صفحات سوريةورد كاسوحة

الصراع في سوريا: من أجل رد الاعتبار إلى جميع الضحايا


ورد كاسوحة

منذ بداية «التصدع المجتمعي» في سوريا، والإعلام النفطي المهيمن يتناول بالتفصيل معاناة المعارضين للنظام: كيف تعرّض هؤلاء للسحق من جانب الآلة الأمنية الفاشية، وكيف خضعت بيئاتهم الاجتماعية لتجريف سلطوي شديد لم يسبق لسوريا أن رأت مثيلاً له… الخ. كل ذلك صحيح وواقعي إلى أبعد الحدود، غير أنّ مقدار الصحة الذي ينطوي عليه في ظل تفرّع الأزمة وتمددها إلى بيئات أخرى (موالية للنظام) بات بحاجة إلى مراجعة جدية. مراجعة تأخذ في الحسبان مسؤولية النظام عن تعريض بيئته الاجتماعية للعنف «المضاد»، لكن من دون أن تنساق في المقابل إلى تصنيم تلك المسؤولية وتحويلها إلى هراوة في يد المعارضات السورية الجبانة (بشقها الوطني تحديداً)، والخاضعة للابتزاز النفطي المستمر.

بإمكان المرء أن يفهم سكوت المعارضة «العميلة» لرأس المال النفطي والدولي، عن تعريض بيئة النظام للعنف، على اعتبار أنّ السكوت ذاك هو جزء من العملية الجارية لتنميط العنف المتنقل في سوريا، ونسبه إلى الجانب النظامي فحسب. لكن عندما تستبطن المعارضة الوطنية المنطق ذاك، وتعممه على مجمل أدبياتها في ممالأة سهلة ومبتذلة للمزاج الشعبي المعارض، نصبح أمام مشكلة جدية فعلاً. والمشكلة هنا لها شقان: الأول أخلاقي يتعلق بمسؤولية المعارضة الوطنية ذات التاريخ النضالي ضد النظام الفاشي عن إدانة كل أشكال العنف الذي يطاول المدنيين السوريين، وبمعزل عن انتماءات أولئك المدنيين وتموضعاتهم السياسية والطبقية والطائفية. والثاني براغماتي يتصل بحسابات تلك المعارضة فيما لو قدمت الاعتبار الأخلاقي على ما عداه، وبالتالي صوّبت نقدياً على الذراع العسكرية لقاعدتها الشعبية، تماماً كما تفعل عادة مع الذراع العسكرية للنظام.

حتى الآن، لا يبدو أنّ الاعتبار الأخلاقي الذي يتضامن مع معاناة السوريين إلى أي جهة انتموا، قد وجد طريقه إلى خطاب المعارضة الوطنية. وحده هيثم مناع (إلى جانب آخرين في تجمع اليسار الماركسي) حاول أن يرتق هذا الثقب الأسود في خطاب رفاقه، لكنّه عاجز عن النهوض بذلك وحده. عادة تناط مهمة كهذه بمؤسسات وهيئات حقوقية مستقلة (فعلياً لا صورياً)، لا بأفراد لا تعبأ مؤسسات «حقوقية» أخرى بصراخهم ما دام قد خرج عن السردية التي أمليت عليه / علينا، من جانب أصوات «المجتمع الدولي» المذعنة لسطوة رأس المال الغربي/ النفطي. لا أعلم ما إذا كان الرفيق هيثم قد تطرق إلى معاناة الموالين في حمص وريفها، أو في ادلب وريفها، أو في غيرهما من المناطق الساخنة، لكن ما أعلمه حقاً بحكم وجودي كمعارض للنظام في منطقة ساخنة أنّ صراخ هؤلاء بات يحتاج إلى من يخرجه إلى العلن. ما عاد الإصغاء إلى صراخ المعارضين من بطش النظام كافياً وحده. علينا أن نطوّر المقاربة الأخلاقية لمعاناة المدنيين في سوريا (وكذا المسلحين، فهؤلاء لهم بيئة تحتضنهم وتتعرض لتنكيل منهجي من الأجهزة الأمنية والعسكرية)، بحيث لا يعود التفريق ممكناً كثيراً بين من يقصف بقذائف الدبابات في بابا عمرو (وسواها من الأحياء المعارضة في حمص)، ومن يقصف بقذائف الهاون والـ«أر.بي.جي» في النزهة والزهراء (وسواهما من الأحياء الموالية في حمص أيضاً). قد لا تناسب هذه المقاربة مزاجاً معارضاً راديكالياً يعتبر أنّ من قتل من المعارضين على أيدي النظام وميليشياته أكثر بكثير ممن قتل من الموالين على أيدي المجموعات المسلحة. وقد لا تناسب أيضاً مزاجاً موالياً يعتبر أنّ بيئته الاجتماعية اليوم هي «الأكثر عرضة للتجريف والتنكيل»، بخلاف ما تقوله المعارضات المختلفة، وبخلاف ما ترطن به معظم السرديات الإعلامية المهيمنة.

لاحظوا هنا بنية الخطاب السائد (الموالي والمعارض) الذي يختزل الضحايا إلى أرقام فحسب، ويجعل من «كثرتهم» أو «قلّتهم» معياراً وحيداً لقياس نجاعته من عدمها. لا يعود الانسان كقيمة عليا مهماً كثيراً هنا، بقدر ما تنحصر «قيمته» في إمكانية توظيف فنائه (اقرأ: موته أو قتله) سياسياً، والإكثار من هذا الفناء إن أمكن. هكذا تشتغل آلة النظام الدعائية اليوم، وهكذا تلاقيها آلة المعارضة (بشقها الكولونيالي تحديداً) التي لا تقلّ دعائية وصفاقة. كلاهما يزيّتان عجلاتهما السياسوية بدمائنا ولحمنا الحي. كلّ يوم تقريباً يقتل العشرات من السوريين (معارضين وموالين) في شوارع حمص وادلب ودرعا وحماه، لكن ما يظهر من موتهم على الشاشات الدعائية الفظّة يوحي بأنّ الموت المسموح به هناك هو ذاك الذي يستخدم في التمارين العضلية فحسب. تمارين النظام في الأحياء التي تقرّر الإجهاز عليها بحكم كونها بيئة حاضنة «للمسلحين الشجعان»، وتمارين المعارضة المسلحة التي حسمت قرارها في استهداف «الموالين / المخبرين» وإخراجهم من جنة/ جحيم البيئات المختلطة طائفياً.

ثمة مشكلة حقيقية في هذا العرض لواقع الحال في البيئات السورية الساخنة والذاهبة نحو التفكك الحتمي. فالعرض هنا مركّب وغير قابل للاستهلاك السهل على طريقة الإعلام النفطي المأجور والعميل. إذ كيف لمعارض راديكالي أن يتناول معاناة الموالين وتراجيديتهم في الأماكن التي نزحوا منها، أو أجبروا على فعل ذلك؟ هذه ليست معارضة في عرف المعارضة الطارئة وغير النضالية، بل هي موالاة مقنّعة ومحاولة مبتذلة للمساواة بين الضحية والجلاد! حسناً. لنفترض أنّ تلك هي الحقيقة فعلاً، وأنّ في ذاك النقاش ما يستحقّ الوقوف عنده، هل سيغيّر ذلك من الوقائع الصلبة على الأرض؟ الأرجح أنّه لن يفعل، ولو حصل ذلك حقاً بخلاف توقعاتنا لأمكن في المقابل للموالين إقناعنا بأنّ القمع المنهجي الذي تتعرض له الفعاليات المعارضة المدنية والعسكرية (منطق «الثورة» غير الموفق في الحالة السورية هو من يفرض فكرة تعرض فعالية عسكرية منظّّمة للقمع!) ليس تماماً كذلك. إذاً نحن إزاء حالة معقدة لا يمكن فيها أحداً، مهما كان مغالياً، إنكار تعرض جميع السوريين بدون استثناء لحالات متفاوتة من العنف المادي، وإن كان الطرف المعارض هو الذي حاز القسط الأوفر منه حتى الآن. ومع ذلك تبقى إمكانية التشكيك قائمة وممكنة، شريطة أن تنطوي على بنية جدلية تحاجج بالوقائع والمعطيات الملموسة، وتبني عليها خلاصات منطقية، بعيداً عن منطق الابتزاز العاطفي لبيئة بعينها دون باقي البيئات الأخرى.

كلّ هذا النقاش قائم في البيئات السورية الساخنة، وما من أحد قد سمع به خارج حدود هذا البلد، إلا من (وما) أرادت له القوى السياسية المهيمنة هناك أن يسمعه (حلفاء النظام في لبنان مثلاً)، وغالباً لأسباب لا صلة واضحة تجمعها بالسوريين ومعاناتهم! هو ذاته سوق النخاسة الذي أقيم عقب اغتيال رفيق الحريري يعود اليوم بأشكال مغايرة، ليبني على أجساد السوريين في المعارضة والموالاة جبلاً من النفايات السياسوية اللبنانوية. لكن لبنان (السياسوي) وترّهات ساسته القذرين في 14 و8 آذار المأفونتين، ليس موضوعنا هنا (لا يصلحان حتى كموضوع للنقاش)، وما جرّنا إلى ذكره وذكر ساسته هو استخدام البعض فيه لمعاناة الموالين ذريعة للتصويب على خصم داخلي يستخدم بدوره معاناة المعارضين ذريعة مقابلة. يا لبؤسنا في هذا البلد! ما عادت معاناة أهلنا في الموالاة والمعارضة صالحة للاستخدام إلا كدريئة بين قوى سياسية مجاورة عفنة وتابعة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكنا رفعنا القبعة لسمير جعجع وسعد الحريري ووليد جنبلاط وفارس سعيد وحسن نصر الله ونبيه بري وميشال عون وباقي المنافحين عن «معاناة الشعب السوري» في المعارضة والموالاة. هذا في لبنان حيث لا «ثورة» ولا من يحزنون، وحيث هزمت ثقافة العداء للريع النفطي الذي يبتاع الولاء منذ زمن، ولم يبق في مواجهته اليوم إلا شربل نحاس وأمثاله من راجمي العبودية الراديكاليين.

بعدما اتفقنا على أنّ المقاربة اللبنانوية لمعاناة السوريين لا يمكن أن تكون إلا كذلك (أي على صورة التحالف الطبقي ــ الطائفي الحاكم في هذا البلد)، تعالوا نذهب إلى أمكنة يفترض أنّها أكثر تعبيراً عن «روح الشعب الذي انتفض لحقوقه وحرياته». في مصر مثلاً، لا يمكن للمرء أن يجد خبراً واحداً (أو تحليلاً حتى) لا يمالئ القراءة النيوليبرالية للحراك في سوريا. حتى الصحف اليسارية وذات التوجه الراديكالي (البديل الالكتروني مثلاً) ما عادت معنية كثيراً بتفحّص الواقع السوري كما هو فعلاً، لا كما تقرؤه وتعيد صياغته الميديا النفطية المشغولة «بإسقاط النظام» ومن معه من موالين (هؤلاء «شبيحة» فحسب وليسوا أناساً لهم انحيازات طبقية و«طائفية» ومناطقية يجب التدقيق فيها جيداً قبل الحكم عليهم بالإعدام الرمزي على طريقة أبواق سلالات النفط). وكما في مصر كذلك في تونس، وان كان الإرث النقابي الصلب هناك قد فوّت حتى الآن على الأبواق النفطية العميلة فرصة إحداث مماهاة بين الوقائع التونسية الفعلية والصياغة النفطية القذرة لتلك الوقائع. لذلك تحديداً، بقي قطاع لا بأس به من التونسيين (اليسار والناصريون وبعض الليبراليين) بمنأى عن التفاصيل التي تحاول حركة النهضة الموالية لقطر جرّهم إليها. مثلاً، رأيت قبل فترة على شاشة فضائية «نسمة» (وهي نيوليبرالية بالمناسبة!) تظاهرة لتونسيين وتونسيات يعترضون على طرد «حكومة الثورة» للسفير السوري (وطرده من عدمه ليس مشكلة إذا ما كان القرار بذلك قد نال إجماعاً حقيقياً داخل المجتمع التونسي، وهذا ما لم يحصل)، وإغلاق «السفارة السورية» في تونس العاصمة. طبعاً ليس جديداً أن يعترض نشطاء عرب على قرار حكومي لا يعتقدون أنّه يمثل قراءتهم المستقلة لما يجري في سوريا، وليس جديداً أيضاً أن ينضم هذا النسق من الاعتراض إلى سياق معيّن هو سياق الضغط على النظام التونسي «الجديد» من جانب نشطاء ليسوا بالضرورة موالين للنظام في سوريا (بينهم ثوريون يعترضون على مصادرة الحراك في تونس وفي سوريا وإلحاقهما على نحو فظّ ومبتذل بالقاطرتين الكولونيالية والنفطية). لكن الجديد حقاً هو صورة الأعلام السورية التي رفرفت في تلك التظاهرة الاعتراضية. لم يرفع هؤلاء علم الانتداب والانفصال بين سوريا ومصر (لا «علم الاستقلال» يا شبابنا المنتفض)، بل رفعوا علم الوحدة بين البلدين. معنى ذلك أنّهم بقوا حتى الآن خارج تأثير الميكانيزمات الكولونيالية التي لم تنشغل بشيء قدر انشغالها بتفكيك صورة العلم الحالي وإلحاقه على نحو تعسّفي بالحقبتين البعثية والأسدية (يجب التفكير جدياً بمغادرة منطق شخصنة الصراع ضد النظام، فالنظام لا يضم عائلة الأسد فحسب، بل هو نتاج تحالف طبقي ــ طائفي ــ مافيوزي، قد تنضم إليه لاحقاً فصائل من المعارضة الكولونيالية إذا ما قرّر الغرب ذلك). ولأنّهم بقوا هناك، رفعوا الأعلام التي لفّ بها جسد الراحل جمال عبد الناصر، رمز الصراع ضد الكولونيالية والرجعية والريع النفطي الدبق، في حقبة من الحقبات (من دون تصنيم الرجل وحقبته كما يفعل البعض). لقد بدت لي تلك الصورة مفارقة لكلّ النسق الذي تشتغل عليه الميديا النفطية بقيادة المستعمرة القطرية. ومجرّد أن تشغل صورة مماثلة حيزاً ولو ضئيلاً في إعلام موصوف بالنيوليبرالية السياسية، فهذا يعني لنا الشيء الكثير. هو يعني أولاً أنّ الصيغة التي أريد لها كولونيالياً أن تجمع بين رأس المال النفطي ونظيره الفرانكوفوني لتمرير المرحلة الانتقالية في تونس بأقلّ قدر ممكن من الخسائر بالنسبة إلى الغرب الذي يرعى الطرفين، قد بدأت بالتفكك تدريجياً. وهو يعني ثانياً أنّ نفاذنا في اليسار والتيارات الوطنية التقدمية الأخرى من هذه التناقضات داخل البيت الكولونيالي الواحد ما عاد مستحيلاً كما كان بالأمس. وإذا صحّ ذلك في تونس (حيث بداية الحراك قبل مصادرته) فسيصحّ في مصر أيضاً (الوضع هناك أكثر تعقيداً)، وستكون تلك بداية موجة الثورات الحقيقية هذه المرة (لا الصورية والملوّنة). موجة ستستعيد صراعنا من القبضة النفطية العميلة التي صادرته، وستعيد الاعتبار إلى كلّ ضحايا هذا الصراع: الكلّ بدون استثناء.

* كاتب سوري

الأحبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى