سلام الكواكبيصفحات الثقافة

الشعراء الذين لا يشعرون


سلام الكواكبي

ضجت الأوساط الثقافية السورية خصوصاً والعربية عموماً، المعنية بحوارات الثورة ودور المثقف فيها، بتصريحات شتائمية أو شتائم مصرّح بها من قبل الشاعر العراقي الكبير في زمن مضى، سعدي يوسف، بحق مجمل الانتفاضات العربية والقائمين بها من عناصر فاعلة، ومنهم آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين، أو من عناصر مؤثرة، ومنهم عشرات الأكاديميين والمثقفين الذين كانوا في يوم من الأيام ممن تقمص دور المثقف التنظيري، كالشتّام سعدي يوسف، وانتقلوا في تطور إيجابي ومنطقي إلى دور المثقف العضوي الذي نادى به اليساري الكبير غرامشي، ليضعوا موضع التطبيق كل المبادئ التي ناضلوا طويلا في قاعات المحاضرات أو على ناصيات المقاهي في سبيلها·

ولكن، هل يستحق موقف نقدي تجاه عمل سياسي مهما قسى أن يواجه بالتنديد أو بإقصاء صاحبه من صفوف ممن هم نخبة الفكر والفن والثقافة في أمة عربية أفقرت ثقافتها عقود الديكتاتورية من جهة، وقرون الظلامية من جهة أخرى؟ دعه يقول ودعه يصرح بما يريد، فأنت ديمقراطي أولاً وآخراً· أهذا ما يمكن أن يواجهوننا به عتاة ”الديمقراطية المختارة” أو ”الديمقراطية المتلونة” أو ”الديمقراطية متى أردت أنا وصحبي”؟ بالتأكيد· ولكن ما أتى به سعدي يوسف من شتائم، تعاقب عليه قوانين المطبوعات في أعرق ديمقراطيات الأرض، فهل لي بأن أعتبره تعبيراً حراً عن الرأي؟

في زمن الفيسبوك والتويتر، من الطبيعي أن نقرأ يومياً أطنان من الشتائم والكلام الذي ينم عن مستوى أخلاقي متدنٍ لمن يتلفظ به أو ينقله، موالياً كان أم معارضاً· وكذلك، للشبكات الاجتماعية أن تنقل ما لذ وطاب من الشائعات الحاملة لألفاظ نابية وتعبيرات يزكم مستواها الأنوف· مع ذلك، فهناك قوانين متطورة تلاحق بتهمة القذف والتشنيع لمن يستغل الفضاء التكنولوجي ولكنها غير مطبقة بشكل واسع وفعال· ونحن الآن نعيش مراحل الثورة والانتقاص من الثورة والثورة المضادة عبر الشبكات الاجتماعية التي لا يتورع بعض مستخدميها عن اللجوء إلى الحيل البصرية أو التطبيقات الكلامية لإيقاع من يريدون في شر أعمالهم وأفكارهم ونواياهم·

أما في الصحافة المطبوعة، فهل من المقبول أن تنتشر هذه ”الثقافة” التي تعبر عن بورنوغرافيا العقل في صفحات الجرائد والمجلات؟ بالتأكيد، هذا غير مقبول وغير قانوني· فعندما تنشر شتائم تقشعر لها الأبدان وتمس الشخصي والحميمي والإنساني، فهي تمارس بورنوغرافيا إعلامية بامتياز وتعطي شهادة سقوط سلوك للقائمين عليها وليس فقط لمن كتب فيها· فكاتب معلقة الشتائم، وليكن سعدي يوسف مثلاً، عندما ينشر ترهاته على صفحات موقعه الإلكتروني الذي لا يقرأه إلا حفنة من مرضى التلصلص الثقافوي، فهو يمارس العادة السرية الفكرية في الخفاء تقريباً، وبالتالي، فما يهرف به يمر مرور ”الكرام”· أما أن تتبنى صحيفة نشر الشتائم والتحقير الشخصي، فناقوس الخطر يدق حول ما تحمله عبارة حرية التعبير من معاني، وبالأحرى، حول ما يفهمه البعض من منتخبي ترجمتها كما يليق بهم من معانيها·

سعدي يوسف، انضم للائحة طويلة من أسماء أبواق الأنظمة المستبدة واعتبر أن كل ما جرى من ثورات في البلدان العربية هو صنيعة إمبريالية بامتياز، وحيكت في مطابخ أجهزة المخابرات الغربية والفضائية المتآمرة على دول عربية ممانعة وصامدة في وجه شيء ما موجود في مخيلة هذا الشاعر· وإلى هنا، فالاختلاف مع وجهة النظر هذه حق، ولكن لا يعني ذلك منع سماعها أو التعليق عليها أو نشرها· ولكن عندما ينتقل الكلام إلى سرد قصص من الخيال اللاشعري بامتياز تتعلق بشكل كائن بشري أو بنظافته أو بلباسه أو بمأكله أو بمشربه، فأعتقد بأن حرية التعبير انتقلت إلى ثقافة الطاروق، والطاروق هو الحيز الصغير بين الرصيف والشارع المعبد، ومن خلاله تسيل المياه القذرة أو الموحلة أو الموبوءة· والفرنسيون يستعملون هذا التعبير بدقة وأرى استعارته عربياً لبلاغته·

منذ يومين، أتحفنا شاعر آخر لم يعد يشعر، وهو الذي كان كبيراً واسمه نزيه أبو عفش، بمقابلة تحمل الكثير من التخوين والشتم الفكري، لا الشخصي، لمن يقبل بفكرة الحرية ولمن يعتنق الإيمان بمآلات الانتفاضات السلمية في مختلف أصقاع الدول العربية· ولقد خص في حديثه بالتأكيد الحالة السورية حيث هو معايش لها عن قرب جغرافي ربما، ولكنه بعيد كل البعد عنها في بعديها الأخلاقي والإنساني· ولقد عزز موقف الشاعر نزيه أبو عفش، الذي عانى كثيراً من استبداد السياسة ومن إقصاء الثقافة ومن عهر الإعلام الرسمي، القناعة لدى من يراقب تطور الساحة الثقافية العربية بالتوازي مع الانتفاضات التي أفضت إلى تغيير أو التي في طور الإتيان بالتغيير، المخاوف من اضمحلال القدرة الفكرية (العقلية؟) لأصحاب قامات ثقافية كانت في زمن مضى كبيرة المعاني وشكلت حوامل ضمير لأجيال متعاقبة في المشهد السياسي والثقافي العربي·

وفي جوابه على من يطالبه بدعم الثورة القائمة، يجيب نزيه أبو عفش: ”إذا كانت ثورتكم ستنزع مكاسب الفلاحين التي حصلوا عليها من أيام العظيم عبد الناصر إلى اليوم أيضاً سأقول لكم: لا، إذا كانت هذه الثورة بصفتها ديمقراطية وحرة ستمنع عن التلاميذ حقهم في التعليم المجاني سأقول: لا، أريد أن أعرف إذا كان هناك بعد هذه الثورة عودة إلى الإقطاع؟ إذا كانت هذه الثورة ستجرّم اليساريين؟ إذا كان الكهنة سيحكمون البلاد؟ فمنذ تسعة أشهر لا تقولون لنا سوى إركعوا للديمقراطية، طز بالديمقراطية، أنا من أربعين عاماً لا أؤمن بالأنبياء مع أن معظمهم أحترمه، إلا أنني لا أؤمن بهم، قل لي ماذا سنفعل بهذه الديمقراطية؟ بحياتي لم أكتب نصاً أمتدح فيه الديمقراطية، لطالما قلت: أنا أكره الديمقراطية وأمريكا”·

في موقفه المعبّر عنه آنفاً، يصدر حكماً قيمياً حاسماً بطبيعة ما يجري دون أن يطرح أسئلة أو أن يشارك في صنع الأجوبة· إنه يفترض حتماً بأن التغيير الحاصل سيلغي مكاسب ”اشتراكوية” متخيلة· عن أية مكاسب يتحدث؟ ربما قرأها في كتاب الثقافة القومية في الابتدائية وتشبث بأطيافها· أو إذا اعتبر بأن التغيير سيأتي حتماً بالكهنة ليتقدموا سدنة الهيكل ويزيحوا أرباباً متوجين من قبله ومن قبل أمثاله، فهو يشتم حيوية شعب بكامله، وسيشتم يساراً بكامله، ويشتم وعياً علمانيا وعقلانيا بكامله يعزز مواقف غالبية من يدعم الانتفاضة من أجل الديمقراطية· أما فيما يخص أن أبا عفش لم يمتدح الديمقراطية في حياته، فهذا حقه، كما أنه من حقي أن أعتبر أن يسارويته هي عبارة عن فقاعات هواء ملوث لم تسمن جياع ولا ألبست عراة وإنما أدت بشعوب بكاملها إلى أن تكون خاضعة لرأسمال احتكاري سافل مارسته سلطات مستبدة متدثرة بعباءة اليساروية التي خاطها أمثال نزيه أبو عفش·

في تعليق فيسبوكي متميز يقول صاحبه السوري عماد الظواهرة: ”أمام حجم اللحظة، رهبتها، تعاني بعض الشخصيات شديدة الحساسية (كبعض الشعراء) حالات ردة نكوصية، يرفضون الماضي المؤلم، يخافون الحاضر المتغير، يتوجسون من المستقبل·· يلتجأون للإيديولوجيا (بالمعنى السلبي للتعريف، أي: موشور المعارف الذي يسبب تشوه الرؤى والوعي)·· وخاصة عندما ينسبون نفسهم للماركسية، يخرج الخليط، عجيب غريب·· هنا نقرأ نموذجاً قلقاً مهلوساً··”· الهلوسة التي تفقد الشعراء الشعور· ربما·

 الجزائر نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى