صبحي حديديصفحات مميزة

الشيشان ‘وجبهة النصرة’: ترحيل موسكو وتضليل طهران: صبحي حديدي

 

صبحي حديدي

لا تكاد تخمد برهة خاطفة، إلا لتعود فتلتهب مجدداً، تلك التقارير التي تدبجها وكالات الأنباء الروسية والإيرانية، الرسمية أو شبه الرسمية، حول ‘الجهاديين’ الشيشان الذين توافدوا إلى سورية للقتال ضدّ نظام بشار الأسد. وقارىء تلك التغطيات ـ خاصة إذا كان محدود الإلمام بالوضع السوري، أو مصاباً أصلاً بـ’رهاب الإسلام’، أو متحفزاً تلقائياً لتصديق كلّ ما يُقال ويُنشر في ملفات مثل هذه ـ سوف يخال أنّ الأرض السورية أخذت تعجّ بهؤلاء الشيشان؛ وأنّ كتائبهم صارت تتفوق، في العدد والعدّة، وكذلك في ‘العمليات النوعية’، على جميع قوى المعارضة السورية المسلحة، بما في ذلك ‘جبهة النصرة’ ذاتها، بوصفها الوحيدة التي انفردت بـ’شرف’ الانضمام إلى اللائحة الأمريكية الرسمية للمنظمات الإرهابية الكونية.

على سبيل المثال، يقرأ المرء تقريراً لوكالة نوفوستي الروسية، حول مقال رستم غلاييف (24 سنة)، ابن الزعيم الشيشاني الشهير رسلان غلاييف، خلال إحدى المعارك ضدّ قوّات النظام السوري؛ فيخال المرء أنّ حرب الشيشان (التي قُتل فيها الأب نفسه، سنة 2004) قد انتقلت إلى حلب وحمص ودير الزور وإدلب! والتقرير يقتبس ألكسي ملاشينكو، من معهد كارنيجي موسكو، وهو يحذّر من أنّ المقاتلين الشيشان في سورية لن يُلحقوا الأذى بنظام الأسد وحده، بل بكامل ‘الشتات الروسي’ في الشرق الأوسط! ولا بأس من تذكير القارىء الروسي، ثمّ العالمي أيضاً في النصّ الإنكليزي للتقرير، أنّ ‘الصقر الأسود’، وهو لقب الأب، قد درّب نجله على الكثير من ‘فنون القتال الرامبوية’؛ نسبة إلى رامبو، أيقونة الـ CIA والرمز الأعلى للتفوّق العسكري الفردي الأمريكي.

أمّا وكالة أنباء فارس، الإيرانية، فإنها تنشر تقريراً يبدأ هكذا: ‘غادرت لندن، عبر مطار هيثرو، متوجهة إلى إسطنبول، مجموعة تتألف من 39 إرهابياً شيشانياً، للتسلل إلى سورية عبر الحدود التركية، والالتحاق بمجموعات إرهابية ومتمردة أخرى تشارك في الحرب على دمشق’. وفي البدء، يتساءل المرء عن كيفية معرفة كاتب التقرير بأنّ هذه المجموعة ‘إرهابية’ على أيّ نحو’ وما مصدر المعلومة التي غابت عن السلطات الأمنية البريطانية (إلا إذا كانت، هذه الأخيرة، متورطة أصلاً في تنظيم الرحلة)؟ وهل كانت صفة ‘إرهابي’ قد دُوّنت على جوازات السفر التي حملوها، أمام خانة المهنة مثلاً، وأُتيح لكاتب التقرير أن يتفحصها بأمّ عينيه؟ وكيف سمح لنفسه باستغفال قرائه، ضمن فقرة لاحقة من التقرير، تجزم بأنّ: ‘منظمة القاعدة الإرهابية مدعومة من تركيا والولايات المتحدة وحلفائها الأقليميين العرب’؟

وإذا غادر المرء وسائل الإعلام هذه، في روسيا وإيران، وانتقل إلى الباكستان مثلاً، ولكن إلى موقع مسيحي متعصب؛ فسيجد تقارير لا تقلّ غباء، وخبثاً بالطبع، تظهر فيها ‘جبهة النصرة’ أقرب إلى فرع تابع للجهاديين الشيشان، وليس العكس مثلاً، وأنّ الجميع ‘إسلاميون سنّة’… بالجملة! يقول أحد تقارير موقع Pakistan Christian Post: ‘نفّذ الإسلاميون الشيشان و’جبهة النصرة’ عملية انتحارية استهدفت القوات المسلحة السورية، التي كانت تلتجىء في مشفى بمدينة حلب. وبالطبع، بالنسبة إلى الإسلاميين السنّة، من الواضح أنّ قتل الصحافيين، والأقليات، والسيارات المفخخة، وكلّ مَن له صلة بالحكومة السورية والذبح اليومي، هو ‘لعبة عادلة’ في نظر هؤلاء الإرهابيين الوحوش’. وكاتب التقرير هذا، الجاهل والطائفي المعلَن والغبيّ في آن، يمضي خطوة أبعد في العبقرية، حين يؤكد أنّ المقاتلين الشيشان، مثل مقاتلي ‘جبهة النصرة’، و’الجيش السوري الحرّ’ بأسره، هم محض ‘غطاءات’ للمقاتلين الفعليين، حَمَلة الجنسيات التركية والأمريكية والبريطانية والفرنسية والقطرية والسعودية…

فإذا ذهب المرء إلى المقاتلين الشيشان أنفسهم، وتابع أحد أوضح شرائط الفيديو التي تعبّر عنهم، وتنقل صورة أمينة ـ لأنهم صنعوها بأنفسهم، في نهاية المطاف ـ عن أنشطتهم؛ فسيجد حفنة رجال يقلّ عددهم عن الـ 20، معظمهم ملثمون، يرفعون راية الخلافة السوداء، وزعيمهم يتحدّث باللغة الروسية، ترافقه ترجمة فورية ركيكة. هذه هي ‘سرية كتائب المهاجرين’ الشيشانية، التي تقضّ مضجع موسكو وطهران؛ وهذا عتادها ـ كما يظهر في الشريط، ويتفاخر به مقاتلو السرية ـ الذي لا يتجاوز بضعة رشاشات خفيفة، من طراز ‘كلاشنيكوف’؛ وخطاب أميرها، أبو عمر الشيشاني، لا يتجاوز المفردات التقليدية، حول رفع الظلم عن أهل الشام، وإقامة ‘شرع الله في هذه البلاد’، بل يبدو أقلّ تعصباً من ‘بيان حلب’ الشهير، السوري بنسبة مئة في المئة!

المنطق السياسي والتاريخي، ولكن الاخلاقي أيضاً، يقتضي الذهاب أبعد من هذا الذرّ للرماد في العيون، ويتبصّر في خلفيات هذه المخاتلة الخبيثة حول الوجود الشيشاني ضمن صفوف المعارضة السورية. يتوجب فتح ملفّ المسألة الشيشانية ذاتها، في قلب بلاد الشيشان، وفي عمق المواقف الإقليمية منها، وحيث لا يستهدف الترحيل والتضليل إلا إلى إغماض الأعين عن مأساة الشعب الشيشاني ذاته. هنا، أيضاً، لا تنام القضية الشيشانية بضعة أشهر، إلا لكي تستيقظ بغتة، أو بالأحرى يستيقظ العالم عليها بعد طول سبات، وكأنّ هذه البلاد موجودة في مجرّة أخرى منسية. وليس عجيباً، في ضوء ما تقدّم، أن يكون ‘الإرهاب’ أيضاً هو آخر المناسبات البارزة التي شهدت صحوة العالم، و’الحرّ’ منه بصفة خاصة، على الملفّ الشيشاني.

ففي سنة 2002، وبعد أشهر طويلة من التعتيم المقصود، عادت القضية الشيشانية إلى دائرة الضوء من خلال العمل الإرهابي، الحدث الوحيد الذي يُحْسن إيقاظ الوعي الغربي من سباته العميق، بل ويحسن هَزّه بقوّة وعلى مبدأ الصدمة. وفي البُعد الدولي لم يكن مسرح موسكو، الذي شهد احتجاز مئات الرهائن الأجانب والروس، ومصرع العشرات منهم على يد قوّات التدخّل الروسية، سوى الحلقة التالية التي تكمل ما بدأ في أندونيسيا والفيليبين قبل أيّام معدودات. كانت طبول الحرب ضدّ العراق تُقرع في واشنطن، وسوء الفهم الأمريكي الذي أعقب هزّات 11/9 يتفاقم أكثر فأكثر، وتمتدّ نطاقاته إلى جغرافيات وأصقاع لم تكن تخطر على بال عتاة خبراء الأمن في الولايات المتحدة والغرب عموماً.

آنذاك كانت موسكو تتلفع بورقة توت، صرنا نفتقدها اليوم بالطبع، هي المفاوضات بين المقاتلين الشيشان والسلطات الروسية. وفي موازاة المبدأ التفاوضي الشهير الذي يراوح بين العصا والجزرة قبيل إجبار الطرف الأضعف على المساومة، والتنازل، وقبول الصفقة؛ كان التراث الروسي يلوّح بمبدأ المراوحة بين السوط و’كعكة الزنجبيل’، ذلك النوع الرخيص من الحلوى المبتذلة التي تُطرح أمام الفقير الروسي (فلاّح الـ ‘موجيك’ دون سواه) بقصد إسالة لعابه، أكثر من ملء معدته الخاوية. والسلطات الروسية كانت، وما تزال، تعتمد هذا المبدأ بالذات في إدارتها للحرب ضدّ المتمردين الإسلاميين في بلاد الشيشان، من حيث المظهر؛ ولكن ضدّ النزوعات الإستقلالية في بلاد القوقاز بأسرها، من حيث المحتوى الحقيقي. وكان المحلّل الروسي يوري كورغونيوك لا يجد غضاضة في القول بأنّ الجميع في موسكو متفقون حول طبيعة وحدود ووظائف السوط، ولكنّ أحداً لا يعرف على وجه الدقة حجم وطعم ووظائف كعكة الزنجبيل. ‘ننخرط في المعركة، وبعدها نفكّر’، كما كان نابليون بونابرت يقول. نحتلّ بلاد الشيشان بالسوط أوّلاً، ثم نفكّر بعدها في الكعكة، كانت القيادة الروسية تقول.

والمواطن الشيشاني كان يثير حيرة السوسيولوجيين الشيوعيين (أيام الاتحاد السوفييتي) لأنه كان يجيب على سؤال ‘هل أنت مسلم؟’، بالقول: ‘طبعاً، لأنني شيشاني’. والأمر هنا لا يدور حول الجمع بين ما لا يُجمع، أي أن يكون الانتماء إلى إثنية شيشانية هو انتماء إلى الإسلام من باب تحصيل الحاصل؛ بل هو بالأحرى مثال على حالة فريدة في التباين بقصد التكامل، أو التكامل حين يكون التباين ممنوعاً ومنكَراً. وكان في وسع معلّق أمريكي ظريف أن يمزح قائلاً: لقد اقشعرّ بدني حين عرفت أن عبارة ‘لا إله إلا الله، محمد رسول الله’ منقوشة على قبعة سلمان رادوييف (أحد أبرز قادة كوماندو الشيشان، في حرب 1994 ضدّ الجيش الروسي)، ثم أصابتني الحيرة لأن اسمه الأول هو سلمان… مثل سلمان رشدي!

تلك الحالة الفريدة من التباين والتكامل، وتناقضهما أو تصالحهما، كانت هي التي أنبتت شجرة عائلة الزعامة الشيشانية، وقادت إلى شقّ عصا الطاعة على موسكو، بعد أن ذاقت مرارة النفي على يد ستالين في مطلع الأربعينيات، ولم تعرف شيئاً من نعمة العودة إلى الوطن على يد خروتشوف في أواخر السبعينيات. بين أفرادها كان جوكار دوداييف، الذي خدم في سلاح الجو السوفييتي في أفغانستان، وكان قائد سرب طائرات مجهزة بأسلحة نووية. وحين زحف الجيش الأحمر لتأديب دول البلطيق أيام غورباتشيف، رفض دوداييف منح هذه القوات حقّ الهبوط في المطار الذي يقوده، الأمر الذي حال دون وصول الجيش الأحمر إلى إستونيا. وأما الفصول اللاحقة من حياة دوداييف، وبلاد الشيشان من ورائه، فهي خليط متواصل من العصيان وحرب العصابات والانشقاقات الداخلية و… المافيا أيضاً.

فرد آخر من أفراد العائلة الشيشانية كان شميل باساييف، المقاتل الوديع الذي انقلب إلى صقر قوقازي أعمى حين شهد بأمّ عينيه قيام قوات وزارة الداخلية الروسية باغتصاب دزينة من بنات عمّه العذراوات، قبل قتلهنّ والتمثيل بأجسادهنّ. وكان محتوماً على باساييف أن يلجأ إلى تقليد شيشاني عتيق يمزج الحداد والحزن بالخروج المشروع عن الحياة الاجتماعية ومحظوراتها وأخلاقياتها، وتشكيل فريق من ‘الخوارج’ ‘وقطاع الطرق الشرفاء’، والسير على دروب الانتقام الطويلة. ومن مفارقات الأقدار أنّ الغرب كان آنذاك يحاول إطفاء حرائق سراييفو، وكان في الآن ذاته يصمّ الآذان عن الأفغان الجُدد الذين انبثقوا من بين ظهراني أهل البيت، وتكاثروا على رائحة الدماء والجثث والخراب. المفارقات ذاتها اقتضت أن يراقب الغرب انطفاء حرائق كوسوفو، واشتعال حرائق تيمور الشرقية؛ وانطفاء هذه الأخيرة، ثم اشتعال داغستان؛ واشتعال غروزني، وبرجَي مركز التجارة في قلب نيويورك، وأفغانستان، وأندونيسيا، والفيليبين، وفلسطين، والعراق… وصولاً إلى سورية، هذه الأيام.

وإذا جاز لنا، نحن السوريين ـ أو أولئك، بينهم، ممّن يتفقون مع وجهة نظري على الأقلّ ـ أن نكره لجوء الآخرين إلى تصفية حساباتهم على أرضنا، أو إجبارنا على اعتناق هذه ‘الشرعة’ أو تلك ‘الخلافة’؛ وأن نبذل كلّ ما في وسعنا لكي لا ينقلب ذلك اللجوء إلى ‘احتلال’، أكثر منه ‘هجرة إلى الله’ و’جهاد في سبيل الله’؛ فإنّ البديل ليس، البتة، انتهاج سلوك النعامة، ودفن الرأس في الرمال، والتعامي عن علم اجتماع صعود، أو انحطاط، المجموعات ‘الجهادية’ كافة؛ وليس الخلط الغوغائي بين حرب إسقاط النظام وأيّ، أو كلّ، معركة أخرى قد تعيق الانتصار في الحرب، أو تؤخّره.

وذاك بديل لا ينخدع طواعية بترحيل موسكو وتضليل طهران حول المسألة الشيشانية، في بلاد الشيشان ذاتها، فحسب؛ بل ينقل المياه الآسنة إلى طواحين النظام، هنا في سورية، أيضاً وقبلئذ.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تنبري للدفاع عن المسلحين مهما فعلوا وبغض النظر عن الداعم, وتستغرب وتستنكر دعم ايران والصين وروسيا ولا تذكر الهند ودول اخرى من باب التجاهل. حاربت مثقفي الكرة الأرضية من يسار ويمين لتشكيكهم بأحداث سورية ولم يبقى الا ان تتهم جزر القمر بل القمر نفسه بدعم النظام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى