صفحات العالم

الصحراء السياسية السورية تنحسر امام مد سياسي خصب


د. بشير موسى نافع

يوم مشهود آخر في سجل الثورة السورية. في جمعة الرحيل، التالية لخميس بركان حلب، صعد الشعب السوري بثورته مستوى جديداً. كانت البوكمال في أقصى الشرق، مدينة الله أكبر، كما باتت تسمى، أول من يخرج.

وسرعان ما تبعتها المدن والبلدات السورية، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب: القامشلي، رأس العين، عامودا، دير الزور، تدمر، الرقة، حمص بقضها وقضيضها، وبلداتها المختلفة (الوعر، الرستن، القصير وتلبيسة)، إدلب ومدنها وبلداتها (معرة النعمان، كفر نبل، نبش وسرمين)، مختلف أحياء حلب، حماة وبلداتها (حلفايا، السلمية، صوران وكفر زيتا)، اللاذقية وجبلة، كل ريف دمشق تقريباً (عربين، الزبداني، داريا، حرستا، حمورية وسقبا)، درعا وأغلب مدن وبلدات محافظتها الأخرى، بانياس، اللاذقية، وأحياء القابون وقدم والحجر الأسود والميدان وركن الدين في العاصمة دمشق.

طبقاً لناشطين سوريين، شهدت البلاد مظاهرات في أكثر من 250 موقعاً، ضمت زهاء الأربعة ملايين من سكان سورية الـ 24 مليونا. كتب ناشط سوري، معلقاً على مظاهرة مدينة حماة، مدينة السبعمائة ألف نسمة، التي ضمت مئات الآلاف من السكان، قال ‘تليق بك الحرية يا حماة’. ولم يخب الأمل بحماة، التي وقفت أمام محاولة الاقتحام العسكري ـ الأمني في الأيام التالية كما ينبغي أن يكون الوقوف في مواجهة الاستبداد. ولم تقل مظاهرة حمص الرئيسية عن المائة ألف، بينما قدرت مظاهرات دير الزور والقابون بعشرات الآلاف. فأين وصلت الثورة السورية الآن؟

انطلقت الثورة التونسية من مناطق الوسط المهمشة، لتمتد شيئاً فشيئاً إلى الجنوب والشمال. ولكن بدايات الانتصار لم تلح حتى هبت رياح الثورة الشعبية على العاصمة تونس، معقل النظام ومقتله. وانطلقت الثورة المصرية من البداية بتدفق جماهيري هائل، استطاع خلال أيام قليلة أن يكسر إرادة الأجهزة وقوات الأمن وأن يجبر النظام على استدعاء الجيش، الذي رفض المشاركة في قمع الجماهير وأخذ بالتالي الخطوة الأولى لإطاحة النظام.

وتطورت حركة الشعب اليمني قليلاً قليلاً من بؤر احتجاج شبابية في صنعاء وتعز إلى تجمعات جماهيرية حاشدة، لم تزل تخوض صراع إرادات مرير مع أجهزة النظام وقوات الجيش الموالية له والتدخل الإقليمي. ما يتضح الآن أن السوريين يطورون نمط ثورتهم الخاص، النمط الملائم لظروف سورية وطبيعة النظام الحاكم. في الشهر الأول من الثورة السورية، اتسع نطاق الحركة الشعبية لتغطي كافة أنحاء البلاد، في مظاهرات متوسطة الحجم والثقل الجماهيري، لا يجب أن يكون ثمة شك في الشجاعة الهائلة التي تمتع بها أولئك الذين انخرطوا في صفوفها. يرتكز النظام إلى آلة قمع وتحكم هائلة، ولم يخف منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحركة الشعبية عزمه على مواجهة الشعب بأقصى مستويات القمع. ولكن، وبالرغم من سقوط المئات من الشهداء على يد قوات النظام الأمنية، كان السوريون يحثون الخطى على طريق الثورة والتغيير.

خرج المصريون بغضب عارم، لم يكن باستطاعة آلة قمع الدولة الأكبر والأعمق جذوراً في المجال العربي مواجهته لأكثر من ساعات ولعدة أيام فقط. وخرج السوريون بغضب مرير، سحيق، لا حد لفيضاناته، أظهرت تجربة الشهور القليلة الماضية أن لا وسيلة لامتصاصه مهما بلغ النظام من دهاء وجبروت ووحشية.

وإن أظهر اليمنيون صبراً ورباطة جأش لا مثيل لهما، فقد تجلى في أسابيع الثورة السورية من الصبر والمثابرة ما لم يعرفه العرب أو يشهدوه منذ زمن طويل. مثابرة رواد الثورة الأوائل والمرارة الثقيلة التي تجلت في تصميمهم على مواصلة المعركة مع النظام، مهما تطلبت من زمن، سرعان ما كسرت حاجز الخوف، وأطلقت قطاعات واسعة من الشعب السوري من عقال منظومات السيطرة والتحكم التي أقامها النظام طوال عقود. خلال الأسابيع القليلة الماضية، تطورت مظاهرات الآلاف إلى عشرات الآلاف، ومظاهرات عشرات الآلاف إلى مئات الآلاف، ولم تبق بقعة في الأرض السورية لم تعبر عن مطالبتها بالتغيير. لم تتوقف قوات النظام وأجهزته عن القتل والاعتقالات والتدمير، ولكن النظام خسر كلية معركة السيطرة والتحكم. وبخسارة النظام المعركة الأكبر في مسار الثورة، لم يعد من الممكن لقادته إقناع أنفسهم بأن سياسة القمع بقوة السلاح والقتل العشوائي يمكن أن تحتوي الحركة الشعبية، بالرغم من عجز النظام وقواته عن تغيير طرق القمع والقتل التي اعتادها.

وبدأت بالتالي مرحلة التخبط والارتباك: مرة يعترف قادة النظام والناطقون باسمه بمشروعية المطالب الجماهيرية، وأخرى يصفون المتظاهرين بالمندسين والجراثيم المرضية والعمالة للخارج؛ مرة تقدم الوعود بالإصلاح ومحاربة الفساد، وأخرى يجهد النظام للتوكيد على عدم تراجعه أمام الحراك الجماهيري ويدعي أن مشاريع الإصلاح قديمة العهد ولا علاقة لها بما تشهده شوارع المدن السورية؛ مرة يعد النظام بالتوقف عن استخدام القوة، وأخرى تنطلق الألوية المدرعة وميليشيات الأمن لاقتحام المدن والقرى المتمردة، بحيث بدا وكأن النظام يعيد احتلال سورية من جديد؛ ومرة يصف ناطقو النظام الحركة الشعبية بالمسلحين الإرهابيين والعصابات المسلحة من التكفيريين والمخربين، وأخرى تتوسل أجهزة النظام شخصيات المعارضة السورية وما تبقى من أحزابها الالتحاق بالحوار الرسمي أو عقد مؤتمرات سياسية في أبرز فنادق العاصمة. وهنا يتقدم السوريون خطوة أخرى، وعلى جبهة أخرى، في اتجاه تقويض نظام الاستبداد وإنجاز أهداف التغيير.

ليس ثمة شك في أن قوى المعارضة السورية متعددة وتفتقد الناظم وقنوات الاتصال، وربما القاعدة الجماهيرية الواسعة ووحدة الهدف. ولكن هذا ليس غريباً؛ فسورية تعيش في الحقيقة، حتى بمقاييس مصر وتونس واليمن قبل الثورة، حالة تصحير سياسي منذ سيطر حزب البعث على الحكم قبل ما يقرب من نصف قرن.

العدد الأكبر من الكوادر السياسية يعيش في المنفى، ولا يكاد يوجد معارض سياسي واحد في داخل البلاد لم يتعرض للاعتقال، ولسنوات مديدة أحياناً. ولكن ما أن انطلق الحراك الشعبي في منتصف آذار/مارس حتى أخذت الساحة السياسة السورية تشهد حراكاً موازياً من المؤتمرات والحوار الجاد والبيانات الجماعية وحشد الجهود، في الخارج أولاً، ثم ما إن برزت بوادر ارتباك النظام واضطراب مقاربته للثورة وحركة الشعب، حتى انتقل الحراك السياسي إلى الداخل.

عقد أولاً مؤتمر أنطاليا، الذي ضم قطاعات مختلفة من الناشطين السوريين في الخارج؛ وتلاه مؤتمر بروكسل، الذي التحقت به قطاعات أخرى. وسرعان ما تداعى عدد من المعارضين السوريين في الأسبوع الماضي لعقد لقاء اليوم الواحد في فندق سميراميس بالعاصمة دمشق؛ ثم أعلنت هيئة تنسيقية لعدد من الأحزاب والشخصيات السياسية في الداخل والخارج. وقبل أيام قليلة عقدت مجموعة أخرى، ممن وصفوا أنفسهم بكتلة الوسط، أو المبادرة الوطنية، لقاءاً آخر في العاصمة السورية.

لم تخل هذه اللقاءات من عناصر موالية للنظام، وليس بالضرورة أن الكيانات والهيئات التي انبثقت عنها ستستمر طويلاً. والأرجح أن لقاء ما اسموا أنفسهم المبادرة الوطنية قد تم بإيحاء من دوائر معينة في نظام الحكم. ولكن المسألة الهامة أن تفرد عناصر النظام وقيادات حزبه والمرتبطين بأجهزته في الساحة السياسية قد انتهى.

بعد عقود طويلة من الخطاب الرسمي وشبه الرسمي الركيك والأحادي، يتعرف السوريون والعرب على أصوات ووجوه النخبة السياسية والفكرية السورية، ويرون سورية الأخرى، سورية الأصل، كما لم يروها من قبل. الصحراء السياسية تنحسر اليوم أمام مد سياسي خصب، لا يقل حرارة وتنوعاً عن الحركة الشعبية التي تعيد رسم ملامح المدن والبلدات السورية.

بيد أن التحدي الأكبر الذي يواجهه النظام الآن يتعلق بالدعوة التي أعلنها العشرات من أبرز شخصيات المعارضة، أغلبها من داخل البلاد، لعقد مؤتمر إنقاذ وطني بمدينة دمشق.

في ضوء ما تستبطنه الدعوة لعقد مؤتمر إنقاذ من إيحاء بانتهاء النظام وضرورة العمل من أجل نقل البلاد إلى حقبة جديدة، فالأرجح أن المؤتمر لن يسمح له بالانعقاد في دمشق. ولكن مجرد انعقاد مثل هذا المؤتمر، وإن في خارج سورية، يعني أن ثمة إرادة سياسية سورية تتبلور الآن باتجاه مواكبة الحراك الجماهيري والعمل على تحقيق انتقالة جذرية، تؤسس لسورية جديدة.

ما يعتقده النظام أن تراجعاً محسوباً أمام الحركة الشعبية، بتوفير هامش صغير أمام القوى السياسية المعارضة، سيعمل على ثلم حدة المخاطر التي تهدده من العقوبات القانونية والاقتصادية ذات الطابع الدولي، ويساعد على احتواء النخبة السياسية والقوى الحزبية. ولكن أنظمة الاستبداد تأخذ في الدخول إلى أشد لحظاتها تأزماً وارتباكاً عندما تبدأ في تقديم التنازلات لقوى المعارضة. وبالرغم من التجاذب المتوقع في صفوف القوى السياسية السورية، فإن لقاءات قوى المعارضة في الداخل لا تقل أهمية ووضوحاً حتى الآن، إن لم تزد، عن نظيرتها في الخارج. ولن تلبث التنازلات ‘المحسوبة’ من قبل النظام أن تصبح تراجعاً حثيثاً أمام قوى التغيير الشعبية والحزبية.

قد لا يكون هذا التقدير صحيحاً كلية، ولكن الملاحظ أن السوريين يدركون الآن أن هذه معركة طويلة، وأنها ستكون أشبه بالنحت في الصخر منها إلى العاصفة أو الفيضان، وأنهم على استعداد لمواصلتها مهما بلغت من تضحيات وزمن.

ما بات مؤكداً على أية حال أن النظام سيخسر في النهاية هذه المغالبة الطويلة والمريرة مع الشعب، المغالبة التي اختارها أن تكون كذلك، وأن سورية لن تعود إلى الوراء.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى