صفحات الرأي

الصّراع السنّي ـ الشّيعي ودوره في تحفيز التطرّف في المعسكرين/ د. أكرم سكرية

 

 

التطرُّف لغةً، هو من الطرف والطرف ليس بالأصل. ولفهم تفسير التطرف في هذه اللحظة التاريخية في المذاهب الإسلامية، سنة وشيعة، لا بد من فهم وتفسير الأصل الذي هو الإسلام وعودته إلى الحياة السياسية في العالمين العربي والإسلامي.

لقد شجّع النظام الرأسمالي العالمي، في إطار المواجهة مع النظام الشيوعي، على وصول التشيّع السياسي الإيراني إلى الحكم عام 1979 (أو ما عرف بانتصار الثورة الإسلامية في إيران)، وعلى إنتاج تنظيم القاعدة (سُنّة) وتحديداً في أفغانستان.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، استقر النظام العالمي على سيطرة اقتصاد السوق وعلى مرجعية شرعة حقوق الإنسان بشقيها المدني والسياسي من جهة والاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى واحترام القوانين الدولية.

وهكذا انتشرت الديمقراطية وتحقّقت الدولة الحديثة في غالبية المجتمعات العالمية.

أما في العالم العربي فقد تعثّر التطوّر الديمقراطي بفعل سيطرة أنظمة الاستبداد السياسي فيه بحجة أولوية المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي أولاً، ومع مشروع الهيمنة الإيرانية ثانياً. وهذا ما شكّل عائقاً أمام بناء الدولة الحديثة في هذا العالم.

ولهذا تعايش في مجتمعات العالم العربي مستويان من الانتماء:

الأول: الانتماءات التقليدية أي الموروثة ومنها الانتماءات العرقية والقبلية والدينية.

الثاني: الانتماءات الحديثة وأهمها المواطنة.

ففي لحظة القوة للدولة يتقدم الانتماء للوطن على الانتماءات التقليدية وفي لحظة الضعف للدولة تتقدم الانتماءات التقليدية على الانتماء للوطن.

وكان سقوط بغداد عام 2003 بفعل التدخل العسكري الأميركي وتحالف الراغبين خارج أية شرعية دولية أسقط في الوعي الشعبي العربي والإسلامي مقولة احترام القوانين الدولية ومرجعية حقوق الإنسان من جهة، وسهّل لإيران ولاية الفقيه بتصدير «الثورة» إلى المجتمعات في الدول المجاورة والمجتمعات العربية بخاصة.

وكان من نتائج تصدير «الثورة» الإيرانية ادعاء سقوط أربع عواصم عربية: بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء في أيدي الحرس الثوري الإيراني وكانت سياسة التطهير المذهبي (85% من سكان بغداد اليوم من الشيعة بعد أن كانت نسبتهم 35% عام 2003).

ومع هذا السقوط السياسي العربي العام سقطت مقولات سياسية أساسية شكلت رافعة في وعي الشعوب العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي:

أولاً: مقولة القومية العربية كمفهوم إقصائي والتي قدّمت على أنها تستند إلى العرق العربي والدين الإسلامي (السني ضمناً) وكان بيان قمة جامعة الدول العربية في الرياض عام 2007 ليعرّف العروبة «بأنها رابطة حضارية ثقافية». مما أسقط مقولة الوحدة القومية.

ثانياً : مقولة الوطن العربي ليحل محلها مقولة العالم العربي المكوّن من دول عربية وليس من أقطار عربية مع تأكيد أولوية الانتماء الوطني في إطار كل دولة.

ولكن الدولة الوطنية عجزت عن الدفاع عن سيادتها أمام التدخل الإيراني من جهة وعن تقديم الحلول للأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة من جهة أخرى.

وهكذا وجد شعار «الإسلام هو الحل» صدى له عند فئات شعبية واسعة. فتقدّمت حركات الإسلام السياسي ليتحول بعضها بفعل ظروف خاصة بكل دولة إلى إسلام عنفي كردود فعل على ما هو خاص بهذه الدولة أو تلك (سوريا، ليبيا، العراق، اليمن، الجزائر).

ولكن هل سيشكل الإسلام السياسي حلاً للمشكلات الوطنية أو للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية؟

ففي عصر النهضة الأولى مع بداية القرن العشرين، اقتصر النقاش حول الإسلام على بعض النخب العربية والإسلامية .

أما في هذا «الزمن العالمي» وفي العالم العربي تحديداً، وبفعل عجز الأنظمة العربية أولاً والممارسات الوحشية للتنظيمات الإرهابية ثانياً (داعش نموذجاً)، فإن النقاش حول الإسلام يتم داخل كل بيت من بيوت المسلمين، سنّة كانوا أم شيعة.

فهل هذا النقاش هو بداية نهضة اجتماعية فعلية حيث يشكل الإسلام فيها، أحد مكونات العروبة الثقافية؟

هذه العروبة الثقافية التي هي نتاج تفاعل المكونات المجتمعية في العالم العربي إثنية )أكراداً، عرباً، بربراً، أمازيغ…) كانت أم دينية (مسلمين، مسيحيين…)، وهي تشكّل خاصاً ثقافياً عربياً في إطار الانتماء للمشترك الثقافي العالمي، أي العالمية الثقافة.

الواقع أن التطرّف الإسلامي ليس إلا ظاهرة سياسية أنتج في لحظة سياسية محددة كردة فعل على الاستبداد بكل أشكاله، السياسي منه والاقتصادي وبكل أبعاده، الداخلية منها والخارجية.

وما البعد السنّي والشيعي، إلا الغطاء الأيديولوجي لهذا المشروع السياسي أو ذاك. «فبين إيران والعالم العربي حدود جغرافية وحدود تاريخية» يقول إيف لاكوست.

يميّز الانثروبولوجي اللبناني فؤاد إسحق الخوري في كتابه «إمامة الشهيد وإمامة البطل» المكونات المجتمعية العربية ويجعلها ثلاث فئات:

أهل الدين وهم السنّة.

الطوائف وهم الجماعات الدينية التي تقيم تاريخياً على أرض خاصة بها كالموارنة والشيعة والدروز في لبنان والعلويين في سوريا…

الأقليات الدينية وهم سكان المدن العربية من غير السنّة كالروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك وغيرهما.

فأهل السنّة بحسب الباحث، هم سكان مدن ولديهم تقاليد ممارسة الحكم تاريخياً بينما الطوائف هم سكان أرياف وتقاليد السلطة السياسية عندهم هي في ممارسة المعارضة للحكم المركزي. وبالتالي فإن أيديولوجية أهل السنّة تقوم على مبدأ الاستيعاب بينما تقوم أيديولوجية الطوائف على مبدأ الخصوصية الحصرية. فهل يتم الآن ترييف المدينة العربية بفعل هيمنة عصبيات طائفية على الحكم فيها؟ والمقصود بترييف المدينة، ليس سكن أهل الريف فيها، بل خروج هذه المدينة على شرعية الحكم وقواعده المؤسساتية.

لقد أهدر السيد نور المالكي، رئيس وزراء العراق سابقاً، مبلغ 740 مليار دولار في فترة حكمه في بغداد باعتراف رئيس الوزراء الحالي في العراق السيد حيدر العبادي. وما يفعله الرئيس بشار الأسد من تدميرٍ وحشي في سوريا لا يحتاج إلى دليل.

وهذه قوات الحشد الشعبي ذات اللون المذهبي الشيعي إلى جانب الجيش في العراق؛ وقوات الدفاع الوطني ذات اللون المذهبي العلوي إلى جانب الجيش في سوريا؛ وقوات الحوثي ذات اللون المذهبي الشيعي إلى جانب الجيش في اليمن؛ وهذه قوات حزب الله ذات اللون المذهبي الشيعي إلى جانب الجيش في لبنان. إنها سياسة هيمنة ميليشياوية فئوية مذهبية ريفية مدعومةً من إيران على المدينة العربية.

«وحين تسيطر عصبية ريفية على مدينة يحل بها الخراب». يقول ابن خلدون.

وإليكم ما فعله حزب الله حين سيطر على مدينة القصير السورية (محافظة حمص)، فقد هجّر أهلها من السنّة (60 ألف مواطن سوري) وقطع الأشجار واقتلع الزفت من الطرقات وقطع أعمدة الكهرباء وقام بهدم بيوتها بواسطة الجرافات. وترافق ذلك مع حرق للسجلاّت العقارية ولسجلاّت الأحوال الشخصية في مدينة حمص من النظام السوري.

فما هي الخيارات المتاحة بعد لأبناء مدينة القصير وغيرها من المدن والبلدات السورية المماثلة غير التطرف؟ تقول حنة آرندت: «الاستبداد يولّد التطرف».

ويقول الشاعر العربي: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له

إياك إياك أن تبتل بالماء.

ولكن مواجهة مشروع الهيمنة الإيراني، المرتكز على مقولة تحالف الأقليات في الشرق الأوسط لن تكون بتخلّي المجتمعات في العالم العربي ذات الغالبية السنية عن أيديولوجية الاستيعاب والذهاب نحو التطرّف المذهبي، بل باعتماد خطاب الليبرالية الاستيعابية المرتكزة على الغالبية الساحقة من الرأي العام في العالم العربي، بمكوناته المجتمعية المتنوّعة بما فيها أتباع التشيّع العربي، التي ترفض الهيمنة الإيرانية كما ترفض الالتحاق بالتطرف فكراً وأسلوب مواجهة.

هذا الخطاب هو الذي يعتمده تيار المستقبل في لبنان والذي مكّنه من حماية أهل السنّة في لبنان من التطرف وبالتالي حماية السلم الأهلي فيه. علماً أن الطرف الآخر الذي يشكّل أداة مشروع الهيمنة الإيرانية، أي حزب الله عمل ما بوسعه لدفع بعض من أهل السنّة باتجاه التطرف كدفاعه عن حالة حركة «فتح الإسلام» عام 2010 المدعومة من النظام السوري للهيمنة على مخيم نهر البارد الفلسطيني في شمال لبنان كمقدمة للهيمنة على مناطق أهل السنّة في عكار والضنية وطرابلس.

وفي هذا السياق تقدّمت طروحات «الربيع العربي» بشأن ضرورة التحولات الديمقراطية، مرتكزةً إلى مفهوم «الدولة المدنية» (Etat seculier) حيث تتعايش مؤسسات الدولة مع المؤسسات الدينية المرتبطة بالدولة. وحيث تتقدّم مقولة المكونات المجتمعية على مقولتي الأقليات والأكثرية.

وكذلك تتقدّم مقولة التنوّع الثقافي المعتمدة حالياً من قبل منظمة الأونيسكو في إطار الانتماء للمشترك الثقافي العالمي أي لعالمية الثقافة على مقولة «التعددية الثقافية» التي لعبت دوراً إيجابياً يوم أنتجها كلود ليفي شتراوس في العام 1964 في مواجهة مركزية الحضارة الأوروبية، أو الأنوية الحضارية الغربية والتي اعتمدها هانتينغتون في نظريته حول صدام الحضارات فأعطاها مضموناً سلبياً.

وعلى الرغم مما يتعرّض له الربيع العربي من انتكاسات سياسية ودموية، فالتحولات الديمقراطية هي مسارٌ يتداخل فيه الشرط الموضوعي العالمي مع الشرط الذاتي العربي بكافة أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

فتنفيذ قراري الشرعية الدولية 242 و338، وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك احترام إيران للقوانين الدولية وعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية هما الشرطان الموضوعيان الضروريان اللذان لا بد من تحقيقهما من أجل إنجاز التحوّل الديمقراطي في المجتمعات العربية.

إنها «المحاكمة» في رواية فرانز كافكا حيث راح بطل الرواية (جوزيف ك.)، يستبصر مشكلته بوضوح شديد لأول مرة بعد صدور حكم الإعدام عليه. بينما كان قد أمضى حياته كلها في البحث عن أجوبة لدى غيره. ها هو في هذه الساعة الحرجة يطرح الأسئلة، ولا سيما التي ينبغي طرحها. كان خوفه من الموت هو الذي أمدّه بهذه القدرة. بيد ان المفارقة الكبرى أنه بدأ يؤمن بإمكان تغيير الواقع لأول مرة في حياته في اللحظة التي صار فيها على شفا الموت.

() مداخلة ألقيت في مؤتمر مكافحة التطرف في تونس في 27 و 28 شباط 2016.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى