إياد الجعفريصفحات المستقبل

الشعوب السورية والجثمان/ إياد الجعفري

 

 

في لجّة الغرائز العِرقية المنفلتة في هذه الساعات، يصعب تقديم تعليق حيادي على حادثة التمثيل بجثة المقاتلة الكردية قرب عفرين. فالأصوات ترتفع، والعقول تصمت. فيما يبدو أن اللاوعي الشعبوي في سوريا، مستعد للمزيد من الانفلات الغرائزي، دون أي ضوابط. فوسائل التواصل الاجتماعي، وفرت له أفضل المنصات لذلك.

قبل أسابيع، وحينما اقترحت روسيا إطلاق تسمية مؤتمر “الشعوب السورية” على اللقاء الذي عُقد أخيراً في سوتشي، ضجت معظم الأطراف السورية، معارضة ونظاماً، رافضةً هذه التسمية. فتراجعت روسيا. لكن هل كان في التسمية تجنياً على السوريين، حقاً؟

قد يكون قَدَر سكان هذه البقعة من الأرض، أنهم شعوب متعددة، لكنهم عاجزون عن تشكيل دول مستقلة، بحكم التداخل الديمغرافي، وبحكم الحاجات المتبادلة في الموارد والمتطلبات اللوجستية لنقلها. وهو ليس قَدَراً خاصاً بهم، إذ أن عشرات الشعوب حول العالم، هي كذلك. لكن الكثير منها، خاصة في ما يُوصف بـ “العالم المتقدم”، توصل إلى وصفات تُعلي من القواسم المشتركة التي تربطهم، والتي تمحورت حول المصلحة.

في عالمنا الثالث، ومنه سوريا، ما يزال الوعي السياسي الجمعي، تقليدياً، تحكمه انتماءات ما قبل الدولة. ويتلخص في ثلاثية، العِرق، المُعتقد الديني، والانتماء المناطقي. لذلك، تجد أن التاريخ السوري المعاصر، حتى قبل تشكل سوريا التي نعرفها اليوم في عشرينات القرن الماضي، يختزن الكثير من حالات العنف المُجتمعي والأهلي المؤسس على الثلاثية المذكورة. والمشكلة الكبيرة، أن المُحكى الشعبي، العامي، الذي تناقل، جيلاً بعد جيل، قصصاً مُجتزأة ومُحرفة ومبالغاً بها، عن حالات العنف المجتمعي تلك، تحول اليوم إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ليخرج من أُطر المكون ذي اللون الواحد، ويصبح متاحاً للعموم، فتتحول السرديات الشعبية الخاصة بكل مكوّن، إلى استفزازٍ لأبناء المكونات الأخرى، ما يؤدي لتفعيل المزيد من الحقد المتبادل.

حادثة التمثيل بجثمان المقاتلة الكردية، قرب عفرين، تلك، مدانة بكل المعايير، وهي تستوجب التوقف الجدّي أمامها، وإحالة مرتكبيها للتحقيق والمحاكمة، إن ثبت صحة ما ورد في الفيديوهين المتداولين عنها. لكن، في الوقت نفسه، فإن انفلات الغرائز العِرقية على الفايسبوك، بين الكرد والعرب من السوريين، على خلفية تلك الحادثة، وإيراد أشخاص من كل طرف، لسرديات شعبية عن حالات عُنف مجتمعي وأهلي تعود لمراحل تاريخية قديمة وأخرى قريبة، تؤكد مرة أخرى، أن الروس لم يكونوا بعيدين جداً عن واقع السوريين، حينما استخدموا وصف “الشعوب”، حيالهم.

وخلال الثورة السورية، وأحداثها الجسيمة، والبشعة في بعض الحالات، كان “فايسبوك” كفيلاً في الكشف عن حجم المخزون الشعبوي المخزن في لاوعي كل مكون سوري حيال الآخر. بدءاً بثنائية السُنة والأقليات، مروراً بثنائية الريف والمدينة، وليس انتهاءاً، اليوم، بثنائية، العرب والأكراد.

وكما كان في تاريخ السوريين المعاصر، مروراً بأحداث الثورة منذ العام 2011، ما تزال القوى والزعامات ذات الأجندات الاستبدادية، تراهن على الغرائز العِرقية والمذهبية والمناطقية، في تأليب حواضنها، ضد حواضن منافسيها. أو بالعكس. بغاية تعبئة جمهورها، بصورة تسمح لها بالاستمرار في قيادة دفة هذا الجمهور، وضمان انقياده خلفها. على حساب المصالح الحقيقية لهذا الجمهور. مصالح، أقرب لشركائه في سوريا، أكثر منها، إلى قيادته المستبدة.

هكذا حال النظام وحواضنه، خاصة من الأقليات. الذين انجر الكثيرون منهم خلف البروباغندا التي أطلقها بخصوص الخطر الذي ينتظرهم مع الثورة. فاستجلبوه بالفعل، بجرائم ارتكبها بعضهم، حيال جمهور الأكثرية. وكذلك هو حال الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي ورّط الكرد السوريين في حرب عبثية مع شركائهم من العرب، ومع جيرانهم مع الأتراك.

وما بين الاثنين، نماذج عديدة من تلاعب قوى وجماعات، على وتر العرِقية والمذهبية والمناطقية، ليس بعيداً منها، تلاعب النظام المتكرر بوتر المناطقية، بين أهالي مدينتي دمشق وحلب، وبين أريافهما، عبر التأكيد على تأييد سكان هاتين المدينتين له، في مواجهة الأرياف الثائرة. وترٌ نجح النظام في شدّه، بحيث يمكن لكل مراقب أن يجد دلالات لا تحصى على حالةٍ من السلبية العالية، القائمة بين سكان دمشق وحلب، وبين أهالي الأرياف القريبة منهما، أو حتى البعيدة عنهما.

وبطبيعة الحال، لكل مكوّن سوري، سرديته الشعبية التي تؤكد مظلوميته. وفي الوقت نفسه، ترد على متهميه من أبناء المكونات الأخرى، بالمسؤولية عما وصلت إليه العلاقة بين المكونات السورية. فأهل المدن يحمّلون أهل الأرياف مسؤولية تجبُّر نظام الأسد الأب على مجمل سوريا، حينما وقف أهل الأرياف، في معظمهم، موقف الحياد، أو الدعم للنظام، في أحداث الثمانينات، على حساب أهل المدن. وتكون تلك السردية تبريراً لحياد جزء كبير من أهل المدن، بعد ثورة عام 2011.

وكذلك، يحمّل الكرد السوريون مجمل أقرانهم، مسؤولية استفراد النظام بهم، إبان أحداث العام 2004 في القامشلي. ويكون ذلك تبريراً لرغبتهم في اشتقاق سبيل خاص بهم، مع تطور أحداث الحراك الثوري في سوريا عام 2011.

فيما يرجع العلويون إلى تاريخ أبعد، فيتحدثون عن اضطهاد كبير عانوا منه في حقبة الدولة العثمانية، وقبلها المملوكية. ويكون ذلك تبريراً لرغبتهم في إحكام السيطرة على كامل سوريا، حتى ولو بالعنف المفرط، خشية أن يكون البديل، عودتهم إلى حالة الاضطهاد من جديد.

ولو بحثنا في دفاتر المحكي الشعبي في سوريا، لوجدنا الكثير، مثلاً، في ما يخص أحداث فتنة دمشق عام 1860، بين المسلمين والمسيحين. ولن نعجز عن إيجاد نماذج أخرى من القصص المحكية عن اضطهاد الكرد على يد العرب في الستينات والسبعينات، في منطقة الجزيرة السورية.

لا يعني ما سبق أن مجمل ذلك المحكي الشعبي، هو ملفق. لكن تداوله اليوم في “فايسبوك”، في سياق اتهام كل مكوّن سوري، للآخر، يقدم على أنه حقائق، برغم ما يغشاه من المبالغات والمغالطات، التي يمكن أن تجد في دفات المصادر التاريخية الموُثقة، ما يدحضها بسهولة.

ويبقى السؤال في نهاية المطاف: هل يستطيع السوريون تقسيم سوريا، كي يصبحوا شعوباً متعددة في دول عديدة؟.. نجيب على كل من يحذّر من تقسيم سوريا، أن القوى الإقليمية والدولية، اتفقت في معظمها، على استحالة هذا السيناريو، لأسباب اقتصادية – لوجستية – ديمغرافية، تجعل من هذا الكيان السوري المترهل، اليوم، قَدَراً على شعوبه، والحل الأمثل لتجاوز محنه، أن يتعلم هؤلاء سريعاً، البحث عن القواسم المشتركة بينهم، والتي لن يكون الأساس، العِرقي أو المذهبي أو المناطقي، أحدها، بل فقط، المصلحة، تلك التي جمعت شعوباً أخرى، لم يجمعها يوماً تاريخ مشترك، ولا كيان واحد.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى