إحسان طالبصفحات الرأي

الطائفية في ميزان العقل الفحص الفلسفي للطائفية

 

    احسان طالب

    ماذا تعني الطائفية وكيف تنشأ :

    الطائفية ظاهرة طبيعية اجتماعية تتمظهر عبر ولاء والتزام روحي يعزل العقل المجرد نهائيا، ويحل مكانه العقل الطائفي بمعيارية طائفية ترى الأشياء الذاتية والموضوعية من خلال منفذ دقيق تتحكم فيه القيمة الخاصة دون سواها، يتبع منتسبوها بالوراثة أو بالاعتقاد التزاما وتنظيما صارما، واعتبار القيمة الخاصة طريقة تفكير وسلوك وحياة. وتبقى تلك الظاهرة أمرا طبيعيا ما لم تتحول إلى صراع وجود وحالة من الإقصاء والنزاع المؤهل للاحتراب . الوجود الواقعي للطائفية يفرض قبوله واحترامه طالما بقي في حدود العلاقات الإنسانية الطبيعية المقترنة بالعواطف والوجدانيات دون تصادم مع الوشائج الإنسانية والرابطة الوطنية.

    يترتب على التفكير والسلوك الطائفي الانحياز التام للانتماء الإثني دون احترام للمؤهلات أو الكفاءات وتجاهل تام للعدالة والمساواة، في خصام للمواطنة والانتماء الوطني، ويسعى الفكر الطائفي غالبا إلى تضخيم الانتماءات القومية والتوجهات الأممية وإغفال القيم العليا للوطن وتقزيم الحالة الوطنية لإخفاء أولويات متضادة مع المصلحة العليا للمجتمع، ويعمل العقل الطائفي على تذويب انتماءات مجتمعية ودينية مضادة في بوتقة أهداف خيالية شديدة التعقيد ـ التركيز على الوحدة الأممية ـ الاحتفال بشمولية الفكر الحزبي بمستويات خارج الوطن وفوق الدولة ـ كل ذلك لإخفاء تراتبية طائفية مهيمنة ومنع انتقادها بمحاذير أمنية، وخلق وعي زائف ومبالغ ه حيال قضايا قومية أو أممية.

    الظاهرة الاجتماعية البشرية تنشأ وفق ظروف طبيعية تتداخل شروط موضوعية لتشكلها وانتشارها ، فالإنسان دفع بعامل الخوف والحفاظ على بقائه إلى التجمع وفرضت ظروف الالتقاء داخل مجموعات أو جماعات قوانين وقواعد تعارف وتآلف عليها أقراد المجموعة ومع مرور الزمن تحول قسم من تلك الأعراف إلى قناعات وجدانية وثم إلى عقائد دينية وبدا للمتفحص أنه عندما يمتلك المجتمع القوة والحضارة والتمكن يشكل عصبات أكبر وأمتن ذات قدرات وفاعلية تمكنه من تنظيم حياته وفق قوانين وضوابط يسنها ويشرعها بما يتلاءم وإرادات الأفراد والمجتمع دون قهر غيبي ، وتغيب في هذه الحالة الانتماءات الضيقة وتتراجع ولاءات ما تحت الوطنية وتنشأ ولاءات فوق وطنية وفق مسارات فردية ـ استبدادية ـ تختفي وراء خطابات ديماغوجية شمولية .

    عندما تتراجع المظلة الوطنية الحامية والراعية للدولة وينسحب النظام السياسي والاجتماعي من أداء مهامه ووظائفه تجاه الأفراد والمجموعات تتراجع حينها قوة ومتانة الأواصر والوشائج الوطنية لتتشكل وشائج جديدة قد تنشأ بدواعي سياسية لتتحول إلى رابطة تحت وطنية ، طائفية ، تلبي ما غاب من المهام والواجبات الموكلة أصلا للدولة والمجتمع، ويمل أفراد ومجموعات للشعور بالظلم والتهميش وحتى الغدر وتصبح الطائفة ـ الجديدة ـ ملاذا آمنا ، هكذا تشكل الانقسام السني الشيعي في الإسلام وبعدها ترسخ وثبت في الوجدان والوعي، ليتحول مع مر العصور إلى حالة أصيلة بعدما كان وضعا ناجما عن ظرف استثنائي.

    تتحول الطائفية من حالة تاريخية اجتماعية طبيعية أوجدتها تحديات وجودية حينا، وصراعات طبقية أحيانا إلى ظاهرة اجتماعية تعكس التعصب والتزمت والعداء للآخر وتأخذ أوجها باقترانها بسياسية متطرفة كتنظيم القاعدة، وكحزب الله في إيران ولبنان والعراق ، ويبلغ التطرف حده الأقصى عندما تتحول المحاصصة السياسية إلى محاصصة طائفية كما هو الحال اليوم في العراق ولبنان رغم ما يسود البلدين من درجات متقدمة من ديمقراطية ناشئة وفتية في الحالة العراقية وديمقراطية أشد ثبوتا وتقسيما في الحالة اللبنانية.

    الطائفية، كحالة مرضية ، هي التعصب أو التمييز أو الكراهية الناشئة عن تولي أهمية للاختلافات بين تقسيمات لها مرجعيات دينية ومذهبية، تكون السمة الرئيسة للعلاقات السائدة داخل مجموعات دينية أو إثنية تبني التميزات الدينية والمذهبية المجتمعية، وتنمية أجواء الصراع الحاد والانغلاق، وتغذية مشاعر الرفض للآخر وإلصاق كل العيوب والنقائص بالطائفة أو المذهب المغاير أو المخالف، ويصبح قادة أو زعماء أو رموز الطوائف أدوات عليا تتحكم بسلوك وعواطف وأفكار أبناء طوائفهم.

    يتراجع دور العقل ليتعاظم دور المرشد أو القائد أو الفقيه أو الأب الرمز ويحل الفكر الشعبوي التعبوي التجييشي و الجمعي، ليحل محل تفاعل العقل مع الحدث تاركا مكانه لقوالب مسبقة أو لأحكام جاهزة لجماعة أو طائفة، و ينحاز الفكر الجامد لكل ما يتوافق مع العقل الطائفي المعادي للمنطق، وتصبح مقامات الخير والشر معقودة برؤية وتفكير مصالح وغايات الجماعة ـ الطائفةـ المستلبة أصلا لموروث رمز حل محل القيم المطلقة للحق والحقيقة، حيث بات هو الحق ونطقه الحقيقة، لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، وعند هذا المأزق ترتهن الجماعة ـ الطائفة ـ للكيان الفرد المرمز بحال وجوده أو لفكرة الانغلاق العقلي المكبل بالذهان الطائفي، وعليه تتماثل الطائفية الدينية أو المذهبية مع الطائفية السياسية.

    الفحص الفلسفي للطائفية:

    إنكار وجود الطوائف يسير باتجاهين الأول حس طائفي كامن وخفي يهرب من الحقيقة إلى نفيها، الثاني حدس يحاول تجاوز الموجود بالفعل إلى موجود بالقوة رغبة بتحقيق المطلوب دون تفكير بالممكن ، الطوائف موجودة والطائفية راسخة ثابتة لديها، الحلول العلمية والعملية والثقافية هي التي تحد من تطور الواقعة ـ ذات ـ إلى (موضوع خارجي) يمكن معالجته للعودة ثانية إلى داخل الواقعة ـ الذات ـ فيصبح الجدل ـ (الصراع والتناقض) ـ ايجابيا منتجا يؤمن السردية التاريخية لتعايش تاريخي طويل بين طوائف تجذر وجودها في بنية المجتمعات البشرية، وبين تفاعل ايجابي منتج بين مكونات اجتماعية لا تريد الخروج من قوقعة الماضي وتجاذباته القوية، تولد كل يوم منتج ثقافي وفكري وسياسي ملتصق بأقصوصة أو أسطورة ـ حادثة ـ تراكم حولها سرد مصنوع وآخر مفتعل، ليحول شخوصها إلى أبطال ورموز شبيهه بالآلهة، تشتق من أفعالها وأقوالها وأشياء مختلفة أخرى ومنسوبة إليها عبر قرون طويلة، إيديولوجيات دينية ومذهبية تتجدد وتعاد لها الحياة عبر استلاب نفسي وعقلي فردي تحول مع مرور الوقت وتجذر الصراع إلى وعي جمعي وإدراك نخبوي يستغل حالة الولاء والالتزام لتحقيق أجندات سياسية واقتصادية وصناعة مشاريع عالمية وإعادة فكرة نشوء إمبراطوريات دينية كانت موجودة لقرون خلت وعاشت صراعا سياسيا وتنازعا جغرافيا تحت ذرائع ومظلات طائفية.

    نحن أمام وحدة متناقضة في داخلها دعوة لوحدة الذات ، وفي خارجها دعوة للانفصال عن ذوات الآخرين هذه الثنائية المتناقضة إنما هي وحدة تركيبية تبرز علاقة التضمين الضرورية بينهما، لضمان البقاء ، المفهوم الفلسفي للطائفية كحركة متعارضة يحمل جوهر تناقضها في داخلها باعتباره موضوعا للحماية وصيانة الوجود الذاتي، وخلافا لمبدأ نفي التناقض في المنطق الصوري ينطوي مفهومها على الحق والباطل في ذات الوقت حيث أن التناقض الموصوف هنا ناتج عن الصيرورة الحركية وبقدر ما يثير الموضوع من تفاعل داخلي ـ حركة داخلية ـ أو خارجي تكون ذاته ـ ذات الموضوع ـ مصدر الفاعلية والتفاعل ،هذا ما يفسر بقاء الطوائف واستمرار وجودها وقدرتها على التكيف والموائمة مع المجتمعات المحيطة.

    حل التناقض على مستوى الوعي يعطي إمكانية لحل التناقضات عمليا على مستوى الواقع الموضوعي ما يفضي إلى مرحلة تطور الواقع والمجتمع، فحل التناقض الطائفي لا يتم بنفي الطوائف وحذفها، بل يكون بتوجيه مسار التناقض بينها وداخلها نحو تناقضات اجتماعية وسياسية وتنافسية ثقافية جديدة لا طائفية ، فمبدأ أو قانون نفي النفي، حل موضوعي وتطبيق عملي لتجاوز تضادات طائفية متعددة المستويات كما يرد تصنيفها أدناه.

    أنواع ومستويات :

    تتشعب بصورة استثنائية الأسس الأيديولوجية والدينية والسياسية للمواقف والسلوكيات الموصوفة بالطائفية

    طائفية دينية :

    مسلم مقابل مسيحي

    طائفية مذهبية :

    أرثوذكس مقابل بروتستانت : سني مقابل شيعي وقد تضيق إلى تحزبات أو اصطفافات داخل الجماعة الواحدة ، مثلا عرف التاريخ الإسلامي صراعا حادا بين مكونين إسلاميين سنيين وصل حد الاحتراب والاقتتال : السلفية مقابل الصوفية ،

    طائفية تاريخية:

    تلك التي تغلب عليها الصبغة الدينية والمذهبية وهي كظاهرة اجتماعية طبيعية ثبتت وجودها في المجتمعات الإنسانية كوعي وجداني منعزل عن السياسة والاقتصاد في المجتمعات المتقدمة والمتطورة كأوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ، ومرتبط بالسياسة والاقتصاد كما هو الوضع في بعض بلدان أوروبا الشرقية كما في الأوضاع الخطيرة التي شهدتها يوغسلافيا السابقة حيث عانت المنطقة من حرب طائفية راح ضحيتها عشرات الآلاف من البشر، و عرفت مذابح جماعية ارتكبها الصرب بحق الأقلية المسلمة في البوسنة، هذا النموذج يصعب علاجه لرسوخه وتأصله في الوعي والوجدان، وتحول الصراع الدائر بين مكوناته من تنافس وسباق اجتماعي اقتصادي سياسي إلى صراع ديني مذهبي عنيف. الصراع والتنافس الصفوي العثماني التقليدي على الرقعة الجغرافية لما بات يعرف بالشرق الأوسط والشرق الأدنى يذكر كمثال تاريخي على صراع طائفي شامل.ٍ.

    تتطلب هذه النسخة التهذيب والمعالجة والتعايش وتحقيق العدالة الانتقالية *وشيوع أنظمة ديمقراطية، تتيح فرص متساوية لحياة كريمة ورفاهية في متناول اليد، وتلقي في الروع طمأنينة وثقة بالمستقبل واستقرار بالحاضر، ترد مهمة الحماية والصيانة الاجتماعية إلى المؤسسات الرسمية للدولة، مدعومة تلقائيا بمنظمات وهيئات المجتمع المدني والأهلي.

    طائفية ظرفية : ترتبط بظروف تاريخية محددة أو ظروف سياسية طارئة، أوجدتها حالات شاذة لتسلط الاستبداد وتسخيره لفئة معينة يتعامل معها بأسلوب المنح الزائد فيمتلك ولاءها ثم يستلبها بالخوف من الآخر ، الحالة السورية نموذجا مختلطا لتحول الظاهرة الطبيعية الاجتماعية إلى طائفية ظرفية.

    تفرضها حالات الصراع والنزاعات المسلحة، بحيث تطغى على السطح مخاوف وجودية عميقة لدى الأقليات ما يدفعها للالتفاف حول انتماءاتها المذهبية خاصة في ظل ظروف اقتتال أهلي مدمر، تستعمل خلاله شتى أنواع الأسلحة وينتج عنه دمار هائل للبنى التحتية والتجمعات السكنية ، وأثناء تلك الحالة الظرفية ـ فترات الانتقال والتغيير الديمقراطي ـ تعمل فئات وجماعات ذات مصلحة قصوى في منع التغيير وإبقاء الوضع السائد كأمر واقع لا مجال لتحريكه ناهيك عن تغييره ـ إلى زيادة الشحن الطائفي وإثارة المخاوف الوجودية التي قد تنجم عن التغيير ما يعني لحظتها تحويل أوضاع شاذة أو منحرفة إلى أوضاع مخلدة، تحت ذريعة وحجة الحفاظ على الأقليات أو حماية الطوائف، هذا النموذج قابل للتجاوز ولإزالة آثاره بعد تحقيق العدالة الانتقالية وإقامة ديمقراطية حقيقية ودولة يسودها العدل والمساواة وتكفل فيها الحريات العامة والخاصة ، ذلك أن العلاج لا ينصب في جوهره على إنهاء الطائفية كظاهرة طبيعية اجتماعية، بل على إزالة الجانب المظلم منها المتمثل بالتعصب والتزمت وتغييب العقل وإعلاء الانتماءات الطائفية فوق الانتماءات الوطنية والإنسانية والحضارية. وربما تنطبق تلك الحال في جوانب عدة على ما يحصل في سوريا خلال الثورة السورية، والاستقطاب الوطني هو ما يسعى إليه غالبية مطلقة من السوريين ويغيب عنه مجموعات هنا وهناك يدفعها تعصب مذهبي أو فزع وجودي غير مبرر أو تغطية لامتيازات غير مشروعة تم الحصول عليها بسبب انتماءات طائفية استغلت ظرفا استثنائيا، وحكما استبداديا شاذا.

    الطائفية السياسية :

    تحول الاختلاف السياسي والأيديولوجي ليأخذ مظاهر وملامح السمات البارزة في الطائفية التاريخية وعندها يصبح القائد أو الزعيم السياسي رمزا دينيا وأيقونة اعتقاديه، وتختلط لدى الأتباع والمريدين القيمة السياسية أو الوطنية مع القيمة الخاصة للفرد القائد أو الزعيم التاريخي، ويتحول الخير المطلق إلى ما يمثل الانتماء السياسي أو تقديس الزعيم وينقلب المؤيدون إلى مريدين ومقلدين جل اهتمامهم وعملهم تقديس صورة الزعيم أو الحزب، والدفاع عن مواقفه ومساراته، بحيث تتشابه عقيدة التكفير الطائفي مع مواقف المحازبين، وتتحول القناعات الفكرية والأيديولوجية إلى اعتقادات دينية بحتة، وينتقل القائد أو الزعيم إلى مصاف الآلهة، ويدأب أتباعه ومريدوه على وصمه بصفات وميزات خارقة لا تستوعبها الطبيعة البشرية، وحصل ذلك الحال مع أشخاص ومجموعات شيوعية كانت ترى في الزعيم لينين رجلا فوق العادة بل كيانا خارقا أسطوريا. وحصل ذلك مع الثورة الخمينية حيث تبنت الدولة نظاما سياسيا يقوم على فكرة طائفية بحتة تعتبر الولي الفقيه كمرجع ديني مذهبي قائدا أعلى وموجها أوحدا لكل مقدرات الوطن والشعب.

    أكبر أزمات الطائفية السياسية اقتران الفكر الديني بالفكر السياسي وانتقال الزعيم الديني إلى زعيم سياسي ـ الحالة الإيرانية حيث الولي الفقيه هو القائد الأعلى للأمة، معصوم لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه ـ ويخشى من وصول بعض حركات الإسلام السياسي على تلك المرحلة وتحويل النظام إلى طائفية سياسية ، خاصة بعد وصول جماعاتهم وأحزابهم لمنصات الحكم في مصر وتونس وليبيا. لكن الوعي الشعبي والنظام الديمقراطي التعددي الحقيقي، وليس الصوري أو العددي ، سيكون العاصم من وقوع المجتمع في تلك القاسمة وأقصد الطائفية السياسية .

    الهوية الوطنية والطائفية:

    تمثل الهوية الوطنية وحدة كمية للتضاد أو الأضداد في حين تمثل الهوية الطائفية فرزا موضوعيا كيفيا للتناقضات، وتشكل الأخيرة بؤرة دائمة لخلق صراعات مسلحة متقطعة تتحول في الغالب إلى حرب أهلية، تشكل الهوية الوطنية ضامنا متجددا لمنع انتقال المتنافرات العقائدية الدينية والمذهبية إلى قتال عنيف قد يستمر فترات طويلة ويخلف ضحايا ودمارا ماديا ومعنويا للدولة والمجتمع، عندما ينحاز المجتمع أو مجموعات منه إلى انتماءات تحت الوطنية تتضاءل فرص التعايش السلمي والحياة المشتركة، والإشكالية الطائفية لا حل لها بدون انتماءات وطنية عليا تلزم الطوائف عموما بتغليب مصلحة الوطن العليا على حساب الولاءات الدنيا أي اللا وطنية. ولاءات خارجية تتستر أو تتوارى خلف دعاوى الوحدة ونفي الواقع ، لتعود للظهور والتباهي في حالة القدرة وامتلاك القوة ، الانتماء الطائفي واقع لا مفر منه ينبغي الاعتراف به وقبوله بل وحمايته والحفاظ عليه فجمال الكون الواحد تأتى من الاختلاف والتباين ، والحق المطلق إنما هو تلك الأجزاء المتفرقة المتواجدة بين ثنايا الفروق والاختلافات، الذهنية والفكرية والاجتماعية، وكل ادعاء لامتلاك الحق المطلق أو الحقيقة الكاملة لجزء من بين الكل إنما يعني نفي وإقصاء للآخر الموجود، وقد يتحول ذلك النفي والإقصاء إلى رغبة كامنة للقضاء على كل الأطراف أو الأجزاء الموجودة خارج الحدود المرسومة للجماعة أو الفئة أو الطائفة.

    التعايش والتعاون والتكامل هو القاعدة الطبيعية لكل التنوعات والتقسيمات البشرية والاجتماعية ضمن الجماعة أو الوطن والتنافر والتضاد وصولا إلى الصراع والاقتتال هو الاستثناء، وذلك ببساطة لأن التصارع يفني الجميع ويعارض غريزة البقاء ويعاكس مسار التطور والتقدم ويعوق التقدم وتحقيق النماء والرفاه ،ودليل ذلك بقاء واستمرار وجود وحياة الطوائف المختلفة في البلدان العربية والإسلامية بعد مضي قرون طويلة على وجودها صغيرة كانت أم كبيرة.

    الحقيقة والفعل كامن في العقل، وما ينتج عنه من وعي وإدراك وتفكير، لذلك اقترنت الحرية بالعقل واتحدت الإنسانية بهما، وبتراجع العقل المجرد إلى خانات ضيقة ومحدودة بحزام أيديولوجي مغلق، أو تضييق أكثر لتحبس في قوقعة وجدانية طائفية تغتال العقل وتستلب الذهن وتاليا تغتال الإنسان والوطن.

    الهوية بمفهومها المجرد تفترض الثبات رغم المتغيرات، بمعنى أن لا ينحاز الفرد أو مجموعة نتيجة لمتغيرات طائشة إلى انتماءات أضيق من الهوية، حيث لا يصح اجتماعيا إعطاء صفة الهوية لانتماءات وولاءات متغيرة تتبع عقائد دينية أو مذهبية.

    * راجع بحثنا : العدالة الانتقالية خطاب الانتقالية والتحول الديمقراطي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى