صفحات الثقافةعبدالله أمين الحلاق

الطريق إلى الحرية سالكة بصعوبة


عبدالله أمين الحلاق

مثيرة للسخرية والشفقة، تصريحات لواء “درع الشمال” في منطقة إعزاز الذي اعتقل الصحافي فداء عيتاني لأن عمله “لم يعد يتناسب والخط العام للثورة”. بداهةً نقول ويقول الكثيرون إن اعتقال أو خطف أي صحافي او محاكمته عرفياً أمر مرفوض ومدان انطلاقاً من وجهة نظر يُفترض أن تمسي قانوناً بعد رحيل نظام الاستبداد السوري.

الخطف مدان، من “الجيش الحر” ومن كل طرف يرفع راية الحرية على طريق خلق بديل لا يمت إلى النظام الأسدي بصلة.

يهدف هذا المقال إلى إجراء مكاشفة سياسية وفكرية صريحة، وتوجيه المساءلة لمن نصّبوا أنفسهم أوصياء على الثورة وناطقين باسمها، ما يتيح لهم سلوكياتٍ تتسبب بضرر إعلامي لها، ناهيك بحجم الخسارة الإنسانية والتضاد مع قيم قامت تلك الثورة لأجلها، وفي مقدمها قيمة الحرية كحق فطري لا منّة لأحد فيه على الشعب السوري وغيره من شعوب الأرض المنكوبة بالاستبداد وأنظمة القمع في عالم اليوم.

لا نقول بعدم ملحاحية الحسابات الأمنية لـ”الجيش الحر” أو المسلحين من الثوار عموماً في تحركاتهم وتعاملهم مع المحيط والوسط القريب منهم، وخصوصاً في واقع معقد ومخترق أمنياً من النظام، كواقع الثورة وحراكها السياسي وجبهاتها العسكرية الساخنة والمشتعلة دوماً. لكن حالات كثيرة ينذر تراكمها تباعاً بأخطار جمة، فما يبدو انحرافات بسيطة اليوم في مسار الثورة قد يتحول بنية تنذر بشمولية من نوع جديد، ومحاكم تفتيش معصرنة وإن يكن البعد الديني حاضراً فيها بقوة كما كل محكمة تفتيش في القرون الوسطى. النظام السوري قائم على الخطف والسرقة والاعتقال والنفي والقتل والتعذيب. إذاً يفترض أن يكون محمول الثورة ورسالتها نقيضَي ذلك، وإلا لما قامت الثورة وهي تحوز شعارَي الحرية والكرامة عن جدارة أثبتها الشعب السوري برقيّه وإبداعه ورسالته وصموده الأسطوري في مواجهة جلاّده.

لا مقارنة تجوز بالطبع بين “شجرة أخطاء الثورة وغابة بربرية النظام”. كل مقارنة من هذا النوع تبخس الثورة حقها وتعطي النظام ما لا يستأهله من موقع، وتضعه في مكان يوحي بإمكان العودة إلى ما قبل زمن الثورة، أو إمكان الإصلاح الذي تهاوى منذ اتخاذ النظام قراره بقتل المتظاهرين. فإذا ما أضيف إلى ذلك تعقُّد الوضع السوري واستعصاؤه على حل سريع وناجع، وارتفاع صوت السلاح ليطغى على صوت العقل والسياسة – ولهذا أسبابه الموضوعية المفهومة التي تبرر النتيجة، – بدا الصمت والاحتماء بشجرة الأخطاء بديلاً من النقد والكلام السياسي الصريح للأسف.

الثورات لا تسير كما تشتهي نفس يعقوب وغاياتها، وهي غير محكومة بالعقلنة التي تحضر لماماً في فصول ملحمية كالتي يعيشها السوريون اليوم ويشاهدها العالم. إلا أن عبثية البحث عن النقاء وأضغاث أحلامه، لا تعني الاستكانة إلى الفوضى العارمة وإلى تبريرها أو الصمت المريب بدواعي عدم الإساءة إلى الثورة وعدم تقديم خطاب قد يفيد منه النظام الذي يُسَر ويغتبط لحالاتٍ، كخطف عيتاني، وقتْل عشرين أسيراً مجنداً في حلب على يد الثوار، أضف إليها حادثة تحمل دلالات لا اخلاقية ولا إنسانية وغير ذات علاقة بالثورة، وقعت قبل ان تصل الانزلاقات في مسار الثورة والفلتان الامني والسياسي داخلها إلى ما وصلت إليه اليوم. إنها حادثة إعدام النقيب أمجد الحميد في ريف حمص، وهو كان من الضباط المنشقين عن جيش الأسد، اي من الشرفاء الذين رفضوا قتل شعبهم وأبناء وطنهم، فكان مصيره القتل على يد رفاقه الثوار، ولماذا؟

جريمته أن صوته ارتفع عالياً بين رفاقه في التنظيم العسكري بالجهر بالفكرة المدنية والديموقراطية كهوية لسوريا المستقبل، منتقداً بعض ممارسات “الجيش الحر”، ومهاجماً علناً الخطاب الطائفي للشيخ عدنان العرعور. قُتل أمجد الحميد، ومر الكثيرون من كبار السياسيين والمثقفين المعارضين بمقتله مرور الكرام، ربما محافظةً على سمعة الثورة، التي أثبتت الاخطاء المتراكمة ضرورة الدفاع عنها، لكن عبر التصويب، بالرأي والكلمة والخطاب السياسي الجريء، وعلى الملأ، وليس كما يفعل النمامون ومدمنو العمل والكلام تحت الطاولة ووراء الكواليس.

الفرز واضح اليوم، بعد عام وثمانية أشهر من عمر الثورة: إما ان تكون معها وإما مع النظام. لا وجود لمنطقة رمادية بين المنزلتين، اللهم رمادية دعاة التهكم والتهجم على الثورة لأجل التهجم فقط وخدمةً للنظام، وإن ادعوا وأظهروا واجهة وخطاباً شكلياً معارضاً. لكن، أن تكون مع الثورة، على الأقل كمثقف، يعني أن تتبنى القيم النبيلة والأهداف الإنسانية التي قامت لأجلها، وأن تلفظ ويلفظ قلمك ولسانك وخطابك اليومي كل ما من شأنه أن يتعارض مع تلك القيم، وأن يكون تماهيك الوحيد وتبنّيك الذي لا نقاش فيه، هو للمعارضة الجذرية لنظام بشار الأسد، طالما أن هذا الاخير على غير استعداد إلا ليكون كما هي عليه حاله وممارساته اليوم، والأكيد أنه سيبقى كذلك إلى حين سقوطه.

المطلوب إعلاء الصوت برفض محاكم التفتيش التي أفرزها الواقع السوري وانسداداته وغياب- تغييب السياسة عنه، وهو عمل يتطلب تضافراً وعملاً جماعياً من قلب المعركة اليومية مع النظام، ولأجلها. من شأن إفراز الثورة محاكم كمحكمة أمن الدولة وقوانين استثنائية كقانون الطوارئ وفي بقع متفرقة تبعاً لانتماء كل طرف عسكري او ديني، أن يساهم في التشويش على تحقيق الهدف الثاني من الثورة بعد إنجاز الهدف الأول ممثلاً بإسقاط النظام، وهو بناء الدولة الديموقراطية. يبدو الهدف الثاني بعيد المنال حتى لو أنجز الهدف الاول قريباً، وهذا ما ساهم فيه بشار الأسد ونظامه أولاً وثانياً وثالثاً و… بعده الثوار ومزاجياتهم والخط السياسي لكل فصيل من فصائلهم، المختلف والمتمايز عن الخط الوطني العام المطلوب والضروري.

سوريا من دون النظام الحالي، خيار وحيد لا خلاص بدونه، وحتمية متحققة وإن بعد حين. سوريا المدنية الديموقراطية ونظام العدالة السياسية والاجتماعية المراد اجتراحه عبرها، هي الأفق والخلاص الوحيد للسوريين، لكنها لن تكون حتمية، أقله في المدى المنظور، وكم سنكون سعداء لو كذّبَنا الواقع والمستقبل القريب.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى