صفحات الناس

الصندوق الأسود المفقود وتغريبة السوري/ عبود سعيد

 

 

قلت سابقاً: في المطارات أنا متهم حتى أثبت العكس.

واحزروا أين رأيت مطارات في حياتي؟ بالتأكيد لا أقصد مطار دمشق أو مطار حلب الدولي أو مطار أبو ظبي. فهذه المطارات لـ «الأكابر» فحسب.

نحن تشردنا وأصبحت مطارات أوروبا كلها تحت تصرفنا، من فيينّا إلى أمستردام ومن برلين إلى ستوكهولم.

حقنا الطبيعي، نمارسه طالما لدينا جواز سفر أزرق، مطارات من أفخم ما يكون: أناقة، نظام، خدمة خمس نجوم وأحياناً انترنت مجاني.

الحياة جميلة وسهلة لكنها تصبح أبشع وتضيق عندما تصل إلى الكونترول ويمسك بيده جواز سفرك!

يكفي أن يقوم الكونترول بتفحصك زيادة عن اللزوم ولو للحظات أو بنظرة تدقيق ولو بتقليب الصفحات مرات عدة مع صفنة خفيفة لكي تتذكر أنك لست أهلاً للثقة ولا تشبه الآخرين، بخاصة إذا كان اسمك بهذه «الوقاحة»: المحمد عبود سعيد! ناهيك بسمرة بشرتي التي كانت أمي تتباهى بها يوماً ما.

كان مطار إسطنبول أول مطار أدخله، حينها قال لي صديقي لقمان ديركي: «شوف أخوي عبود! اليوم انت رح تروح عالمطار، والمطار كبير، وانت يعني أفهم واحد عالفايسبوك وشيخ الكتاب وأكبر معلم بالمنطقة الصناعية والحدادة، على عيني وراسي بس انت بالمطار جحش! ما تشغل مخك ولا تروح هين وهين، تسأل وتستفسر منشان ما تضيع يا أخوي».

من اسطنبول إلى برلين، وذلك بدعوة لأقوم بقراءات تتعلق بكتابي المنشور في ألمانيا. فأنا الآن كاتب، وكان لا بد من إشارة توحي بذلك، فما كان عليّ سوى أن أقرر أن أطيل ذقني على الأقل، «مو هيك يعملوا الكتاب؟!».

في برلين كاتب وبذقن طويلة. أقدم أوراقي للحصول على إقامة لجوء، لكن الأقدار شاءت أن تكون الصورة التي التقطتها لتثبّت على جواز سفري التُقطت فيما كانت تنمو ذقني الثقافية.

صار عندي جواز سفر باسمي وذقني وبشرتي، ومن مطار إلى مطار تتغير المدن والأسباب والمطارات لكن اسمي وذقني وبشرتي والكونترول واحد.

فتلت أوروبا كلها تقريباً، بكل ما استطاع إليه جواز سفري الأزرق سبيلاً، لكن لا مفر من أن تتذكر في كل مطار من أنت!

إلا في البرازيل فالأمر مختلف. لقد تلقيت دعوة لحضور أحد المهرجانات بعد أن أصبح لي كتاب منشور هناك، ووافقت على الفور، فمن يقول لا للبرازيل؟!

والبرازيليون أغلبهم سمر، بل أشد سمرة مني، وليست لديهم فوبيا البشرة العربية الإسلامية، فهي تضيع في سمرتهم! وهم بعيدون جداً، ومعلوماتهم قليلة عن الأسماء العربية ورعبها.

كل شيء ممكن في البرازيل، وكأنك في سورية من دون بشار الأسد!

في البرازيل، الجميلة لا تعرف أنها جميلة وأنه يحق لها أن تتعالى. السوبر ماركت في البرازيل عبارة عن دكان، مثل الدكان الذي نذهب إلى صاحبه ونقول: «عمو عطينا بخمس ليرات بزر».

حضرت المهرجان، وطبعاً كالعادة، يريدونني أن أتحدث عن الحرب و «داعش» وحقوق الإنسان وإلى ما هنالك من هذا الكلام. ببساطة رفضت وقلت إنني لا أريد أن أتكلم عن الحرب و «داعش»، وأفضل أن أتكلم عن كتابي وعني.

التقط عدد من الصحافيين هذه الجملة ووضعوها عنواناً لمقالاتهم.

مضى يوم ثم يومان، لينتهي المهرجان بخير وسلام بلا أثر له ولا لكتّابه الذين حضروا ولا لمواقفهم ووجهات نظرهم، ولا حتى للمقالات التي كتبت عنه.

انتهى المهرجان لكنني ما زلت في البرازيل، أتسكع في البارات وأشرب الكاشاسا، وأتعرف إلى البرازيليين ويمكنني أن أصفهم بجملة واحدة: البرازيليون ليسوا أجانب!

شعب تعمه الفوضى والجمال، لدرجة أنني كنت في مطار ريو دي جانيرو ذاهباً إلى ساو باولو، وقفت لأدخن خارج المطار وكان جواز سفري مع صديقتي على شباك «التشيك إن»، فسألتها الموظفة البرازيلية أين صاحب الجواز فأشارت صديقتي بيدها بعيداً وقالت: هو يدخن في الخارج، فقالت الموظفة البرازيلية: ما في مشكلة، وختمت وأعطتها الجواز والتذاكر.

بهذه البساطة تجرى الأمور في البرازيل، كل شيء ممكن أن يحدث.

أنهيت سيجارتي ووضعت العقب في قنينة بيرة كانت على الرصيف، ودخلت إلى المطار أبحث عن طائرتي، فإذا بالموظف البرازيلي الأسمر يوقفني ويطلب جوازي وأوراقي. كان يتكلم كثيراً باللغة البرتغالية التي لا أفهمها، وأنا أعطيه الأوراق وأقول لنفسي: هل انضم البرازيليون إلى كونترول العالم؟!، لكنهم لم يخيّبوا ظني، فقد كانت مجرد مخالفة لإطفاء السيجارة على الرصيف وليس في مكانها المحدد.

«أي مو مية أهلا وسهلا! ولك ألف مخالفة سيجارة ولا نظرة كونترول واحدة!».

كان الموظف يكتب المخالفة لكن القلم لا يكتب، ودفتر المخالفات يشبه دفاتر الطلاب الكسالى في الصفين الثاني والأول، مجعلك الصفحات وقديم، وفوق كل هذا نقل الموظف اسمي ورقم جواز سفري خطأً وكان يضع نظارات سميكة، ولا يرى جيداً. إنه مطار البرازيل، أحلى ناس!

وقّعتُ على المخالفة، ثم رأيت موظفة برازيلية من موظفات المطار جميلة جداً، التقطت صورة معها وذهبت إلى مدخل الطائرة، انتظر أن يفتحوا «البوردينغ»، وأنا أتأمل الطائرة البرازيلية التي سأركبها، فألاحظ أن طلاء واجهتها مقشور وأنها «مهرتكة شوي» وهنالك بعض الصدأ. ويظهر من شباك الطائرة رأس الطيار البرازيلي الذي يتجهز للرحلة، انظر إلى وجهه المتهكم وأقول لنفسي: «والله شكلو هالبرازيلي هلق فايق من النوم وجاي عالرحلة، عادي بالبرازيل كل شي بيصير!».

أتأمل الطائرة وأتخيل أنها ستهوي بعد قليل، في المحيط، لأتفه الأسباب، مثل أن ينفد الوقود فجأة.

لكنْ أقنع السي إن إن أو البي بي سي والجزيرة بأن المسألة مسألة وقود! فبالتأكيد سبب وقوع الطائرة الأول أن تكون تعرضت لعمل إرهابي! بخاصة إذا لم يتم العثور على الصندوق الأسود.

في كل الأحوال سيحتاجون إلى عدة أيام ليعثروا على الصندوق الأسود، وفي هذا الأسبوع بالتأكيد سيرجعون إلى الركاب وجنسياتهم، وهنا تذكرت اسمي وذقني على جواز سفري «المحمد عبود سعيد»، سوري وأحد ركاب الطائرة التي سقطت.

لطالما حلمت مثل أي مثقف أن أشغل وسائل الإعلام والميديا، فما بالك أن تنشغل بك كل الدنيا، ويتكرر اسمك في كل التلفزيونات والإذاعات والصحف والمجلات، ومن حق أي وسيلة إعلام، طالما الصندوق الأسود ما زال مفقوداً، أن تضيء على هذه النقطة، على الأقل بهذه الطريقة: الطائرة البرازيلية التي سقطت وهي تحمل عدة ركاب مختلفي الجنسيات وبينهم راكب سوري اسمه المحمد عبود سعيد.

أتخيل أن المحطات التلفزيونية ستتصل عبر الأقمار الصناعية بكبار الأساتذة الجامعيين للتحدث عن حوادث الطائرات والإرهاب، انطلاقاً من اسمي. مجرد شكوك طبيعية، هذا حقهم!

أصحاب المقالات أنفسهم، الذين قالوا إنّني رفضت التكلم عن الحرب و «داعش» وحقوق الإنسان، سيتحمسون لكتابة مقالات أخرى يوضحون فيها علاقة حادثة سقوط الطائرة بما حدث في المهرجان، فهم أولى من غيرهم، إذ كانوا السباقين في اكتشافي.

الموظف لابس النظارات الذي خالفني، سيشعر بالخصوصية عندما يشاهدني على التلفاز، وستُشتهر الموظفة التي التقطت صورة معي.

أما دار النشر التي نشرت كتابي، فستزدهر وتبيع كل النسخ في الأسبوع الذي ما زال فيه الصندوق الأسود ضائعاً.

أتخيل الفايسبوك وأصدقائي الفايسبوكيين، العاديين منهم والمثقفين الذين لا يتركون عيد شجرة أو موت شخص في حادثة سير في قرية بلجيكية أو ثورة أو تظاهرة في بلد ما، تفلت من «بوستاتهم»، فما بالك أن يكون لديهم برازيل! وسوري مشتبه به! وطائرة تسقط بين مدن تليق بمستواهم الثقافي: ريو دي جانيرو!، ساو باولو! إلخ…

سأصير مقالات يكتبها الكتاب النخبويون، سيفرغون بي كل الكلمات التي حفظوها، عن الإسلام السياسي والإرهاب. سيعودون إلى صفحتي، ويلتقطون صوراً لبوستات كتبتها وأنا أسخر من مراهقي العلمانية، ويربطونها بسقوط الطائرة.

أتخيل صديقي المثقف سيكتب بوستاً ويقول: سلامات لساو باولو من الإرهاب…

مادة دسمة للمثقفين أينما حلوا وأينما كانوا.

أما أصدقائي الألمان فسيحذفونني مباشرة ويحذفون كل الرسائل الخاصة بيني وبينهم ويكتفون بمشاهدة الأخبار بكل حياد، إلى أن يتم العثور على الصندوق الأسود.

أقربائي وأولاد عمي وأبناء عشيرتي الذين لم يقتنعوا بعد بأنني كاتب وأقيم في ألمانيا، سيفتحون بيت عزاء ويستقبلون المعزّين ويضيّفون القهوة المرّة، وكلما سألهم أحدهم: «شلون مات قرايبكم عبود السعيد؟» يبدأون من الفايسبوك وينتهون بالبرازيل، وأحد أولاد عمومة أبي، الضعيف في الجغرافيا، سينادي ابنه الصغير كلما سأله أحد: «وين مات قرايبكم عبود السعيد؟» ويقول له:

– «قول لعمامك وين وقعت الطيارة اللي مات بيها ابن عمك».

– «الطيارة وقعت بالبرازيل، كانت الطيارة طايرة من ليوناردو ديكابريو للأب باولو ووقعت بالبحر».

أتخيل مجلس عزائي عبارة عن بيت شَعر كبير يعج بالرجال ودخان السجائر، وعلى رغم أن عشيرتي عريقة جداً فبيت الشَعر سيكون مفعماً بأحاديث سخيفة مثل: كاتب، بوستات، فايسبوك، مهرجانات إلخ…

وقبل أن يتم العثور على الصندوق الأسود تصرخ الموظفة عبر الميكروفون: يرجى من المحمد عبود سعيد الصعود إلى الطائرة قبل إغلاق الباب.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى