صفحات الثقافة

الصوت والشاعر/ أمجد ناصر

 

 

قرأت، أخيراً شعراً في مسرح. أمام جمهور جاء ليسمع موسيقى. وليس جمهور أمسية شعرية. كان جمهوراً كبيراً، قياساً بأي قراءات شعرية قدمتها من قبل، ولم تكن هناك ترجمة للقصائد. لكني قرأت أيضاً على طاولة إفطار أمام موظفين يتعجلون الذهاب إلى وظائفهم. كانوا ثلاثة. وقرأت في قارب يترنّح على متنه ثلاثة أيضاً غيري. وقرأت في بيتٍ عائلةٍ لم تعرف من العربية كلمة واحدة. كانت مندهشةً لوقع الكلمات وتراصفها. لا شيء غير ذلك. يمكن أن يقرأ الشعر، على أجانب، في أماكن عديدة. ولكن هل يصل؟ لا أعرف. الذين استمعوا إلى الشعر، في المواضعات التي ذكرتها، قالوا، بكياسةٍ على الأغلب، إنه وصل.

إذن الشعر شيء آخر غير الكلمات، غير اللغة. فكيف يخترق شعر قارئاً لا يعرف كلمةً من القصيدة التي يسمعها. هل هي الموسيقى؟ لكن شعرنا الحديث يفتقر إلى الموسيقى النظامية: الأوزان التي لا بد أنها قادرةٌ على تبيان طبيعة الجنس الأدبي الذي يُتلى، وعندما تفقد القصيدة هذه الخصيصة التي تميزها (في الشكل على الأقل) عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى، كيف تتمكّن من إيصال شعريتها، هزَّتها الشعورية والجمالية؟ ربما هو التوقع. فالمتلقي، في الحالات المذكورة أعلاه، كان يعرف أنه يستمع إلى “شعر”. هذا ما قرّره سلفا المهرجان، أو الملتقى الشعري، وهذا ما هو مطبوع في نشرته. التوقع. هو الباب الذي تدخل منه قصيدة لا يعرف مستمعها كلمة واحدة منها. بلا ترجمة أيضاً. إنه ما يسميه رفاقنا المغاربة: أفق الانتظار. وهذه حيلةٌ نفسيةٌ على الأغلب. لكن غير التوقع، أو الانتظار، المدموغ سلفاً باسم النوع، هناك الصوت. للقراءة الشعرية صوت. إنه صوت الشاعر. وهذا إما يميت قصيدته أو يحييها. على صوته تتأرجّح بين أن تكون شعراً، أو نثراً، قصيدة، أو قطعة نثر مما تحفل به الصحف كل يوم. في كل مهرجان شعري أجنبي ألحظ الفوارق بين شاعر وشاعر، قراءة وقراءة، قصيدة وأخرى، عبر الصوت فقط.

يحصل أن تكون في مهرجان متعدّد اللغات والألسن، فيصعب والحال، معرفة كل هذه اللغات. فما الذي يجعل القصيدة تنفذ إليك؟ أو بالأحرى: إلي باعتباري مستمعاً. كنت “آخر” في مهرجاناتٍ كثيرة. وكنت مستمعاً أيضاً. حالتي هنا معكوسةٌ عن الذين استمعوا إلي على طاولة فطور، في قارب، أو في بيت عائلة غريبة. مثلهم كان يصل إليّ “الشعر” بالصوت فقط.

كنت في مهرجان شعري فرانكفوني في كندا، وأنا لا أعرف الفرنسية، وكل ما أعرفه من شعرها عرفته مترجماً. كان هناك شعراء معروفون في هذا المهرجان. لكن من الذي جعلني “أشعر” بالهزّة الشعرية؟ من أوصل “الشعر” إلي، على الرغم من أني لا أعرف اللغة التي انكتب فيها هذا الشعر؟ شعرت بهذا أمام شاعرين اثنين فقط هما اللوكسمبورغي بيير جوريس والفرنسي أندريه فيلتير. الغريب في الأمر أن لهذين علاقة بـ “الشرق”: الأول مهتم بالشعر الصوفي، والثاني بالشعر العربي والأفغاني والهندي.

كانا كأنهما يرتلان، أو يتلوان شعرهما. كانا حاضريْن في صوتيهما. وكان هذان الصوتان يصلان إلي، كما لو أنني أعرف شعرهما، أو اللغة (وهي هنا الفرنسية) التي يكتبان فيها. فهل لهذا علاقة بقصائدهما التي تنهل من موضوعات “شرقية”؟ ربما.

فأنا أمام لغةٍ مغلقةٍ علي تماماً، لا منفذ لي، في شعابها، غير صوت الشاعر نفسه. لست أتحدث هنا عن القصيدة ذات الصوت العالي، الجهير. تلك قعقعة، تصنيج، قد يمتنان الى الخطابة أكثر مما يمتان إلى الشعر. كلا، ليس هذا ما قصدت، بل صوت الشاعر. وليس، أيضاً، حسن صوته، بل طريقته، شخصيته وحضورهما في قصيدته.

استطراداً.. لعل متلق أجنبي استمع الى شاعرين عربيين، ولم يقل له إنه في أمسية شعرية. يعني لا توقع لديه ولا انتظار. إنه مستمعٌ غافل عما هو فيه. ها هو يسمع محمود درويش وإكس. وهذا الأخير، على الرغم من أنه شاعر جيد، صوته سيئ. لا حضور فيه ولا رنين. كأنه يأتي من خارج القصيدة. فعن أي واحد منهما سيقول المستمع الأجنبي إنه شاعر؟ أو بالأحرى مِنْ أيٍّ منهما سمع “شعراً”؟

لا شك عندي أنه سيشير إلى درويش.

فهل الصوت في القصيدة، مرة أخرى، خصيصة شرقية، وله ثقل ومقام ملموسان في القصيدة العربية التي كان عليها أن تولد في الصحراء، على ظهر ناقةٍ أو على سرج حصان، تحت النجم الساطع أو أمام الأفق المفتوح؟ القصيدة التي لها نسب في الحداء المستعان به على المسافة ووحشة الطريق؟

ربما.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى