صفحات الرأيمحمد أبي سمرا

الشقاء العراقي/ محمد أبي سمرا

روى هذه الشهادة الكاتب الروائي والصحافي العراقي شاكر الأنباري الوافد إلى بيروت قبل أقل من اسبوعين، في طريقه إلى منفاه الدانماركي للمرة الثالثة، يائساً قانطاً من الإقامة والعيش في مدينة بغداد. الشهادة فصل من فصول سياسة القتل وشقاء الحياة اليومية في العراق. لكن المستمع الى الراوي، مسجّل شهادته وكاتبها، وقارئها تالياً، لا بد من أن يلمحوا وقائع وصوراً من سياسة القتل ودبيبه العائد إلى لبنان، ومن خلفه صور الشقاء اللبناني. فأعمال العنف المتواصلة في المدن العراقية تجبر العراقيين على حفر خنادق حول مدنهم لحمايتها من السيارات المفخخة.

عقب تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء العام 2006، واندلاع حروب العراق الطائفية، وشيوع ظاهرة القتل والإقتلاع والتهجير على الهوية في العاصمة العراقية، غادرتُ بغداد إلى دمشق، ومنها إلى الدانمارك، منفاي القسري أو الإرادي، لا فرق، هارباً طوال ما لا يقل عن 15 سنة من ديكتاتورية صدام حسين. خفوت الحروب الطائفية، وإجراء الانتخابات البرلمانية في العام 2009، وظهور تباشير نوع من الاسترخاء الاجتماعي والوئام السياسي في العراق، زوّدتني شيئاً من تفاؤل حملني على العودة إلى بغداد، حيث حصلت على وظيفة صحافية في مجلة “هيئة الإعلام والاتصالات”، وأنهيتُ بذلك اغترابي المديد لنحو عشرين من السنين.

اليوم، في نهايات آب 2013، ها أنذا مع زوجتي السورية وأولادنا الثلاثة، نزلاء في فندق في بيروت، منتظرين تجديد جوازات سفرنا الدانماركية للهجرة مجدداً إلى منفاي الاوروبي، فارّين من أتون القتل اليومي والشقاء اليومي في بغداد التي ما إن تهيَّأتْ طائرة الخطوط الجوية العراقية للإقلاع بنا من مطارها، حتى صدح في الطائرة “دعاء السفر”، فذكّرتني هذه الشعيرة الدينية بأن وزير النقل العراقي هو رئيس “فيلق بدر” الميليشيوي المسلح في العراق الذي عادت تتناهبه بقوة، منذ العام 2011، التوجهات والاصطفافات الطائفية المسيطرة على سائر القوى والكتل والأحزاب وعلى منازعاتها السياسية في الدولة والمجتمع العراقيين. هذا مع العلم بأن مفاتيح القرار الأمني والإداري والإقتصادي، وكذلك مصادر القوة في الدولة هي في معظمها في يد ائتلاف الإسلام السياسي المذهبي الشيعي.

للمرة الثالثة، وقد تكون الأخيرة، أفتح ملف الاغتراب أو المنفى، مطروداً يائساً من بلدي بفضل استحالة العيش والعمل والإقامة تحت سطوة التهديد اليومي بالقتل المتجدد، بالسيارات المفخخة وانتحاريي الأحزمة الناسفة.

مضنٍ وباعثٌ على قنوط ويأس أسود، التعايشُ مع دبيب الرعب، ومع ما ينجم عنه من معازل سكنية وآليات فرز طائفي تشكل بنية تحتية للحياة اليومية العامة والخاصة، وللعلاقات الاجتماعية والمهنية، مما يضع المرء في حال من حصار وشقاء مضاعفين يعملان على طرده من العراق، إن كان يمتلك سبيلاً إلى الخروج منه، وطاقة على عدم الاستسلام العدمي لهما. هذه هي حالي في بغداد منذ العام 2011 حتى ساعة خروجي منها إلى بيروت.

الإذعان واللامبالاة

المُهاجر المغترب العائد إلى العراق، لا يفارقه، منذ عودته، شعور مقيم باللاإنتماء إلى التشكيلات الاجتماعية القائمة والمتجددة. فتجارب السنين الثلاث الأخيرة من الاضطهاد والديكتاتورية والحروب والتشرد والخوف والحصار، كوّنت لدى الجماعات العراقية والفرد العراقي ذهنية يصعب على المهاجرين العائدين، بعد إقامة مديدة في المغتربات الأوروبية خصوصاً، تقبّلها والتعايش معها في مجتمع تتناهبه الفوضى والتمزق والحصار والقتل. كل ما حولي في العراق يُشعرني، مذ عدت، بالغربة، وبتلك الفجوة التي تقوم بين العائدين والذين لم يغادروا، أولئك المعتبرين أنهم تكبّدوا ثمناً باهظاً جرّاء بقائهم في البلاد طوال تلك الحقب العراقية الدموية الطويلة، خائفين معذّبين منكفئين إلى العيش في دوائر ضيقة يسكنها الشك والريبة والخوف، والبحث المُنهِك القاسي عن سبلٍ للعيش تسجنها المصالح الذاتية أو الشخصية الضيقة، في ما يشبه حروباً يشمل دبيبها النسيج الاجتماعي الممزق.

لقد طبعت هذه الحقب الفرد العراقي بطابعها، فجعلته قليل المبالاة بما يحدث حوله، وأفقدته حسَّ التضامن الاجتماعي والانساني في معارك السعي اليومي المنكفىء على مصالحه الشخصية، غير مبالٍ بكل ما يتصل بالمصالح والحياة العامة، متقبلاً أو ممالئاً الظلم والإضطهاد في حال من الاستسلام حتى للموت. ففي بلد حاله كحال العراق طوال العهد الديكتاتوري البعثي والصدامي، من أين للبشر أن تبقى لديهم وفي علاقاتهم حساسية التكافل والتضامن على مصالح عامة او صالح عام؟ لقد تعوّد العراقي على الوقوف في طوابير طويلة للحصول على كثير من السلع الأساسية، لاسيما المحروقات، من دون تذمر أو احتجاج طوال ساعات من النهارات. في طوابير السيارات الطويلة أمام الحواجز الأمنية، يكتم العراقي غيظه في داخله، متجنباً إظهاره والتصريح به، لشدة ما رسَّخت السلطة الديكتاتورية الإذعان في نفسه. أنا بدوري العائد إلى العراق بعدما اخترت المنفى بدلاً من الإذعان، لم أجد، كسواي من العراقيين المنفيين العائدين، منفذاً للتعبير عن سخطي وغيظي بغير الصمت والعزلة والإنزواء، حيال الكوارث اليومية المتناسلة من حولي في البلاد، التي تبتلعها الإنقسامات الطائفية والحزبية الدابّة أفقياً وعمودياً، مما يحوّل الكوارث العامة ذرائع لتجديد الانقسامات والولاءات والمصالح الطائفية والفئوية الخاصة، حتى في داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية. وسط هذه الآليات المتصلّبة، يشعر الجميع باللامعنى واللاجدوى، مما يسهّل تغييب حس المسؤولية في الأعمال والوظائف والمهن، ويعمل على ترسيخ دبيب فوضى عارمة في عمل المؤسسات العامة والخاصة، حيث الفساد والسرقة والخروج على القانون هي القاعدة، وصولاً إلى القتل والخطف، إذا اقتضى الأمر في حالات كثيرة.

جلجلة الحياة اليومية

يعيش العراقي فصول حياته اليومية كجلجلة متصلة الحلقات، في البيت والعمل والشارع وسواها من الأماكن العامة. الحصول على الكهرباء مشكلة، كذلك على المياه. التنقل في الشوارع، في السيارات أو سيراً على الأقدام، معاناة رهيبة. فالمسافة بين حاجز أمني وآخر ما بين 20 و50 متراً. عليك ان تحسب ألف حساب كلما أخضعك الجندي أو الشرطي للتفتيش، في حال شكّه في أنك ارهابي محتمل. في كل مكان من الشوارع المزدحمة بأرتال السيارات المصطفة للتفتيش على الحواجز الأمنية، لا شيء يضمن عدم تعرضك لتفجير سيارة مفخخة. عليك في كل وقت التنبه إلى انتمائك الطائفي، وإلى الهوية الطائفية للشارع أو للمنطقة التي تمر فيهما، وسط غابات السواتر الغبراء الكالحة التي تسوّر المناطق والأحياء وتمتد على جنبات الشوارع الرئيسية والفرعية المقفل كثير منها أمام حركة المرور، فلا يبقى سوى القليل من الطرق السالكة، لكن المزروعة بالحواجز الأمنية.

الجيش هو من يزرع غابات السواتر، ويقيم الحواجز، إضافة الى رجال الشرطة. في كل منطقة وحي، هنالك حامية لوحدات من الجيش تشرف على إدارة الأمن، وتقرر قطع هذا الطريق أو ذاك وتسويره بالسواتر. أحياناً تكون الإجراءات الأمنية في مثابة عقوبة لهذا الحي أو ذاك، بحسب الهوية الطائفية، والشكوك الأمنية التي لا تخلو من عوامل وأصداء طائفية. تتكاثر السواتر والحواجز في أحياء تعتبر مشاغبة، وفي أخرى يقال إن الاغتيالات والتصفيات تكثر فيها. كلما تعرضت منطقة لحادثة طارئة تكثفت فيها الإجراءات الأمنية حتى الإختناق. لكن بعد مرور سنتين أو ثلاث على الحادثة تبقى الإجراءات على حالها، كأن الغاية منها إنهاك المجتمع وترسيخ انقساماته، ما دامت السواتر والحواجز لا تمنع الاغتيالات والتفجيرات. هذا دليل على أن السلطة تعتقد أن الإنقسامات والنزاعات الدموية علاجها أمني صرف، عماده الجيش والشرطة والتسوير، واستعمال القوة العارية في مشكلات تحتاج إلى علاج سياسي. هو التسلط الأمني، ما يدفع القوى الطائفية التي تدير شؤون الدولة إلى الاعتقاد بأن تحكّمها بإدارة نحو مليون ونصف المليون من الجنود ورجال الشرطة، يمنحها المقدرة على إخضاع الجماعة الطائفية الأخرى، من دون حوار سياسي وتسوية سياسية.

دولة المنطقة الخضراء

تسوّر السواتر ما يسمّى المنطقة الخضراء في قلب بغداد، حيث تتجمع مقار المؤسسات السياسية للدولة والحكم، كرئاسة مجلس الوزراء والبرلمان ورئاسة الجمهورية، وسواها من مؤسسات رئيسية، إضافة إلى مقار إقامة رؤوس الدولة والحكم وكبار المسؤولين في قصور فخمة ترابط حولها حاميات أمنية ضخمة في معاقل مستقلة أو منفصلة. في هذا المجمّع – المعقل، المسمّى منطقة خضراء، وهي مجتمع الدولة الخاص، لا يخرج المقيمون فيه من المسؤولين وبطاناتهم ولا يدخلون إليه، إلا في مواكب وحمايات أمنية سريعة تبعث الرعب والفوضى حيث تمر في الشوارع خارج المجمّع – المعقل الذي يحتل قلب العاصمة. أما الموظفون العاملون في إدارات المعقل ومؤسساته، والمقيمون خارجه في أحياء بغداد، فيدخلون إليه ويخرجون منه حاملين بطاقات خاصة تزودهم إياها الحاميات الأمنية التي تراقب دخولهم وخروجهم. الناس العاديون الذين يلاحقون إنجاز معاملاتهم في مؤسسات المعقل – المجمّع، عليهم الحصول على موافقات أمنية مسبقة من الحاميات، قبل يوم أو يومين من دخولهم وخروجهم.

لدى العراقيين نقمة كبيرة على دولة المنطقة الخضراء التي نادراً ما تحصل فيها تفجيرات وعمليات أمنية. مرة جرى تفجير مسجد داخل المنطقة الخضراء، فكثر الكلام على تواطؤ حمايات أمنية معينة لتسهيل هذه العملية.

الأحياء السكنية والتجارية خارج هذا المعقل الخاص، يتفاوت الاهتمام الأمني الرسمي بها، بحسب هويتها الأهلية والطائفية. هي على وجه العموم متروكة للتسيّب والفوضى، مقارنةً بكثافة الحمايات وتنوعها في المنطقة الخضراء. التفاوت في الاهتمام الأمني الرسمي بالأحياء خارج المعقل الخاص للدولة الخاصة، يجعل هذه الأحياء معاقل لميليشيات أهلية وحزبية طائفية، بحجة محاربة الإرهاب والتفجيرات المتنقلة. الميليشيات هذه غالباً ما تروّع السكان، وتعمل ضمناً على تهجيرهم، وخصوصاً من الأحياء المختلطة طائفياً، التي تصير، بعد تجانسها السكني الطائفي، هدفاً للهجوم عليها بالسيارات المفخخة.

ظواهر التمرد الاجتماعي

من أين للعراقي بسلوك عقلاني وسط ذلك الأتون من الخوف والتوتر والإختناق ودبيب القتل الزاحف؟! قد تكون العقلانية في هذه الحال نوعاً من الإستسلام للقدر، دفعاً للرعب والموت المتربص بالناس في كل مكان ووقت. ينصبّ جهد العراقي على المحافظة على منطقته السكنية وعائلته واسرته، فاقداً الحس العام تجاه الآخرين. فإذا تعرض جار له لحادثة اعتداء، غالباً ما يغضّ طرفه، ويتجنّب التدخل، كأن الأمر لا يعنيه، ما دام لا يمسّ حياته الشخصية وحياة أهل بيته.

لقد تفككت الروابط الاجتماعية العامة وتهدمت معظم شبكاتها التضامنية، وبلغ التفكك أحياناً النسيج العائلي والأسري. فالطلاق زادت نسبته، وخصوصاً تلك الزواجات المختلطة طائفياً، التي تضاءل الإقدام عليها أخيراً. الخيانات الزوجية تزايدت بدورها، وكذلك اتسعت ظاهرة التمرد على العلاقات الأسرية والعائلية التقليدية في أوساط الأجيال الشابة الجديدة. فئات من الشبان تتجه الى إدمان المخدرات وحبوب الهلوسة، هنالك فتيات مراهقات ابتكرن طرقاً للاتصال بفتيان غرباء لا يعرفنهم، عبر الرسائل الهاتفية الالكترونية. أما فتيان “الإيمو” المتمردون بالأزياء وقصات الشعر على السوية العامة، وكذلك بلقاءاتهم في مقاه خاصة بهم، فقد تعرضوا للقتل العنيف سحلاً على أيدي عناصر من الميليشيات ورجال العشائر، بحجة خروجهم على التقاليد الدينية. الميليشيات الطائفية السنية والشيعية لم تلتقِ على امر مثل التقائها على قتل شبان “الإيمو” أو اعتقالهم وتعذيبهم في أحياء تعرف بعضاً من نمط العيش المديني، كالكرادة والمنصور، حيث حاولت شلل “الإيمو” تشكيل “مجتمع” صغير وهامشي، خارج المجتمع العام الغارق في الرعب والخوف والشقاء والتقاليد العصبوية المغلقة.

حبوب الهلوسة انتشرت بقوة، وخصوصاً في المحافظات والمناطق الجنوبية من العراق، كالبصرة وكربلاء والنجف والناصرية، حيث التدين المتجانس تعمّ تقاليده التي تمنع الكحول في مجتمع متجانس طائفياً. هكذا يصير تعاطي هذه الحبوب المخدرة، طريقاً الى الهذيان والهلوسة اللذين يتيحان الخروج من الواقع المزري المغلق، والمزروع بالخوف حتى الاختناق.

سياسة القتل

على الرغم من أن الغريزة الأهلية والطائفية، غالباً ما تهجس هجساً حدسياً أو غريزياً بمنفذي عمليات القتل الفردي أو الجماعي، بحسب استهدافاتها ومواقيتها في سلسلة متبادلة من الهجمات والعمليات الدموية. لكن ليس لسياسة القتل وجه واحد، بل وجوه وأساليب متنوعة: السيارات المفخخة، انتحاريو الأحزمة الناسفة، عبوات لاصقة بالسيارات، سيارات تنفجر بمواكب لأشخاص نافذين تعبر الشوارع، سيارات مفخخة تنفجر في أحياء سكنية، الاغتيالات بأسلحة مكتومة الصوت. أما ما تستهدفه هذه العمليات فمتنوّع بدوره: أحياء شيعية خالصة، أحياء سنية خالصة، أحياء مختلطة بعض الشيء، أسواق تجارية، مواقع أو مقار عسكرية للجيش والشرطة، منشآت عامة للطاقة الكهربائية والنفط. غير أن الفاعلين لا يجمعهم جامع، بل إنهم، بالرغم من غموضهم ومجهوليتهم، متنابذون حتى العداوة القاتلة. فأكثر من طرف يقف وراء هذه العمليات المتنوعة في أساليبها وأهدافها التي يجمعها أو يوحّدها التنابذ الطائفي الذي يجتاح المجتمعين، الأهلي والسياسي.

أحياناً يشعر الأهالي، بحسب انتماءاتهم الطائفية وبحسب الاستهدافات، بأن أجهزة في الدولة تقف وراء عمليات التفجير، أو تساهم فيها وتغضّ الطرف عنها وتسهّلها، ثم لا تبذل جهداً في ملاحقة مرتكبيها والكشف عنهم. في أحيان أخرى يُقال رسمياً إن بعض التفجيرات قام بها انتحاريون، للإدعاء بأنهم من “القاعدة” المشهود لها والمشهورة بهذا النوع من العمليات. الإدعاء هذا غايته، بحسب القوى الأهلية الطائفية المتناحرة، إلصاق تهمة الإرهاب الانتحاري بأحياء سكنية من لون طائفي متجانس للإقتصاص من أهلها عبر عمليات الدهم والترويع التي تشنّها القوى الأمنية الرسمية، وأحياناً الميليشيات الطائفية. لا يخفى الوجه الطائفي والحزبي للتصفيات، ولتبادل السيارات المفخخة. لذا يبدو أن هذه العمليات في أنواعها المختلفة بديل من الحرب الأهلية المذهبية بين الطوائف.

مافيات الفساد والعنف

وسط الدبيب اليومي للقتل وسياسة القتل، يجري تدمير حياة البشر ومجتمعهم تدميراً منهجياً، فيتفشى العنف في المجتمع وفي سلوك الأفراد وعلاقاتهم العامة، الأهلية والأسرية الخاصة: أزواج يضربون زوجاتهم وأطفالهم ضرباً وحشياً لأي سبب تافه أو بسيط. مشادات بسيطة وتافهة بين شخصين في الحي او الشارع، قد تؤدي الى قتل متبادل. هكذا يصير العنف من أدوات تصريف الشؤون اليومية، ويصير القتل سهلا سهولة تقبّل القتل. يتجاوز القتل الإستسهال والتقبّل الى التأييد والفرح. فالسنّة أحياناً يفرحون للتفجيرات التي تضرب أحياء شيعية، والعكس صحيح أيضاً. لكن هذه الظاهرة لا تزال خفية وخجولة في العراق. غير أن الخفاء والخجل هذين لا يبعثان على مراجعة الحوادث وتبعاتها وسياقاتها وتراكماتها، للوقوف على المآسي المدمّرة التي تنزلها بالمجتمع. ما يحول دون المراجعة هما العداوة والرعب المتفشيان بين الطوائف والقوى السياسية النافذة الغارقة حتى الغيبوبة في مصالحها الخاصة وعداواتها المدمرة، في ما يشبه دوامة مغلقة لا قاع لها.

أحياناً تشعر بأن في البلاد قوة معينة لا تريد لها أن تلتقط أنفاسها وتتجه الى الاستقرار، كأنما هنالك مشروع محلي واقليمي ودولي، غايته استمرار العراق على هذه الحال: الفوضى، التدمير، الاستقطاب، القتل، وشلل اجتماعي واقتصادي وسياسي. وسط هذا كله تزدهر عمليات الفساد البنيوي في إدارة شؤون الدولة السياسية والخدمية والإدارية والأمنية. الفساد البنيوي بصفقاته وسرقاته، ثأري بدوره، مثل عمليات التفجير والقتل، ومثل ردود الفعل المتبادلة حيالها. في هذا المعنى يبدو أن مجموعات من المافيات المتنابذة والمتناحرة والمتواطئة موضوعياً، هي التي تدير الدولة العراقية ادارة مافيوية.

بلد الأحزان

ليس في العراق اليوم من طبقة أو فئة اجتماعية منظورة وظاهرة ومرئية في يسرها وثرائها. فالأثرياء المرموقون جرّاء الصفقات الفاسدة والنهب، غالباً ما يستثمرون أموالهم المنهوبة خارج العراق، فيشترون الفيلات في أوروبا أو في دول الخليج العربية. ثم إن قسماً كبيراً من عائلات هؤلاء الأثرياء، تقيم في المهاجر، فيما يقيم رجال هذه العائلات في العراق إقامة شبه موقتة أو غير مستقرة، لا تؤسس لنمط من العيش الميسور، ولا لعاداته وتقاليده وملامحه. وحدها الحاميات الأمنية والمواكب العسكرية التي ترافق أصحاب النفوذ والسلطان، تدل على التميز الذي لا يقيم نمط حياة في حي سكني ميسور تظهر عليه علامات الثراء. أصحاب النفوذ هؤلاء يعيشون حياة خاصة مغلقة داخل الحاميات الأمنية والعسكرية، في معقل المنطقة الخضراء غالباً.

لذا يغيب نمط الحياة النخبوية الثرية والمنسجمة في حي أو منطقة من العراق، إذ يمكن أي ميليشيا أن تستبيح مثل هذا الحي وهذه المنطقة، لدواع أمنية، أو لإقامة سرادق للعزاء. العراق اليوم مجتمع ميليشيوي عسكري، تسيطر عليه وعلى قيمه ومفاصله الشرطة والجيش والحاميات الأهلية الميليشيوية، وتحوّله معازل خاضعة للتفتيش الأمني والمطاردة الأمنية في كل وقت. وسط هذا النمط من العيش تندر ظاهرة الانتحار، ويتفشى التحلل والاهتراء، وتطغى فئات الرعاع، وتعمّ الخشونة والقسوة. أما القضاء فمسيّس وفاسد الى أبعد الحدود. “هيئة النزاهة” المفترض أنها مستقلة بهدف الكشف عن عمليات الفساد ومحاربتها في أجهزة الدولة، كثيراً ما يتحدث رؤساء هيئاتها عن ملفات فساد كبيرة تصل الى مسؤولين كبار في الدولة، ثم تُسحب من التداول وتختفي، ولا يعرف أحد شيئاً عن مصيرها.

التلفزيون والأكل والشرب، هي التسليات والملذات الباقية في المجتمع العراقي. لكن سهرات الشراب العلني أصبحت من المنكرات. ليس من دور للسينما والمسرح تعمل في المدن العراقية. مهرجان بابل للثقافة والفنون الذي جرى إحياؤه قبل سنة، ألغيت منه الفنون السمعية والبصرية والغنائية، فاقتصر المهرجان على الشعر والقصة.

جرى المنع بحجة أن العراق بلد للمقابر الجماعية، وبلد كربلاء والحسين والأحزان، وليس بلداً للفرح والتهتك. أما حياة الاختلاط بين الجنسين في المشهد العام وفي الجامعات، فهي في أدنى مستوياتها، بعدما جرت محاولات للفصل بين الذكور والإناث في الحياة الجامعية، فتراجع الداعون إليها من أمثال وزير التعليم العالي المنتمي الى “حزب الدعوة”، أمام موجة الاحتجاج الطالبي.

نسبة العاطلين عن العمل بين الفئات الشابة تتجاوز العشرين في المئة. التطوع في الأجهزة الأمنية والجيش، مرغوب لسهولته، وخصوصاً في البيئات الشيعية. أجهزة الدولة المدنية والإدارية، متخمة بالموظفين. الشائع أن الرشوة المطلوبة للحصول على وظيفة في ادارات الدولة، تتراوح ما بين 5 و10 آلاف دولار. أما القطاع الخاص فضعيف جداً، لأن الاستثمار فيه خاضع للمساومات والرشوة والولاءات والتحقيقات الأمنية المعوقة، شأنه شأن مشاريع التجهيز والانشاءات العامة التي تديرها إدارات الدولة وفق صفقات مافيوية. ثم إن المنشآت العامة كلها في أسوأ أحوالها: المدارس الرسمية تحوطها أكوام النفايات. حفرة في رصيف أو وسط شارع، تبقى على حالها سنوات من دون ردم. المستشفيات الحكومية ضعيفة التجهيز، ويعمل الكادر الطبي فيها على جذب المرضى الى المستشفيات الخاصة التي تجني أرباحاً طائلة. مخازن الأدوية في المستشفيات الحكومية تُسرق وتباع للصيدليات. الأدوية الفاسدة تباع علناً على الأرصفة. أبناء العشائر غالباً ما يهددون الأطباء في المستشفيات الحكومية، إذا لم تنجح عملية جراحية لمريض لهم، فيرغمون الطبيب على دفع فدية على غرار فدية الثأر العشائري. الصحافة في غالبيتها تابعة لأحزاب ولحركات سياسية، شأن المحطات التلفزيونية. لذا تتحكم الولاءات بالعمل الإعلامي والصحافي، فيعتبر الصحافي نفسه أجيراً يسترزق من عمله وولائه لصاحب الصحيفة، من دون أي اهتمام بالعمل المهني. الأحزاب النافذة في الجماعات، غالباً ما تحاصر جمعيات المجتمع المدني النخبوية، تهمّشها وتمنعها من النشاط.

ليس في العراق من حركة شبابية منظورة. قبل ثلاثة أسابيع أو أربعة حاولت حركة شبابية في بغداد تمثَّلت حركة “تمرد” المصرية، فدعت الى مسيرة وتجمّع في ساحة التحرير، احتجاجاً على الفساد والطائفية. وصل الى الساحة نحو 300 – 400 شاب، فأحاط بهم أكثر من 3 آلاف جندي قاموا بتفريقهم، وأعتقلوا الناشطين القياديين منهم، ثم أطلقوهم بعد أيام، كأن شيئاً لم يكن.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى