صفحات الثقافةعلي جازو

الشِّعر والبعث والثورة/ علي جازو

 تبقى علاقة الشعر بالسياسة ملتبسة ومحل جدل قديم. يصنع السياسي واقعاً بفعل مادي مباشر، غالباً ما يتخذ طرق العنف والإكراه. كلا السياسة والشعر سلطة، غير أن المكان الذي تأتي منه سلطة الشعر يكاد لا يشبه في شيء مكان سلطة السياسة. ثمة جفاء بين العملين ونفور وشيء يشبه الرفض والتعالي. إن إعادة السؤال حول هذه العلاقة ومدى بقائها في ركود معلّق باتت ملحة أكثر من أي وقت مضى.

لم يكن للشاعر السوري، حسب الفهم البعثي للشعر، دور سوى توعية الجماهير وتعزيز حسّها القومي وتمتين روابطها مع ماضي الأمة. يُقاس الشعر بمقياس العموم غير المحدد، يتحول إلى شعار، وإلى حضور مجرد عن زمنه وظرفه. لا تحديد لمكان عيش الشاعر، ولا اختياره الفردي الحر. الحاجة إلى الشعر هنا هي الحاجة إلى التحريض والحشد. عمل الشاعر أقرب إلى عمل قائد عسكري، ووسيلته في ذلك هي اللغة.  ثمة جماهير لا تعرف أو هي قليلة المعرفة. كأنها بلا لغة وعلى الشاعر أن يلقمها الكلمات النافعة والمرشدة والسديدة.

الجماهير إذن ليست سوى حشود بلا وعي وما ينقصها قبل أي شيء آخر هو انتماؤها القومي. يحل النسب القديم محل الولادة الجديدة، فالأخيرة تقاس بماضيها الأصيل وعليها تكراره وحفظه كما كان. ثمة نموذج كامل، ومهمة الشاعر ترديد صوته ونشره. الشاعر ناقل رسالة وليس كاتبها. هناك كمال بلا نقص، ومهمة الشاعر استعادته. هذه رسالة الشعر وهذا دوره. لا مكان للحاضر هنا، لا مكان لحدث جديد وفكر آخر وخيال مختلف، وكل ما يجري في الحاضر بلا قيمة. الزمن الحاضر زمن فارغ، إنه حيز للاستعادة وملتقى للصدى، فهو بلاصوت يخصه، وما يميزه ويجعل له قيمة أن يكون بلا صوت يعكس الحاضر. الجماهير بلا خبرة وبلا وعي، إنها ضعيفة وجاهلة وما على الشاعر سوى إرشادها والأخذ بيدها. الشاعر عين تعرف كل شيء وترى كل شيء وها هي تقود العميان إلى المكان الآمن. هكذا نموذج لفهم الشعر ونشره يماثل نموذج الديكتاتور البطل والفريد. ثمة قائد تحمل كل المهمات، وما على الآخرين سوى السير خلفه وتكرار خطاباته. قيمة الشعر إذن في “التربية” السياسية وفي قوة ومتانة دوره القومي.

لا شيء يمكن أن يدرس في إطار الجمال الفني والتذوق الأدبي. هما تحصيل حاصل وقد ارتقيا من قبل إلى كمال وامتلاء خالصين. هذه سياسة تصلح لأحزاب ولا تصلح للشعر، بل هي تفسد الشعر وتجعل منه سياسة دولة لا صوت فردي فيها، وما يميز أي نظام استبدادي يكاد يتمحور حول هكذا دور: إلغاء الأفراد كأفراد، وتحويلهم إلى أرقام. يأخذ الشاعر في دولة البعث مكانة قبل شعره وقبل شخصه، ثم يحول الأثنين إلى وظيفة محضة. هكذا يمكن صناعة الآلات ويمكن تحويل الخيال إلى آلة. لا سير فردية لتُرى وتحس وتختبر حياتها من خلال كتابة القصائد وقراءتها، فالأخيرة مكان مجرد، وثمة عمل كبير وعظيم يتم داخله، والواجب يفضي إلى الاستمرار وفق هكذا نهج إلى لانهاية. لن يكون للصمت مكان ولا للحيرة دور ولا للقلق أثر ولا للنقص نبر.

الكمال لا يعترف بنقص وتزعجه الحيرة. الكمال سيّدٌ ومن هم خارج هكذا سيادة جهلة وضعفاء. الصمت يحمل على معنى الهشاشة والتردد، والحيرة منبوذة ومكروهة والقلق سمة الضعفاء. على الشاعر أن يرفع صوته الذي هو صوت الجميع ولغاية الجميع. سيكون مفيداً للشعر أن يعود إلى نماذج محددة من التاريخ، نماذج البطولة الخرافية والقائد العظيم. على هذا النحو يتم اختيار كتب الدراسة الأدبية ووضع مناهج التعليم. ليس غريباً أن نجد داخل هذا الشعر نكراناً للحياة. ستقوم المدارس والجامعات على تأصيل هذه النماذج وشرحها وتوظفيها خدمة للسياسة التي يناسبها الخطاب المجرد والغاية البعيدة، وسيتجاوز الأمر الأدب إلى الحياة الجامعية كلّها. تمتلئ سوريا بمئات المراكز الثقافية البعثية، فيما شعراؤها ينشرون قصائدها خارجها. كأن تلك المراكز كانت في أرض أخرى كما كان فهم الشعر في زمن آخر. ليس للسوري شعر مكانِهِ حيث يعيش  ومحل عمله حيث يختلط ويتخبر مادة الحياة الخام، ليس له مدينة ولا نبرة خاصة. ثمة تاريخ مجيد ينبغي أن يستعاد على جناح الشعر ولا شيء آخر. يأتي شعر البعث من فرض الإرادة، لا من اكتشافها. الإرادة معروفة سلفاً، وما على الشاعر سوى بثّها.

 لعل ثورة الشعر في مكان آخر، لكن أثرها يجول في المخيلة والشعور والتأثر. يأتي الشعر من مكان غريب، لكن غرابته هذه هي التي تخلق أثراً في واقع ملموس. كلما ابتعد الشعر عما يتشابه ويتماثل كلما كان أقرب إلى صوت الإنسان،؛ ذاك الفرد الذي يمكن أن يعثر على كلمته وسط الخراب وداخل أضيق الأماكن وأتعسها. شعر مع الثورة هو شعر لأجل غايتها الجوهرية: حرية الفرد قبل مكانة الأمة، فالأول هو الأصل وهو الأساس، إذا كان من داع لقول بديهة كانت مهمة البعث العمل على خنقها طوال نصف قرن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى