صبحي حديديصفحات مميزة

الشهر العاشر والخطاب الرابع: ‘عقلية القلعة’ ضد روح الشرائع


صبحي حديدي

 سواء أفرط في شرب الماء، ثمّ انتبه بعدئذ أنّ الأمر قد يُعتبر دلالة على ‘توتر’، كما قال؛ أو أقلع عن الماء تماماً، ظاناً أنّ هذا سوف يعطي الانطباع المعاكس، بالاتزان والاسترخاء والتماسك؛ وسواء أخطأ في لفظ آية قرآنية، أو أطنب في مديح العروبة، وتهكم على ‘المستعربين’، أو ارتدّ إلى بعض مفردات أبيه (تعبير ‘الإخوان الشياطين’ مثلاً)، هو الممسوس بعقدة التفوّق على الأب؛ فإنّ خطاب بشار الأسد الرابع ردّد، طيلة ساعتين إلا قليلاً، أصداء ما أنتجته، وأعادت إنتاجه، الخطابات الثلاثة السابقة. وحين ظهر في ساحة الأمويين ـ ‘فجأة’، كما قيل للحشود المحتشدة والمحشّدة ـ كان لافتاً أنّ مديح الأمويين على هذا النحو الاستعراضي أضاف الإهانة إلى جراح أهل حيّ الميدان، على سبيل المثال، حيث سقط مواطنون سوريون أبرياء ضحية أحدث ألعاب النظام الدموية، الهادفة إلى ترهيب البلد وخداع العالم. في خطاب مدرج جامعة دمشق لم يكترث الأسد بتقديم كلمة عزاء واحدة لشهداء عملية التفجير الإرهابية تلك، كما لم يجد ضرورة لمواساتهم، وهم أقحاح الشام، حتى في ذروة تغنّيه بأمجاد بني أمية!

والأضاليل الأحدث عهداً لم تختلف عن سابقاتها إلا في ثلاثة إنذارات، حرص الأسد على إلباسها لبوس ‘الثبات’ على الموقف، و’الصمود’ في وجه المؤامرة، وردّ الكيد إلى نحور الخصوم؛ ليس دون أن يذهب خطوات أبعد في إعادة استهلاك أكاذيب فاضحة مثل عدم وجود أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، في المثال الأبرز. وهكذا، كان إنذاره الأول يقول إنّ النظام ينوي، قريباً، تعميم صيغة ‘جماهيرية’ من الخيار الفاشي الصريح، هذه المرّة، سبق له أن طبّقها في الأسابيع الأولى من عمر الانتفاضة، في مناطق محددة من قرى طرطوس وبانياس وجبلة. ما كان البعثيون الأوائل يسمّونه ‘الجيش الشعبي’، أو ‘الحرس القومي’ في حقبة أخرى، يسمّيه النظام ‘دوريات’ شعبية مسلحة لا تتمثل وظيفتها في حماية المواطنين، كما توحي مدلولات تسمياتها، بل في حماية… الجيش!

هذا العكس للأدوار لا يستهدف إسقاط المفهوم المنطقي والوطني الشائع الذي يقول إنّ الجيش هو الذي يحمي الشعب، فحسب؛ بل يسعى إلى إبطال مهامّ الجيش في الدفاع الوطني، ضدّ إسرائيل على سبيل المثال، وزجّه في معركة واحدة وحيدة، هي أمن النظام، ضدّ أعداء النظام، بالتكافل والتضامن مع المنظمات والمفارز والخلايا المدنية/ شبه العسكرية، التي يمكن أن تنوب عن قطعات الجيش النظامية في حصار المدن واجتياحها واستباحتها. الأسد أوجز الصيغة في هذه الفقرة، التي لعلها كانت أخطر ما ألمح إليه في خطابه الأخير: ‘علينا أن نتوحد وأن نحسم، ولكن المحور الأساسي هو كيف يقف المواطن مع الدولة. وفي بعض الحالات دخل الجيش إلى مدينة وكان هناك من يسيطر عليها من الإرهابيين، ولا أريد أن أقول يحتل، فقام أشخاص من سكان المنطقة بتشكيل فرق لحماية مجنبات الجيش لكي يدخل. وفي مناطق أخرى شكلوا دوريات مراقبة لكي يمنعوا الإرهابيين من القيام بأعمال القتل والتخريب أو الفتنة في بعض المناطق. وفي مناطق أخرى كانوا يدلون بمعلومات’.

وكعادة أقواله التي يرتجلها، ولا تكون مدوّنة أصلاً في الخطاب المكتوب مسبقاً، كان هذا التصريح هو الأوضح حتى الساعة، لجهة الكشف عن مخططات النظام في تجييش المدنيين، ليس من خلال ما اعتاد حزب البعث تسميته بـ’المنظمات الشعبية’، أي اتحادات ونقابات الطلاب والشبيبة والعمال والفلاحين، فضلاً عن موظفي فروع وشُعَب الحزب في المناطق الأكثر التفافاً حول النظام؛ بل في تشكيلات مستحدثة خصيصاً لهذه الغاية، الفاشية في الشكل كما في المحتوى. والنظام، غنيّ عن القول، سوف يلجأ إلى عدد من طرائق الفرز الدقيقة، الطائفية أو المناطقية أو العشائرية، التي تتيح تشكيل تلك الوحدات المدنية، وعسكرتها وتسليحها وتدريبها، بحيث تستهدي بفلسفة تشكيل الفرقة الرابعة، فتكون أشبه بوحدات مصغّرة على شاكلتها، إذْ أنها في نهاية المطاف سوف تعمل تحت إشراف وقيادة ضباط تلك الفرقة، مباشرة أو بالإعارة والتكليف.

الإنذار الثاني مزدوج الوظيفة، أو هو يبعث برسالة إلى الأنصار في الداخل، إسوة بالخصوم في الخارج: أنّ أوراق التوت التي ظلّ النظام يحرص على تقلّد بعضها منذ انطلاق الانتفاضة (مثل المضيّ في مشاريع ‘الإصلاح’، وإطلاق ‘الحوار الوطني’، وتجميل الصورة البشعة عن طريق هذه الحملة الإعلامية أو تلك، ومغازلة الجامعة العربية، وإفهام ‘الحلفاء’ الروس والإيرانيين أنّ النظام منفتح على الحلّ العربي…)، لم تعد ذات فائدة. لا هي أخفت عورة للنظام، ولا غسلت يداً مضرّجة بالدم، ولا جمّلت صورة لرأس النظام نفسه؛ بل صار واضحاً أنها لا تنجز إلا نقائض هذه الأغراض (الحملة الشعواء على الجامعة العربية، وعلى ‘أكثر من ستين محطة تلفزيونية في العالم مكرسة للعمل ضد’ النظام، وعلى حوار شبكة الـABC الشهير، في بعض الأمثلة). وكان لافتاً أن يصرّح الأسد بأنه لا يشاهد نفسه على التلفاز، أبداً، وكأنّ في المشاهدة نقيصة؛ او كأنها لا تتيح له ممارسة بعض النقد الذاتي، في أقلّ تقدير!

ورغم ذلك يبدو الأسد مولعاً، أكثر من أي وقت مضى، بتلك المعطيات ‘الافتراضية’ لسلسلة المعارك التي يزعم أنّ نظامه، ‘الممانع’ و’المقاوم’ و’المعادي للإمبريالية’، توجّب أن يخوضها ضدّ القوى الخارجية، والتي اعتاد على شرح عناصرها وتفصيل أبعادها والتفلسف حول أساليب مواجهتها؛ منذ خطابه في أوّل مؤتمر قمّة عربي يحضره بعد توريثه، في العاصمة الأردنية عمّان، ربيع 2001، مروراً بذاك الذي هجا فيه ‘أشباه الرجال’ من الزعماء العرب، وصولاً إلى خطابه الرابع الذي لا يكاد يستثني طرفاً من المؤامرة على نظامه. ‘الأقنعة سقطت الآن عن وجوه هذه الأطراف’، يبشّر الأسد أنصاره، فباتت أجهزته ‘أكثر قدرة على تفكيك البيئة الافتراضية التي أوجدوها لدفع السوريين نحو الوهم ومن ثم السقوط’؛ وهي بيئة كان يُراد لها ‘أن تؤدي إلى هزيمة نفسية ومعنوية، تؤدي لاحقاً إلى الهزيمة الحقيقية’. أمّا المطلوب في الحصيلة فهو الوصول إلى ‘حالة من الخوف’ وهذا ‘يؤدي إلى شلل الإرادة، وشلل الإرادة يؤدي إلى الهزيمة’، في ترتيب الأسد… اللاإفتراضي، بالطبع!

والحال أنّ هذا التأثيم للعالم الخارجي، الذي يعبر الأزمنة والأمكنة والأشخاص، من اتفاقية سايكس ـ بيكو، إلى رفيق الحريري، إلى باربره والترز؛ وهذا الإعراض عن ارتداء أوراق التوت، ونفض اليد حتى من الحملات الإعلامية مدفوعة الأجر، هما أقرب إلى خيار قسري في جانب موضوعي منهما، بسبب فشل محاولات توظيف السياسة الخارجية والإعلام والدبلوماسية لصالح معركة النظام ضدّ الشعب، خاصة حين أخذت تنتقل من طور عنيف وشرس إلى آخر أشدّ شراسة ودموية. بيد أنّ الخيار نافع للنظام في جانب آخر، سيكولوجي وتعبوي غالباً، ويشكّل جوهر الإنذار الثالث: إقناع الموالاة، خاصة تلك الأعلى إخلاصاً، بطبائع ‘عقلية القلعة’، والصمود في المتاريس، والتدرّب على الحصار، والإعداد للمعارك الختامية الفاصلة… حيث الوجود أو العدم!

وفي تطبيق هذا الإنذار الثالث، واختبار تجلياته على الأرض، ليس من ميدان أكثر انطواء على المخاطر من ذاك الذي يمارسه النظام في مضمار التحريض الطائفي، والتلويح بالحرب الأهلية، وتخويف الأقليات من المستقبل، وترسيخ خلاصة مفادها أنّ بديل النظام هو الفوضى والتفكك والتشرذم وتقسيم البلد، فإمّا النظام وإمّا الطوفان. وإذْ يغدق الأسد المديح على أجهزة الأمن والجيش، أي أجهزة النظام وجيشه الموالي تحديداً، من جهة؛ ولا يتردد في مطالبة المواطنين بالانخراط أمنياً مع النظام، والقتال في صفّه ضدّ الشعب، من جهة ثانية؛ فإنّ روح الشرائع هي التي تُقتل كلّ يوم، من جهة ثالثة، ومعها تنبسط على أجهزة الدولة تلك الفاشية المفتوحة المنفلتة من كلّ عقال، حيث خطّ الدفاع الأخير في القلعة المحاصَرة هو القانون الأعلى، والمتراس الأخير.

الأقصى في ابتذال التحريض ضدّ الانتفاضة أن يحيل الأسد معاناة المواطنين من ندرة وقود التدفئة والغاز والكهرباء إلى هجمات ‘الإرهابيين’ على القطارات التي تنقلها أو المعامل التي تنتجها، وكأنّ المواطن غافل مغفل لا يعرف حدود مسؤولية الدولة عن تلك الندرة، ولا سياقاتها الراهنة التي تتصل بإصرار النظام على تسخير كلّ الموارد لخدمة معركته ضدّ الشعب، وليس لكي يحظى الشعب بالحدّ الأدنى من الطاقة اليومية الضرورية. هنا نموذج يختصر ذلك الابتذال: ‘هل من الممكن أن يكون الثائر ضد المواطن يقطع عنه الغاز الذي يحتاجه يومياً في أمور الطبخ والطعام لكي يموت من الجوع، ويقطع عنه المازوت والوقود لكي يموت من البرد، ويقطع عنه الدواء لكي يموت من المرض، ويقطع الأرزاق، ويحرق المعامل، والمنشآت الحكومية والخاصة لكي يجعل الفقراء أشد فقراً؟’…

وللوهلة الأولى قد يلوح أنّ هذه الاتهامات لا تنطلي على أحد، وإلا فإنّ هذا ‘الثائر’ الذي يتحدّث عنه الأسد أقرب إلى جيش جرار جبار، قادر على شلّ الحياة اليومية وإعمال الدمار في كلّ مفاصلها الحيوية. بيد أنّ لهذا التحريض وظيفة أخرى خافية، استهدافية ومدروسة، تتوجه إلى قطاعات محددة من جمهور النظام وشاغلي القلعة المحاصَرة دون سواها، وثمة شرائح لا يُستهان بها من هؤلاء لا يصدّقون الاتهامات، وسواها كثير، ويستقبلونها مثل إسفنجة ماصة، فحسب؛ بل هم صاروا أسرى استيهامات شتى لامعقولة، عن سيناريوهات كارثية ومذابح آتية وتصفيات طائفية ودينية وعرقية… تجعل التشبث بالمتراس غاية وجودية دفاعية صرفة، وليس اصطفافاً خلف آل الأسد، أو انحيازاً إلى مكوّنات النظام السياسية والعسكرية والأمنية والاستثمارية، أياً كانت، وكيفما تنوّعت.

الخطاب الرابع أكد حلقة جديدة من الصدام بين عقلية القلعة التي يهتدي بها نظام الاستبداد والفساد، وروح الشرائع التي تتطلع اليها سورية المستقبل؛ كما ذكّر الناس بما لم ينسوه في أيّ يوم حول طبائع هذا النظام، رأسه مثل أطرافه. وإذا جاز للمرء أن يختار الجملة الأكثر تعبيراً عن تلك الطبائع، فإنّ هذه قد تكون الأجدر حقاً بالصفة: ‘إن أهم شيء ألا يظهر لدينا طبقة محتكرة تستغل الأزمات لكي تبني الثروات على حساب قوت ودماء الشعب’. يا سبحان الله، أنظروا مَن يتحدّث!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى