صفحات العالم

الصفقة: البرنامج النووي مقابل بقاء الأسد!

عبدالوهاب بدرخان *

قال بشّار الاسد في خطابه الخامس: أنا الحل والحلّ أنا، لا داعي لانتظار الخطاب السادس، لأنه نسخة طبق الأصل عن الأول. المفزع أنه كان يبلغ الجميع، السوريين والعالم، الحلفاء قبل الأعداء أنه حسم أمره: ذاهبٌ الى حرب إبادة. قد يكون هذا خطابه الأخير، لذلك اختار أعوانه دار الأوبرا ليتقنوا مسرحته، بما فيها خاتمة هرع المعجبين اليه وعراك «الشبيحة» مع «الشبيحة».

لم يتكلّم الاسد لأن لديه حلاً أو مبادرة، بل ليقول للأميركيين والروس إن رسالتهم وصلت، وأنه شريكهم الاستراتيجي والضروري في الحرب على الارهاب والارهابيين… وما عليهم سوى أن يُحكموا إغلاق أبواب «تمويل وتسليح وإيواء» المسلحين لكي يتمكن من انجاز المهمة. والواقع أن هذه الأبواب أُغلقت فعلاً، كما لم يحصل في أي وقت سابق. ومع ذلك، أنّى للنظام أن ينفّذ ما وعد به الروس للمرة الألف: أن يحسم؟!

ثمة هوّة سحيقة بين الواقع، الوضع على الأرض، وبين ما يروّجه النظام وما يتصوّر الاميركيون والروس أنه الواقع. كانت واشنطن أوحت في الشهور الأخيرة أنها تراهن على انجازات المعارضة ميدانياً، وبعدما أنجزت فعلاً ضغط الاميركيون على الفرامل: لا إسقاط عسكرياً للنظام، وبالتالي لا أسلحة جديدة ونوعية. ثم: لا أسلحة ولا ذخائر. أمكن عسكريي المعارضة أن يلمسوا هذه الحقيقة، هذا الخطر. لكن من يعتقد أن النظام سيتمكّن من إعادة سيطرته على مناطق خسرها لا بد من أنه يجهل تماماً ما أصبحت عليه الأرض.

يقاتل النظام لاستعادة داريّا ومعضمية الشام، على أمل معاودة تأمين مطار دمشق، ليتمكّن حلفاؤه والمبعوثون الدوليون من الهبوط فيه مباشرةً بدل قدومهم «المذلّ» من طريق بيروت. لكن، خصوصاً، لتأمين مطار المزّة العسكري ليبقى باب الخروج أو الفرار مفتوحاً ومتاحاً أمام رأس النظام وأعوانه. كانت هناك زيارة لدمشق أُعلن أن سيرغي لافروف سيقوم بها، قبل مجيء الاخضر الابراهيمي، ثم صُرف النظر عنها، ربما لأن المطار غير آمن، أو لأنه كان متيقناً بأن الاسد سيرفض الاقتراح الاميركي لـ «حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة»، فيعود لافروف بعدئذٍ الى الاميركيين ليقول مثلاً: طالما أنه رفض، دعونا نعتمد اذاً على… على… آه، نسيت اسمه – يقصد وائل الحلقي – بديلاً من فاروق الشرع!

لعل ما يسمّيه أنصار النظام «الحسم انطلاقاً من دمشق» غدا وهماً آخر من تلك التي تراودهم وحلفاءهم. هناك من يرجّح أن يكون ذلك نصيحة من الايرانيين. فهؤلاء هالهم أن يشرع الروس، عبر الابراهيمي، في مبادرة منسّقة مع الاميركيين، من دون أن يحسبوا حسابهم. بلغ الايرانيون الآن حدّ الاستعداد للقتال من أجل مصالحهم، لا من أجل الاسد. بلغوا حدّ المجازفة بالوحدة الجغرافية للكيان السوري، ومعه الكيان العراقي وفقاً لألاعيب نوري المالكي وتصلّباته. لكن كيف يضمنون تلك المصالح بالحفاظ على الاسد اذا لم يكن هذا الأخير ضامناً بقاءه. في أسوأ الأحوال، يمكن المعارضة هضم «صداقة مصلحة» مع عدو واحد، لا مع عدوّين. فهي قد تحتاج الى روسيا، كدولة عظمى لها علاقات تاريخية مع سورية الدولة والجيش، وسيكون لها دور في اطار ضمان دولي للاستقرار وطمأنة الأقليات بعد زوال نظام الاسد. أما ايران فكان لدخولها سورية ونهجها التخريبي أكبر الأثر في فصل النظام عن محيطه العربي وفي انحرافه المذهبي وتغوّله في العنف، وكان لعملائها دور ميداني مباشر في قتل السوريين، مدنيين وعسكريين.

بين النظام وإيران وروسيا علاقة صار يغلب عليها التخادع في شأن حقيقة الوضع. وأي سوري عادي يعايش يوميات الثورة يستطيع أن يفيدهم في تقدير الموقف أفضل مما يفعله الخبراء الأمنيّون. اذا كانت موسكو تراهن على مزيد من المجازر للحصول على حضور المعارضة صاغرة الى الحوار مع النظام، فهي بالتأكيد واهمة. لم تعد المعادلات العسكرية صالحة لبناء استنتاجات سياسية. وأي حل سياسي لا يأخذ دم السوريين في الاعتبار لن يمرّ. هذه معارضة لن يُعثر فيها على شخص يوقّع على استسلام أو يقبل حواراً مع الاسد أو حلاً يبقيه في السلطة. هذا هو الواقع الذي صنعه عنف النظام وتكالب حلفائه وخبث أعدائه المتنكّرين بثوب «أصدقاء» الشعب.

أصبح على روسيا أن تكشف أوراقها اذا كانت تريد فعلاً طرح حل سياسي. فماذا تريد؟ ضمان مصالحها قابل للحوار، أما ضمان مصالحها مع مصالح النظام وإيران في آن فهو تعجيز، فضلاً عن أنه غير واقعي. وليس مهمّاً أن تكون قد حصلت على ضوء الأخضر الاميركي لـ «قيادة» الحلّ، فهي برهنت، بالطريقة الجلفة وباحتقارها دم الشعب السوري، عن إنكار للواقع وقلّة حيلة يؤهلانها فقط لقيادة مزيد من التدهور حتى في أوضاع النظام نفسه الذي تقول إنها تحتاج الى تعاونه بشأن بعض استحقاقات الوضع الانتقالي. حان الوقت كي تتكاشف مباشرةً مع هذا النظام في الممكن والمستحيل، بعيداً من أي منحى ابتزازي أو مساوم للمعارضة، لأنه ببساطة غير مفيد وغير مجدٍ. ينبغي أن يكون التفاهم الاميركي – الروسي واضحاً ومعلناً بأن طرفيه يعملان للحؤول دون أن يتمكّن النظام من تفكيك الكيان السوري، ومن دفع الدولة والجيش الى الانهيار، ومن افتعال مواجهات بهدف إشعال حروب طائفية. كل ذلك يستوجب حسمه، وهذه مسؤولية الروس، قبل أن ينبروا الى دعوة المعارضة الى «حوار». المطلوب وضع النظام في صورة السيناريو المنظَّم لسقوطه. اذ لم يعد مجدياً أي تدخل خارجي (روسي أو ايراني) لإنقاذه، فليس هناك خيار اسمه بقاء النظام. أما خيار انقاذ ما يفترض انقاذه من النظام فهو ممكنٌ فقط ببلورة خطط لرحيل الاسد والمئة – مئتين من القتلة اذا وُجد له (لهم) ملاذ مع ضمان دولي بعدم الملاحقة والمحاكمة. لكن استمراره في المجازر يقلّص فرص العثور على ملاذ كهذا، خصوصاً اذا كان المعنيّون – على ما يُنقل عنهم – يفضّلون «اللجوء الى بلد عربي». ولا شك في أن تعاونه الجدي وعدم مراوغته وعدم تلغيم رحيله بفتن طائفية مفتعلة قد تساعد في ترتيب هذا الخيار. فأنّى للنظام أن يتعاون وألا يراوغ؟!

على «أصدقاء الشعب السوري» أن يعلنوا صراحة ماذا حلّ بهذه «الصداقة» في الاسبوعين الأخيرين. عليهم أن يوضحوا لماذا انتقلوا بين ليلة وضحاها من عراضة «الاعتراف» بائتلاف المعارضة في مراكش الى الإعراض عن الدعم والتسليح والإغاثة الانسانية. عليهم أن يعترفوا بفشلهم في توحيد رؤاهم وفي ادارة استراتيجية تعاملهم مع الأزمة وبأن هذا الفشل أساء الى المعارضة وبلبل مساعيها لتوحيد صفوفها بالإضافة الى الاختلالات الموضوعية التي كانت ولا تزال تعاني منها. عليهم أن يقرّوا بأنهم وقعوا في مخطط النظام الذي قادهم الى «عسكرة الثورة» ليفتح الأبواب للتطرف ثم راح يخيفهم بالمتطرفين وها هو الآن يدعوهم الى الاعتماد عليه ومساندته لـ «مكافحة الارهاب». عليهم أن يتصارحوا بأن التسليم الاميركي لذرائع النظام وللروس والاسرائيليين والايرانيين لا يشكل حلاً سويّاً لسورية وإنما هو وصفة علنية لذبح السوريين ووصمة عار لن يغفروها لأنفسهم اذا كان لا يزال للضمير والانسانية فسحة في سياساتهم. وعليهم أن يبرروا أخيراً لماذا يجب أن يكبّدوا الشعب السوري آلافاً اضافية من القتلى ليقايضوا البرنامج النووي الايراني بالإبقاء على النظام السوري، ولماذا لم يقدموا على هذه الصفقة المتاحة منذ شهور، وكيف يصدّقون ان ايران ستقامر بما تحصّن به «نفوذها»… أما النظام فسيتكفّل الشعب السوري بمصيره في مختلف الأحوال.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى