، كما تنضوي على الحركات النسائية في المنطقة كـ”الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات” التي ترأسها أحلام بلحاج، و”صحافيات بلا قيود” التي أسستها توكل كرمان، بيد أن غياب القوى السياسية المنظّمة القادرة على دفع الاحتجاج الشعبي باتجاه ثورة وقيادتها لهذه الغاية، أدى إلى ظهور فاعلين جدد على الساحة، ويتعلق الأمر بدور الشبكات الشبابية التي تشكلت عبر استخدام الإنترنت، وراحت ترتجل تنسيقيات للنضال ضد النظم القائمة، ومن ثم اضطلعت بالفعل بدور قيادي في الانتفاضات. وهنا يلاحظ الباحث أن توجهات معظم هؤلاء الفاعلين هي ليبرالية سياسية وثقافية ممزوجة بحس عال بالعدالة الاجتماعية، وأن فاعلية هذه الشبكات تتناسب طردا مع حجم الشبكات الفعلية، المبنية عبر عمليات التعبئة على الأرض. كما أن تنوع مسارات الانتفاضة العربية لا يفسرها قرارات الثوار بقدر ما تفسرها معطيات الواقع. فإسقاط نظام ميراثي يمتلك حرسا بريتوريا بولاءات قبلية أو طائفية أو أقليمية-جهوية يقتضي مواجهة مسلحة: إما صراع معمّم في إطار حرب أهلية، أو صراع محدود في الزمان والمكان ضمن القوات المسلحة، إذ لا يمكن إصلاح الدولة أو صدّعها أو تخليصها من الأسرة الحاكمة بالوسائل السلّمية، بل يتعين تحطيم نواتها الصلبة أو حرسها البريتوري تحطيما كاملا بواسطة السلاح.

وفي معرض بحثه، يعتقد المؤلف أنه من الطبيعي أن تكون نسبة أنصار “نظرية المؤامرة” أعلى من المتوسط في صفوف نوعين من الجمهور: مناهضو الامبريالية وأهل الشرق الأوسط، لكن الادعاء بأن الربيع العربي من تدبير الولايات المتحدة، كي تكمل وترسّخ هيمنتها على المنطقة، وتخدم مصالح إسرائيل، فكرة تعكس اعتقادا ساذجا بان الولايات المتحدة بيدها ملكوت كل شيء، ورؤية مشوهة لأثر الانتفاضة على مصالحها ومصالح الدولة الصهيونية، كذلك تعكس احتقارا عميقا للشعوب الثائرة، نابع من عقلية رجعية أيا كانت ادعاءاتها السياسية، بيد أن النظرية تستند إلى مجموعة من العوامل الموضوعية، بدءا من أن الشرق الأوسط كان خلال القرن العشرين مسرحا للعدد الأكبر من المؤامرات الحقيقية، مرورا بالتدخل العسكري للناتو وحلفائه في ليبيا، وصولا إلى مختلف أوجه التدريب والتمويل المقدمة من قبل مؤسسات أميركية إلى أفراد ومنظمات غير حكومية من الناشطين حول مسائل الديمووقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة.

في المقابل يؤكد المؤلف أن الحكومات الغربية لم تكن هي المحرّضة على الانتفاضات العربية، أو حتى المتحكمة في فك عقدتها. بل على العكس من ذلك ارتبكت ارتباكا شديدا من جراء الانفجار في المرحلة الأولى، ثم راحت تتحسس خطاها في ظل أقصى درجات انعدام اليقين فيما يتعلق بمستقبل المنطقة، وبدلا من مقاومة التيار حرصت منذ البداية على إبداء تضامنها مع مطالب الحرية التي نادى بها المتظاهرون، ثم اعادت علاقاتها مع الإخوان المسلمين تخوفا من صعود السلفية الجهادية.

هل بوسع الأصولية الإسلامية المعتدلة نسبيا التي تحاول محاكاة حزب العدالة والتنمية في تركيا، والتي تولت الزمام في البلدين اللذين افتتحا الثورة، هل بوسعها أن تقود نهضة في المنطقة؟ وهل الإسلام هو الحل؟ يجيب جلبير الأشقر أن الإسلام لا هو المشكلة ولا هو الحل، وإذا كان الدين يلعب دورا أكبر في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، فإن هذا ليس سببا بل نتيجة لأحوالها الاجتماعية والاقتصادية، حيث يشير إلى أن تنمية اقتصاداتنا لن تتم بالاتكال على الرأسمال الخاص، ولا على مرجعيات الشريعة والتكافل الاجتماعي، بل تتطلب القطيعة مع النموذج النيوليبرالي وإعادة الدولة والقطاع العام إلى موقع قيادة التنمية، وذلك بتسخير ثروات البلاد لهذا الهدف بواسطة الضريبة التصاعدية والتأميمات، وإحياء المشاريع الاجتماعية التقدمية على أساس ديموقراطي عميق، وفي ظل وجود حركة عمالية قوية ومستقلة عن الدولة، ففي الوقت الحاضر يتمثل الإنجاز الوحيد للانتفاضة العربية في أن شعوب المنطقة قد تعلّمت أن تريد، وأن تعبر عن إرادتها، وتعلّمت أن السلطة في الشارع، وهي مكمّل ومصحّح لتلك التي تنبع من صناديق الاقتراع، حتى حينما لا يكون الاقتراع مزورا.

تهامة الجندي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى