صفحات الثقافة

الشعراء يُحيون ربيعهم هذا العام وعيونهم في الأفق تُقلّب وجع البيادر والأسئلة الجريحة

بمناسبة اليوم العالمي للشعر، وفي خضّم ثورات الشعوب العربية:

عبداللّطيف الوراري

ربيع الشعوب العربية، ربيع الشعر: فاتحة العام 2011م ليست ككلّ فاتحة. هي فاتحة، بكلّ المعاني وأجلّها، لبدايات عهْدٍ جديدٍ تأخّر لقرون طويلة غاب عنها هواء الحرية، في هذه البقعة العزيزة من العالم. بدأ العام بالرياح المستحقّة التي هبّتْ وبشّرتْ. من يوم إلى يوم، كان يسيل الدم، وكلّما سال الدم أزهر في الساحات، وارتفعت عرائشه سقفاً من الحبّ والحياة لا يُحدّ.

فما حدث من ثورةٍ شعبيّة مشهودة في تونس الخضراء يوم 14 كانون الثاني (يناير)، وفي مصر المحروسة بين 25 من الشهر نفسه و11 شباط (فبراير) 2011 ـ وهما ثورتا كرامة أوّلاً، ولا علاقة للياسمين ولا للـّوتس بذلك ـ، وما حدث بعد ذلك، تحت تأثيرهما المدوّي والصاعق، من حراكٍ شعبّي قاد موجاتٍ عارمة، من العراق إلى المغرب، للمطالبة بالتغيير والإصلاح المنشودين، لا يمكن ان يوصف بأقل من كونه خرقاً للعادة، لا في تاريخ الأمّة العربية وحدها، لا في تاريخ العصر الحديث برُمّته. وهو، بهذا المعنى، حدثٌ مؤسِّسٌ بالمعنيين التاريخي والثقافي ـ السياسي، بتعبير الشاعر أدونيس. وتتجلّى قيمة هذا الحدث / الزلزال في أنّه أطلق إرادات الشعوب العربية لأوّل مرة، وبدّد غيوماً كثيفة من مشاعر الإحباط واليأس لدى فئاتٍ عريضة من المجتمع، بمن فيهم المثقّفون أنفسهم، وبعث الآمال بتأسيس ديمقرااطيّات حقيقية تُدشّن لمرحلة جديدة في الحكامة، والعدالة، والمساواة والحرية. والطريف أنّ قطاعاً مهمّاً من المثقفين الذين يفترض فيهم الهجس بالحدث والمساهمة فيه وقيادته، كان في موقع متأخّر، ووقف عاجزاً لا يكاد عقله يستوعب ما يجري فعلاً، لأيّام متسارعة، ومن دون رتوش تجميلية، من مظاهرات سلمية حاشدة في الساحات وأمام مقرّات الحكومة والجيش والتلفزيون والحزب الحاكم؛ بل من هؤلاء من سقط شرَّ سقطةٍ، وقام بانقلابٍ مُخْزٍ ضد كلماته، في أوّل امتحان حقيقي بعد سنوات من ‘حلية المحاضرة’ في التنوير والعدالة والحرية. في المقابل، بدا خطاب آخرين قادراً على فهم ما يجري، ومحاولاً تأويل مدلولاته وصوره وتمثيلاته داخل المجال الثقافي العربي، فيما هو ينصت لكلمة الأجيال الشابة في عفويّتهم ورغبة تحرُّرهم من عقدة النقص والدونيّة وهوس حفلات التصفيق، وإن فاجأهم السقف العالي لهذه الكلمة: الشعب يريد إسقاط النظام، الذي أنتجه شباب الثورة التونسية ويترجمه الى واقع في 23 يوماً، ثم يتلقّفه شباب ميدان التحرير ويترجمونه بدورهم إلى واقع في 17 يوماً، جنباً إلى جنب مع العديد من الشعارات المحلية والأجنبية التي كانت تتدفّأ بها جدران الساحات، واللوحات الثابتة، وملابس المعتصمين ووجوههم وأجسادهم، وحتى الدبّابات والمجنزرات المشدوهة ممّا يجري.

كعادتهم، في حدّة إصغائهم للجمعيّ، كان الشعراء أوّل من يتنبأ للفجر، ويفرح بانبلاجه، ويلتقط أشعته الأولى التي استلهموها في قصائدهم بأشكالها المتنوّعة، مردّدين مع أخيهم ذي العشرين ربيعاً نشيده الخالد: ‘إذا الشعب يوماً أراد الحياة’. فقد فتحت الأبواب والنوافذ، من بيت إلى بيت، مصاريعها ليحرّر الهواء دم المجاز ويُطلقه حُرّاً معافى في ربيعٍ سابقٍ لأوانه، ربيعٍ في عزِّ الشتاء.

جدل القصيدة والحدث:

شعراء جاؤوا من الثورة، وشعراء استلهموها أو ثمّروها في الغد!

علاوة على مناقشاتهم المباشرة والحيويّة على صفحات التواصل الاجتماعي، وتدبيجهم بيانات لنصرة الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والعراق وسواها، وتواقيعهم بالمئات عليها، بل نزول كثيرٍ منهم إلى الساحات للاحتجاج السلمي والمطالبة بالتغيير والإصلاح، لم يتوانَ الشعراء بدورهم في أن يشرعوا القصائد على مصاريعها، مستضيئين بشعلة البوعزيزي الفاتحة، وأصوات ميدان التحرير المدوّية، ومتجاوبين مع نداء الساحات وأشواقها في صنعاء وبنغازي والمنامة وبغداد والرباط وبيروت ودمشق. لم تكتب هذه القصائد وفق أسلوب واحد، ولا على سويّة واحدة: شكلاً ولغةً وتخييلاً. هكذا، وجد الشعراء أنفسهم، بعد عهْدٍ من الإصغاء حيناً والعزلة واليأس حيناً ثانياً، في قلب الحدث، صادحين بأبيات لا تخيب من البلاد والمهاجر على السواء.

بمناسبة اليوم العالمي للشعر، وفي خضّم ثورات الشعوب العربية، وتبلبل أنساق الخطاب البشري برمّته، طرحنا على شعراء يمثّلون روح الشباب، شاركوا في ثورة بلدهم، وآخرين كتبوا وحيّوْها أوّلاً بأوّل، الأسئلة: أين يقف الشاعر ممّا يحدث الآن؟ هل تقدّم قصيدته توصيفاً لما يحدث، وتتقدّم؟ أم تقدّم نفسها كعزاء لا أقلّ ولا أكثر؟ هل يمكن القول إنّ الشعر العربي انتقل إلى ذائقة جديدة معجماً وتخييلاً وإيقاعاً؟

من اللا ـ مكان والحياد إلى الالتصاق بالثورة وغليان اللحظة:

بنبرة فيها تأسٍّ، يقول الشاعر العراقي حمد محمود الدوخي إنّ ‘الشاعر يقف في اللا ـ مكان إذ أنه يعي أن ما يحدث في ساحتنا العربية أكبر من الثوار ـ الأبطال بالطبع ـ وأكبر من العُقداء والرؤساء والملوك (الأشاوس!)، لأنّه ـ الشاعر ـ يعرف أننا أمة خاملة غير حاضرة في تعداد الأمم المشاركة في صناعة العصر الحديث. يعرف أننا أمة مستهلكة لا مكان لها غير ما بقي من آبارها وأنابيبها التي اكتشفها لها الغرب لكي تبقى حارسة عليها. هذا هو مكاننا’. ولهذا السبب ربّما، اعتذر الشاعر المغربي مبارك وساط عن عدم إرسال أجوبة، لأنّه لم يتمكّن من ذلك من قبل، وقال: ‘لقد اكتشفتُ الآن أنّ الأوان قد فات. متاعب الحياة تحول أحيانا دون الانكباب على ما نحبّ’. وبالمثل، يشكو الشاعر حكمة شافي الأسعد من الفضائيات التي لا تترك له وقتا للتذكّر، أو الشعر، أو البحث فيه، قائلاً: ‘فما يحدث الآن يجعل الشاعر شبه محايدٍ مؤقّتاً، أمام مدّ اللغة الشعبية الشبابية التي تفهم الشاعر أكثر من الشاعر على ما يبدو، ببساطتها وشجاعتها وقولها ما يدلّ من دون زخرفة متعالية يتبعها الشاعر، أعتقد أنه على الشاعر الآن ألاّ يتسرّع في الكتابة، حتى ينتهي الانفعال وردة الفعل، لأن الشعر سيكون الآن مباشراً، مما قد يهدد مشروع الحداثة بالرجوع إلى الوراء كثيراً’. لكن رأياً للشاعر الكردي المقيم في ألمانيا حسين حبش يتجاوز هذه النبرة من التأسي والحيدة، ويُقرّ ‘بإمكان الشاعر أن يقف في قلب الثورة ويشارك في تأجيجها وصنعها كأيّ مواطن تهمه مصلحة شعبه وبلاده. بإمكانه أن ينادي ويصرخ ويندّد ويقف في الصفوف الأمامية ويشرع صدره لكل الاحتمالات كما الآخرين تماماً. بإمكانه أن يتأمل ويتفاعل ويندهش. بإمكانه أن يقف على الناصية ويراقب من بعيد؛ وبإمكانه أن يجلس في بيته أيضاً’. لكن السؤال الأهمّ الذي يشغل بال صاحب ‘أعلى من شهوة وألذ من خاصرة غزال’ و’ ضلالات إلى سليم بركات’، هو: ‘هل سيكون بإمكان الشعر أن يأخذ زمام المبادرة ويتفاعل مع الحدث مباشرة؟ وهل سيكون بكامل الجمالية التي يوصف بها عادة؟’، ويجيب مستطرداً: ‘باعتقادي أن الشعر يعجز عن ذلك، وهو ليس مطالباً بذلك أصلاً. وإذا ما حدث واستجاب، فستكون استجابته واهنة وباهتة في أغلب الأحيان ولن ترقى إلى مستوى الثورة وعظمتها، لأن طبيعة الشعر كما نعلم تخالف كل الوقائع والتوقعات والمفاجآت الموجودة والملموسة على أرض الواقع. هو مفاجأة نفسه وذاته، وهو على الأغلب يحتاج إلى اختمار وإلى فترة زمنية كافية ليقول كلمته وجمالياته بحرية مطلقة، ووفق مزاجه الغريب والمتّقد، وحينها قد يأتي أو لا يأتي، قد يقول كلمته أو لا يقولها، ولا عتب ولا حرج عليه مهما كان’.

لكن الشاعر التونسي صلاح بن عياد قال إنّ الشاعر قال كلمته، حتى وإن لم يكن له من منفذ سوى أن يلوذ بتفاصيل القليل من الحياة كهواء في ظلّ اختناق يفرضه النظام السياسيّ المتعنّت، وفي غياب حريّة تسمح له بخوض القضايا الكبرى، إلا الاعتناء بتلك التفاصيل كان ذا دلالة إذا ما عالجناه من ناحية انتصار الشاعر على الموت الذي يفرضه النظام المستبدّ فرضاً’. وزاد صاحب ديوان ‘برّاق أيّها العنف الكامن في السّواد’ الصادر عن ‘دار الغاوون’: ‘هذا الشاعر (الحرّ) إذا ما تجرّأنا على هذا القول، وجد نفسه متناغماً مع الشعب، بما أن هذا الشعب ما هو سوى منتج لتلك التفاصيل التي هي تفاصيل بعض الحياة المتاحة له، فمن الطبيعيّ أن يجد الشاعر نفسه كغيره من المثقفين والفنّانين يصرخون صراخ الشعب على إثر هبّة تونس الأخيرة. لقد تمايلت يداه مع أياديهم ووجد نفسه ذائبا بينهم لا شيء يشير إلى هويته الثقافيّة وأخذ الصراخ والتظاهر على أنهما من الواجبات الوطنيّة الملحّة’.

ومن ميدان التحرير الذي نزل إليه مع جموع الثائرين، أكّد الشاعر المصري إيهاب خليفة أنّه في ‘الثورة حرّك الشعر كلَّ ساكنٍ، وفي الثورة سكنت للشعر كل الحواسّ !!’، مشيراً إلى أنّ ‘الشعر كان يحتاج إلى حدثٍ استثنائي، حدثٍ أشبه بلحظة مخاض، حدثٍ كقيامة غير متوقعة على الأرض. لقد ترجّل الشعر وهو يشعر بالإهانة برقته وتاجه الملكي بفراشاته، وأثيريّته، بأقواسه القزحية ورذاذه الخلاق، بظله الذي يلامس الكائنات فيحيي الحواس الميتة، ترجل الشعر مستنكرا الدعوة المحمومة ضد كيانه، فقد أعطى وعد بلفور ـ عصفور الرواية الحق في أن تكون ديوان العرب المعاصرين !!’.

وعن هذه اللحظات التاريخية التي فاجأت الكلّ، وما تمخّضت عنه من رجٍّ للشعري والإنساني، يقول الشاعر المغربي جمال الموساوي: ‘إذا تأملنا ما يحدث حولنا، والذي نحن معنيون به كآخرين، سنجد أنّ شعراً قليلاً رافق اللحظة الفارقة بين زمنين، سواء في تونس أو مصر، وبالتأكيد لن يختلف الأمر في المغرب واليمن والبحرين وغيرها من الدول في المنطقة، هل لأن الشعر عاجز عن ذلك، أم لأن الشاعر يدفع بالشعر إلى مستوى أعلى، أي المساهمة في صياغة أسئلة المستقبل، لينخرط هو، أي الشاعر، في تصحيح مسار الحاضر بأشكال مختلفة، سواء بالنزول إلى الشارع، باعتباره واحداً من الناس، أو بأشكال الكتابة الأخرى الأكثر استجابة لغليان اللحظة، سواء أكان ذلك عبارة عن مقالة أو رسالة قصيرة على الهاتف أو الإنترنت’، وتابع صاحب ‘كتاب الظلّ’، الفائز بجائزة ‘بيت الشعر في المغرب’: ‘من المؤكد أن التحولات الطارئة، طارئة بالرغم من كونها نتاج مخاض طويل، قد فاجأت الشاعر كما فاجأت كل الناس، ليس لأنه لم يستشعرها لكن لأنه كان يظن أنها تحتاج إلى وقت طويل لكي تتحقق، لكن حتى مع انتفاء عنصر المفاجأة لم يكن للشعر أن يواكب كل ما يحدث، وقد يكون متسرعاً فينتج خطاباً لا شعراً’.

أوضاع الشعر اليوم وموقف الشاعر ممّا يحدث:

وعن وضع الشعر الراهن لم يُخْفِ إيهاب خليفة قلقه، مشيراً إلى أنّ الشاعر كان ولا يزال محاصراً ومُمزّقاً؛ فالجمهور لا يمتلك مفاتيح شفرة الخطاب الشعري، ومبيعاته راكدة كماء آسن، والشعراء غاوون لا يريدون أن ينصاعوا سوى لهواجسهم الداخلية وحروبهم الأهلية التي لا تنتهي بسبب اختلاف أنماط الكتابة، وهو ما زاد في إقصاء الشعر وتهميشه. وهذا الحصار على الشعر ـ يضيف الشاعر المصري الذي صدرت له دواوين ‘مساء يستريح على الطاولة’، ‘أكثر مرحاً ممّا تظن’، ‘طائر مصاب بإنفلونزا’ و’ قبل الليل بشارع’ ـ كان يحتاج إلى حدث استثنائي، وفذّ، ومباغت، بحيث يتصدع هذا اليقين المزعوم، ويخرج الشعر عن عزلته: ‘وكان هذا الحدث الاستثنائي هو الثورات العربية التي امتزج فيها الشعر بالميدان بالصحافة بالدم بالتلاقي في الساحات، وكأنك يا شعر لم تكن سوى نار نائمة تحت الرماد، فلما هبت رياح التغيير كان أن نهض الشعر كإعصار مدوخ ومربك، معيداً صياغة المشهد، ومُلقياً ما في يمينه فيلقف ما يسردون، ثم إن كل الحواس أضحت تسكن إليه، ثم إنه أضحى يحرك كل حاسة ساكنة بعد أن هتك ستر يقين السلطة المزعوم’.

وهو ما يفهمه ويلحّ عليه بصيغته الشاعر التونسي الذي كان متحدّثاً باسم لجنة حيّ في أعقاب ليلة هروب زين العابدين بن علي، فأشار إلى أن متأمّلا للحركة الثقافية والشعريّة في تونس ما قد ينسحب على التجربة المصريّة أو أي أرض عربيّة أخرى تعيش مرحلة الفورة التي في طريقها إلى ‘الثورة’، عليه يلحظ نوعاً من الحركية التي لم نألفها. وقد يذهب البعض إلى اعتبارها نوعاً من الانتعاشة التي ستتعمّق مع الزمن ما حصل في بلدان أوروبية عاشت ثورات مشابهة، ثورات من أجل الحريات والكرامة. وقد نستطيع ضمن هذا المضمار استحضار الحركة الثقافية التي حصلت على إثر ثورة فرنسا (أيار / مايو 1968) وهي ثورة قد تشبه إلى حد بعيد ما حصل في تونس وفي مصر سنة 2011 خاصة في صبغتها الشبابية. ففي فرنسا مثلا مثلت ثورة 68 جرعة هائلة إن صحت العبارة لكل أنواع الكتابة، خاصة منها الرواية ضمن ما يسمى ‘الرواية الجديدة’. إنّ الشعر ـ كما يذهب إلى ذلك ـ عاش الثورة بوجهين مختلفين، واحد من الشعب إضافة إلى كونه شاعرا سيرتطم لا محالة بمنعرج إن صحت العبارة، وهو منعرج شعريّ في طبق. سيحتاج إلى مراجعة قصيدته ورؤاه وستفتح أمامه آفاق من التفاصيل ومن الكليات أيضاً. سيطمح إلى نقل تلك الثورة إلى شعره خاصة وهو في سياق شعريّ عربيّ يشكو من ناحية ما من ركود قد لا نختلف عليه. وقد يكون القارئ العربيّ الآن طامحا إلى كتابة من طينة أخرى، كتابة لا كتلك التي جعلته يقلع عن قراءة القصيدة أو حضور الأمسيات وهو سليل ما يسمى ‘أمة الشعر’ أو من منظومة ما يسمى ‘الشعر ديوان العرب’. شاعر الثورة العربيّة إذن أمام فرصة إعادة شيء من الألق لذاك الديوان المهجور تقريبا. هذا وقد يكون الركود ذاك ما هو سوى نتيجة لتعنّت سياسيّ طال حريات القريحة الشعريّة والعمل الثقافيّ والفنّيّ برمّته’.

من هنا، يرى الشاعر جمال الموساوي أنّ الشاعر العربي في هذه اللحظة المهمة من التاريخ في منطقتنا، يحتاج ‘إلى الإعلان عن موقف واضح من غير انزياحات لغوية ولا استعارات، من شأنها أن تجعل من البحث عن هذا الموقف بين السطور قضية قد تؤدي إلى التغطية على القضايا الأكبر التي يختلج بها الشارع في أكثر من بلد’. وهو، بهذا الاعتبار، يرى ‘أن مهمة الشعر هي أن يتأمل ويطرح أسئلة حول الوجود، وما يحدث في المنطقة التي نعيش فيها جزء من هذا الوجود المحفوف بالمخاطر وبالآمال معا. تلك إذن مهمة الشعر، أما مهمة الشاعر فهي مختلفة، قليلا، فهو يعيش هذا الوجود بكل ما فيه، سلباً وإيجاباً، وبناء على ذلك مطلوب منه أن ينحاز إلى الجهة التي يراها الشعر المتأمل أفقا للقيم الإنسانية التي أضحت مكتسبات مشتركة بين البشر في الشرق والغرب معا. الشعر إذن لا يغير معجمه، لأنه في كل الحالات معجم يستمد عنفوانه من انتمائه لهذا الأفق. بمعنى آخر فما يتغير، أو ينبغي أن يتغير إنما هو تموقع الشاعر تجاه ما يقع’. ثمّ يستنتج: ‘من هنا لا أرى أن على الشعر تقديم توصيف لما حدث ويحدث، تلك ليست مهمته، بل عليه أن يشرئب إلى المستقبل من خلال النظر عميقا بطرح المزيد من الأسئلة استشرافا لأجوبة تصنع شكلا لهذا المستقبل وتمنحه مضمونا يليق به وبالإنسان الذي لا يتوقف طموحه عند سقْفٍ محدّد’.

وعي حادّ، وهايكو على طريقة الثورة والثوار، وخضرة للأسماء آتياً:

منذ بدء اندلاع هذه الثورات والانتفاضات السلمية الرائعة والمباركة، وإلى هذه اللحظة، قرأ الشاعر حسين حبش نصوصاً وقصائد كثيرة، لكن أغلبها في نظره ‘لا يرقى حتى إلى مستوى حنجرة مبحوحة تنادي بإسقاط النظام. أجمل قصيدة كانت وما زالت هي قصيدة (الشعب يريد اسقاط النظام)، هايكو على طريقة الثورة والثوار. بناء على ما ذكرت، فإنه ما زال الحديث عن انتقال الشعر إلى ذائقة جديدة معجماً وتخييلاً وإيقاعاً باكراً، بل وباكراً جداً’. وهو رأيٌ يوافقه فيه الشاعر حكمة شافي الأسعد الذي صرح أنّه لم يطّلع بعد ‘على نماذج متكاملة جديدة من شعراء ذوي قيمة في الفن والحضور، فالمرحلة لا تزال ساخنة’؛ وأضاف صاحب ‘جمع تكسير الأصابع’، الحائزة على جائزة الشارقة، أنّه منذ أيام كان ومجموعة من الشعراء يناقشون عن شعر المرحلة في إذاعة دمشق، وأنبأهم بأنّ: ‘الشعر سيتغير قريباً، لأن ما يحدث في الواقع العربي سيفرض نفسه على الأدب، فكل ثورة تحمل تغيراتها؛ لذلك قد نصطدم بواقع أدبي جديد، قد لا يتناسب مع ذائقتنا، وقد نضطر لمراجعة أسس الشعر المحددة عند كل شاعر’.

هذا الحدس بالتغيير الذي يطال بنيات الشعر ومتخيّله، هو ما جعل الشاعر حمد الدوخي، صاحب ‘عذابات’ و’ مفاتيح لأبواب مرسومة’ و’ الأسماء كلها’ الحاصل على جائزة ديوان الشعرية ببرلين، أن القصيدة العربية اليوم ‘في المنطقة المُحرجة’؛ فهي ‘مُلزمة بتقديم التوصيف هذا، وفي الوقت نفسه أن تحافظ على أناقتها العالية’، ثمّ سرعان ما قال: ‘أعتقد أنها ستكتفي بأن تكون عزاءً ذاتياً يستبطن الروح الشاعرة الدائبة ببحثها عن كنهها ومعناها ولماذا هي هنا’. وبعمله في نقد الشعر وتأويله، يؤكّد الدوخي أنّ شعرنا العربي يمرّ بمرحلة انتقاليّة:

ـ إذ لا بد لمعجمه أن يكون معجماً يراعي منزلته العربية وما يُتطلب منه لكي يكون مقبولاً وشاملاً لتمفصلات محليته الخاصة، أي أن يكون حداثوياً غير منقطع عن تراثه وتاريخه الذي يجب أن يظل مصدره وروح مَقُولهِ.

ـ وأيضاً بالنسبة للفعل التخييلي فهو كينونة الكتابة، ويتمظهر من خلال اللغة الكاتبة والتدليل الناتج عن هذه الكتابة، أي أنه فعل يتمظهر بالمعجم الحاكم لآلية الفعل الكتابي.

ـ أما الإيقاع فيجب أن يُفعَّل أكثر وأن تتم عمليات استثمار الإيقاع البصري والإيقاعات الأخرى في بناء النص الشعري كإيقاع الحوار والأفكار واللون وغيرها ليظل هذا العنصر فاعلاً في بنية النص الشعري وأن لا يظل حبيس السكة الإيقاعية الموروثة التي لم يتوافر لها أن تتحرر منها إلا مؤخراً على يد السياب ومن معه من المؤمنين بكتابتهم ـ هذا إن كنت تقصد الايقاع الشعري. أما إن كنت تقصد إيقاع الشعر فهو بنيته الكاملة، كما هو ايقاع الحياة: طرازها، وهذه البنية تكتمل عن طريق مراعاة ما سبق: أي ان يتعاضد المعجم والتخييل للوصول إلى إيقاع ملائم بقوة لتمثُّل روح العصر’.

إنّ الكلمات ـ يقول صلاح بن عياد ـ قد تظاهرت بدورها في الشوارع التونسية، وعرفت انتعاشة عظيمة وخرجت من جسد لغوي متخشّب لتتداوى من الركود التي كانت عليه لحقب طويلة. فكلمة ‘حريات’ استعملها النظام المنحل في تونس ليعني بها ضدّها بما في الضدّ من معنى وتلاعب بكل الكلمات الأخرى والتي رفعت في كل المدن التونسية باحثة عن معانيها المعجمية والاصطلاحية الحقيقية. القصيدة من وراء ذلك تكاد على أثر ثورة كانون الثاني (يناير) التونسية أن تعثر عن سياقها الحقيقي، كما هي مطالبة بأن تعثر على شاعرها الحقيقي وقارئها الحقيقي أيضا. وهي مطالبة بأن تنجو من محاولة الالتفاف أو مجرد الركوب السطحي على ما تحقق من أجلها. فكثر هم الراكضون هذه الأيام للعثور على مكانة ما لمجرد المكانة لا أكثر، وهو ما يحصل أعقاب كل ثورة. من ذلك ما نلمسه من نفس مباشر قد لا يرقى إلى العمق الذي نادت به الجماهير عبر تجاوزها لمطلب الخبز نحو مطالب أخرى أكثر حميميّة. والثورة لن تكون ثورة إن صمدت أمامها الرداءة’؛ وأضاف: ‘إذا ما كان هناك من (شاعر شرعي) للثورة فسيكون مطالبا بنقل تلك الثورة من الشارع إلى الحقل الإبداعي وإلى القصيدة بالأساس. عليه اليوم أن يلجأ إلى تأسيس شعر في مستوى ما تطمح إليه المرحلة. وهو الشعر الذي سيواصل الانتفاض وحمل المعاني الحقيقية إلى أعلى. هو شعر سيكمل التظاهر وإنتاج الصور الملائمة’.

وفي ما يُشبه مقارنة على محكّ الحدث بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، قال إيهاب خليفة أنّ الأولى ‘بدت شبه عاجزة، فهي ترصد الحدث بـ (ماضوية) وعمومية وشمولية ومركزية ورسولية’؛ في المقابل، ‘بدا أن الشعراء الذين يمثلون المشهد الشعري الآني هم شعراء النثر قدموا نصوصا تحمل تفاصيل لحظة الثورة الراهنة ، ولم يقدموا محاكاة جوفاء مستمدة من أطر معرفية مستهلكة ، وشكلوا عوالم شعرية شديدة الجدة مستغلين في ذلك رحابة النص النثري، وقدراته الإيقاعية اللامحدودة، من هنا تصدرت قصيدة النثر المشهد الشعري العربي اتكاء على ذائقة الشاعر النثري الفذ في التقاط (ما لا يتكرر فيما يتكرر)، وفي تحويل التفاصيل العابرة إلى مرتكزات دالة ومتجذرة تتمثل إيحاءات عذرية لم يهتك سترها من قبل. اليوم العالمي للشعر إذن يشرق على مقولة هادمة لزعمهم أن (الرواية ديوان العرب) ، بل الشعر اليوم ، بل قصيدة النثر اليوم ديوان العرب!’. لكن الشعر هو الشعر بالأسماء كلّها، ويحصل أن تُستعاد قصيدة كتبت منذ عقود طويلة لتُحيّي لحظة مدوّية بكاملها، مثل قصيدة ‘إرادة الحياة’. يقول حكمت: ‘عودة قصيدة الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة) بشكل لم أكن لأتوقّعه شخصياً، ولم أتوقع أن تجد هذه القصيدة هوىً في نفسي، لكن هذا ما حصل، وقد تفاجأت بكثير من الشعراء الحداثيين وقد أصبحوا يستشهدون بها، طبعا أنا لا أقلل من شأن القصيدة، لكن كنت أنظر إليها على أنها بنت مرحلتها الماضية، فهل عادت مرحلتها الآن؟ هل نحن نتجه إلى الماضي؟’. ومن ثمّة، في ظل الأحداث التي تقع قريباً من بيته الشعري والإسمنتي معاً، على الشاعر أن يستعيد المبادرة: ‘إنّ قطاراً هادراً قد انطلق، وأفضل الخيارات أمام الشاعر لا تعدو أن يجعل من شعره مرآة لفكرة المستقبل، وأن يركب أو يقود ـ لم لا؟ ـ في الحاضر هذا القطار المنطلق خارجاً من كل الأنفاق’، بتعبير جمال الموساوي.

لقد كان ربيعاً في عزّ الشتاء، حقّاً.

شاعر من المغرب

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى