صفحات مميزة

الصورة ضد الواقع: في مديح الإنسان السوري وقيامته


بشرى سعيد

بعد مضي أكثر من عشرة أشهر على اندلاع الانتفاضة الشعبية العارمة في أرجاء سوريا وما رافقها من اصرار دموي مرعب من قبل العسكر ورجال الامن والشبيحة على قمعها عبر القتل وشن حملات اعتقالات عشوائية، ما زالت الدولة السورية تضرب طوقاً محكماً حول جمهوريتها الشمولية لتسويرها تعتيماً وإظلاماً خوفاً من حدوث خروقات وتسربات لأنباء ما يحدث من قتل جماعي يومي في سياق الحركة الاحتجاجية الشعبية التي تعصف بالبلاد. وبما انها تحتذي في ذلك بقوانين الدول الشمولية في عملية الحجب والحظر والتشويه، تحاول الدولة السورية وعبر أجهزتها الاعلامية المؤدلجة ان تقذف في وجه العالم روايتها المملة بوصفها الأجهزة الوحيدة المؤهلة لرواية حقيقة ما يحدث في داخل السور، فلا يبقى امام العالم إلا اللجوء الى طوفان الصور المرعبة بأهوالها القادمة من القيامة السورية لقراءة مشهد ما يحدث ومحاولة فهمه.

في البداية وقبل ظهور الحركة الانشقاقية داخل الجيش السوري وقبل ان يأخذ جزءٌ من الحركة الاحتجاجية طابعاً عسكرياً بهدف حماية المدنيين، صاغ لسان السلطة السياسية في الاسابيع الاولى من الحركة الاحتجاجية رواية مفككة البناء وهشة تمحورت ثيمتها الحكائية، ان كانت هناك من ثيمة أصلاً، حول جماعات ارهابية مسلحة من دون هوية واضحة المعالم تعيث في البلاد نهباً وتخريباً، كما حول سلفيين يقومون بذبح الجنود من الوريد الى الوريد ويعلنون امارات اسلامية سلفية تارة في جنوب البلاد وتارة أخرى في شرقها او غربها. لكن لا أحد، بل وحتى الراوي نفسه، كان يعرف من اين ظهرت هذه الجماعات وكيف هيمنت بهذه السرعة على البلاد والعباد في دولة سرية تعتبر الامن من الأمور الأكثر قداسة في قاموس خطابها الايديولوجي. وفي ظل هذا الغياب القاسي لرواة آخرين يشهدون على ما يجري يتحول السيل الهائل من الصور اليومية القادمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الى رواة يسردون تفاصيل كل ما يحدث من فظاعات وأهوال.

وفي غياب تعدد الرواة وهيمنة صوت السلطة الأوحد وروايته تصبح الصورة رواية بذاتها. فلا يمكن قراءة الحدث السوري، الذي وبالرغم من تسربله بهذا الكم الهائل من العنف والدم لا يكل ولا يمل من الاعلان يومياً عن استمراريته المذهلة، إلا من خلال طوفان الصور. الصور التي لا تحيل بقسوتها وفظاعاتها إلا الى يوم الحشر وأهواله.

الصور وسردياتها الحكائية

لا أريد ان اشير هنا الى الصورة السيئة الصيت التي حاولت تذكير الشعب السوري بألوهية الرئيس الأسد عبر اجبار مجموعة من رجال الامن المسلحين باللكم والضرب لمواطن سوري أعزل على ترديد الشهادة محوراً لغتها ومبدلاً المواقع بين الإله وبشار الاسد. فالفشل في انتزاع اعتراف واضح من الشعب حول اسئلة مهينة ومذلة من قبيل “مين معلمك ومين إلهك؟” أدى الى غضب فرض الجواب بالقوة والقتل ومحاولة إعادة المواطن الى “رشده وصوابه” وتعريفه بإلهه ومن ثم اعادته الى انتمائه الأصلي قبل ثورته.

وبالرغم من ان هذه الصورة تنتج رمزية عالية بل وتمثل دلالة ايقونية مطابقة لبنية العلاقة السياسية بين الشعب والسلطة وكيفية بنائها في الدولة السورية خلال العقود الاربعة الاخيرة، إلا انها لا تنتج في المحصلة النهائية إلا الوهية مبتذلة وانتماء بدأ بالانهيار. معادلة وثنية بدأت بالتهاوي لحظة سقوط أوثان الرئيس الأب الراحل والابن في بعض الساحات والشوارع السورية مع بدء الاحتجاجات.

لكن هناك صورة اخرى انتشرت في بداية حركة الانتفاضة تم التقاطها في قرية البيضا السورية، وهي ربما تعتبر من أكثر صور الانتفاضة السورية اقتراحاً للحرية ودحضاً لرواية السلطة ونفياً لالوهية الدكتاتور او الانتماء اليه، وذلك بالرغم من الكم الهائل من الاذلال الذي يهيمن على مشهدها العام.

في الصورة يبدو وكأن حامل الهاتف/ الكاميرا ينزل من على منحدر صغير، فتهتز اليد ويهتز معها العالم كله عبر عدسة الكاميرا التي تحاول تصوير ما يشبه كرنفالاً من الجحيم تقيمه شياطين الأرض لعرض القسوة والتعذيب، فيه تختلط نشوة النصر لرجال مدججين بالأسلحة والحقد والانتقام مع الشعور بالفزع والذل والموت لأجساد مرغمةً تمدّدت على بطونها على أسفلت الشارع العاري. تبدأ عين الكاميرا ومنذ إندلاع لحظة الإهانة الأولى بالتلفت يميناً ويساراً فلا تلتقط إلا رجالاً ضخام الجثث بعضلات مفتولة، تغطي أبدانهم أحزمة الرصاص والقنابل وهم يبرعون في المزج بين فعل ركل الوجوه وعملية الرقص على حشد الأجساد الملتصقة بطونها وموضع حبل سرتها بأسفلت الأرض. وما بين فعلي الركل والرقص تبدأ جدلية العبد والسيد، وهي الجدلية الأكثر قسوةً التي ابتكرتها وضاعةُ البشرية وإنحطاطها الشراني: نشوة الذات من خلال إذلال الآخر.

وفي مركز الصورة نرى جنوداً أو من يشبهون زبانية القيامة وهم يرفعون أياديهم ليحيوا بعضهم البعض “الله حيوا” بينما هناك في الخلف نرى حشداً من الأجساد تلتصق باسفلت الشارع، بل تتحول الأجساد الى سطح الشارع وردائه حين تكسبه ألوان قمصانها أو ما تبقى من قمصان الشباب؛ أحمر، أزرق، أصفر، أبيض، لتصل الأمور في نهاية المطاف الى درجة إجبار الاجساد على لعب دور أكثر صعوبة واذلالاً حين تتحول الى حلبة للرقص تحت جزمات وبساطيل الشياطين العسكريين.

ما أخف الجزمة وما أثقل الهواء، ما أثقلني أنا مرتبطاً بالأرض.

بينما الأيادي مربوطة فوق الظهور والبطون تحتك بالأرض وكأنها تختبر قوتها ومدى استعدادها لاحتضان إنتماء من نوع جديد، تتلقى الرؤوس الركلات من الجزمات. تحاول الأجساد الإلتصاق بالأرض أكثر فأكثر وكأنها ترمي الى الذوبان لتمتزج بها وتتلاشى فيها، ليس خوفاً من شياطين الجحيم هؤلاء وجزمهم السوداء الكبيرة، بل لتكون أكثر قرباً من المعنى وأكثر صدقاً وحقيقةً في معادلة الانتماء الى الأرض. وكأن إلتصاق هذا الحشد بالأرض ينفي ويرفض تعريفاً قديما ويقترح آخر لمفهوم الانتماء للوطن والإرتباط بالأرض. فبعد ان كان الحذاء وحده يمثل صلة الربط بين أرض الوطن والمواطن بحسب الشاعر السوري محمد الماغوط، باتت مساحة الجسد، بل وكل مسامة فيه، تشكل علاقة ارتباط بالأرض التي بدأت تستعيد قليلاً من جمالها بالرغم من كل هذه القسوة.

ترقص الكاميرا أيضاً، فترتجف الأجساد رعباً تحت ثقل الجزمات العسكرية. للموت معان أجمل من الذل. يحرض حامل الكاميرا كلَ من يحتل المشهد على نشاط أكثر ورقص أعنف وفعل دهس أقسى “يالله عفس… عفس يا ابو… هؤلاء الخونة الكلاب” فيتحمس العنصر الذي يحتل يمين المشهد في عمق قيامة الصورة، “بدك حرية؟ ها؟ بدك حرية يا ابن…؟” يرفع يده في اشارة للفت انتباه عين الكاميرا لتوثق وتؤرخ شجاعة قدمه وهي تحاول ركل وجه أحد الأجساد الممتدة رغما عنها على اسفلت الشارع، ولكن العنصر الآخر الذي يحتل يسار المشهد، وهو عنصر قصير القامة يرتدي زياً اسود يسبق رفيقه في معركة الدهس والفعس فيركل بجزمته السوداء أحد الوجوه التي تبدو وكأنها تحاول التفوه بشيء لا يمكن للكاميرا تصويره أو سماعه.

وهكذا يستمر السباق بين العناصر، وأقصد العناصر التكوينية التي تحتل فضاء المكان كله، على الرقص والركل والعفس، ومعه يستمر الاذلال والقسوة وربما القتل أيضاً. ولما لا؟ فما يملكه الراقصون ببزاتهم العسكرية لا يملكه حشد الأجساد الممتدة، انهم يملكون وضوح الوجوه بينما الأجساد هي دون هوية، حشد لا يملك وجهاً، فجموع الأجساد لا تملك غير ظهورها ومؤخرات رؤوسها. وهنا تحديداً تنتج السردية الرمزية للصورة دلالتها البليغة في سياق الصراع بين الطرفين، والتي تتمثل في قسوة “وضوح” السلطة وتضخمها في مقابل “هلامية” الشعب أوغموضه الذي يُنتج أولا وقبل كل شيء عن تغييبه وتهميشه. ليس للشعب وجه يملك فماً قادراً على القول وهوية واضحة المعالم، بل مجرد كتلة بشرية لا تملك غير الظهر – بحسب سردية الصورة دائما – الذي ينبغي عليه، وفقاً لرؤية السلطة التي تمثل السيد هنا، ان يكون عارياً مهيأ لتلقي السياط وركلات الأحذية. انها صورة سلطوية بامتياز، وهي غير قادرة إلا على انتاج دلالات سياسية خالصة تنتمي الى معادلة السيد – العبد.

اقتراح تعريف آخر لمفهوم الانتماء الى الوطن

وإنطلاقاً من معادلة “وضوح” السلطة وجهاً وخطاباً، وهو وضوح يتم إختزاله في قسوة القمع ووحشيته، في مقابل إلغاء وجه وخطاب الطرف الآخر (الشعب) وإختزاله الى تسميات في غاية الابتذال والسفاهة من قبيل المندس والسلفي والارهابي والعصابة المسلحة… الخ من تسميات تساهم في طمس حقيقة وجهه وخطابه، فهل يمكننا القول ان طوفان الصور والفيديوهات المغبشة والمهتزة والفقيرة تقنياً، الآتية من سوريا عبر مواقع التواصل الاجتماعي كاليوتيوب، هي أكثر وضوحاً ونقاء وصدقاً من “الواقع” الواضح النقي الخالي من كل الشوائب والذي تخلقه أجهزة السلطة وخطاباتها ليتم بثه ونقله عبر الاعلام السوري؟

انها بالتأكيد حرب الصورة، بكل اهتزازاتها وغبشها وحُبيباتها ضد “واقع” غير موجود أصلاً، واقع وهمي تحاول أجهزة السلطة ومؤسساتها الديماغوجية ورجالاتها بناءه بهدف إلغاء الواقع الأصلي الذي تحاول الصورة نقله. فلا يمكن قراءة ما يحدث في الواقع السوري الآن إلا من خلال هذا الطوفان المرعب من الصور التي تقشعر لها الأبدان بسبب قدرتها الهائلة على نقل هذا الكم المفزع من القسوة والعنف اللذين يتم ارتكابهما على أرض الواقع الحقيقي. قسوة وعنف لا يمكن معهما إنكار أو إلغاء ما يجري داخل الصورة، لذلك فأن واحداً من أفضل الحلول، بالنسبة للسلطة والناطقين باسمها طبعاً، يتمثل في اللجوء الى نفي الصورة وأحداثها الى جغرافيا أخرى.

وهذا بالضبط ما يحاول محللون سياسيون سلطويون الإقدام على فعله حين يتعلق الأمر بقراءة صور الاحتجاجات السورية وأفعال القمع السلطوي الناجمة عنها. فتتحول على سبيل المثال لا الحصر، وبحسب هذه القراءات التي تضخم فيها فعل النفي وخصوصاً في بداية الحركة الاحتجاجية في سوريا، مظاهرات شوارع مدينة درعا السورية الى مظاهرات شوارع بنغازي الليبية، وأعمال القمع العنيفة للمتظاهرين العزل في شوارع مدينة حمص الى أعمال قمع تقوم بها الشرطة المصرية أو التونسية (فقد اتهم أكثر من محلل سلطوي سوري الفضائيات التي أسموها “محرضة” بفبركة الصور وعلى انها تعود الى بلدان أخرى) بل تتحول مدن سورية بأكملها، بحسب رواية السلطة، الى مجرد ماكيتات وديكورات داخل ستوديوهات قنوات فضائية. كما يتحول المتظاهرون السلميون العزل الى مسلحين وعصابات تعيث في البلاد قتلاً ونهباً. ولتصل المفارقة الى ذروة السخرية تتحول أدخنة القنابل التي انهمرت على مدينة حماة أثناء اجتياحها عسكرياً الى مجرد دخان “فتيشة” كما قال أحد المحللين السوريين لقناة العربية قبل أشهر، بثقل دم لا مثيل له، وهو يحاول تفنيد كلام المذيعة التي أشارت الى مقاطع فيديو على الشاشة لدوي انفجارات وأدخنة تتصاعد في سماء مدينة حماة. لكن المثال الأكثر وضوحا في عملية نفي الصورة الى جغرافيا أخرى في سياق حرب الصورة ضد فبركة الواقع تمثلت في فيديو قرية البيضا السورية. فبعد انتشار شريط الفيديو على اليوتيوب والقنوات الفضائية هرع محللون سياسيون موظفون لدى أجهزة السلطة الى نفي حدوث “واقعة مروعة” كهذه على الأرض السورية. ولكي يكتسب فعل النفي صدقيته وشرعيته كان لا بد من فبركة واقع ما أو استحضار جغرافيا كانت قد شهدت اضطراباً سياسياً ما. وهكذا تم نفي الواقعة كلها الى جغرافيا أخرى، فأصبحت قرية البيضا السورية التي كانت مسرحاً لعملية الإذلال والإرهاب الجماعيين، مدينة كردية في اقليم كردستان العراق، والذين يقومون بفعل العفس والركل والرقص على أجساد بشرية ليسوا إلا عناصر بيشمركه، مقاتلين أكراد، مع جنود أمريكان ومارينز.

وبينما تستمر هذه الحرب الطاحنة بين الصورة والواقع، بين رواية جحيم الصورة وأهوالها وبين رواية السلطة القائلة بفردوس الأمان والاستقرار، بين سردية صارخة يصوغها سيل هائل من صور فقيرة الجودة لكن قوية الدلالات ويتحكم بها الاهتزاز وتغطي سطحها الحُبيبات، وتملأ فضاءاتها عشرات بل ومئات الألوف من السوريين هاتفين للحرية، وبين هشاشة ما يحاول واقع وهمي يفبركه الآيديولوجيون البعثيون الصغار قبل الكبار إظهاره وقوله على ان كل شيء هادئ ومستقر وعلى ما يرام وان الانتخابات الديمقراطية تجري في البلد، يستمر السوريون بصدورهم وظهورهم العارية في إعطاء التاريخ والعالم دروساً في الحرية و”تلقين” سلطة الدولة الشمولية معاني الرفض ودلالات التمرد التي تنتجها كلمة “لا”. لكن الأهم من هذا وذاك يتمثل في خوض السوريين، ربما ولأول مرة منذ ما يقارب نصف القرن، محاولات في غاية الجرأة والروعة الانسانية لاقتراح وإنشاء تعريف آخر أكثر جمالية وإنسانية لمفهوم الارتباط بالارض والانتماء الى الوطن يتجاوز باطن نعال أحذيتهم الى إنتماء يشمل خارطة الجسد كله عقلاً وروحاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى