ابرهيم الزيديصفحات الناس

الطريق إلى دير الزور/ ابرهيم الزيدي

 

 

قبل أن تدخل سوريا في سن الشيخوخة، كانت ثمة أغنية شائعة، تقول: “بين الرقة ودير الزور، مرّت سيارة حمرا”. آنذاك، كان الحبّ يخمش القلب، ولم تكن الصحراء التي تفصل بين هاتين المدينتين عانساً؛ فأحلام الماء تراود يقينها، وها هي تموت عطشاً بالتقسيط المريع. فمَن ذا الذي يزرع الذئب، في قلب القطيع؟! كلّ ممنوع مرغوب، وقد كان الذهاب إلى دير الزور، هو الممنوع الذي أرغب به، فتركتُ الأحلام خلفي كأعقاب السجائر، ويممتُ شطر الموت، الذي لا شريك له في المساواة، ورتلٌ من الذكريات تراودني صوره.

ما إن لاح الفرات لعيني، حتى تمنيتُ لو كنت رسّاماً، لأثبّت حزنه بين عيني لوحة تشكيلية. فأنا لست في حاجة إلى وطن من حبر، أكتبه على هامش الوقت، ويموت بين صفحات كتاب. مررتُ بالكثير من القرى التي نزفت أهلها، قبل أن أصل الرقة، وتفاجئني تظاهرة نسائية، في حي الثكنة، تطالب دولة “داعش” بالإفراج عن المعتقلين لديها، والمختطفين. في الطريق مررتُ من أمام حديقة الرشيد، حيث تمّ تهشيم تمثالَي الأسدين السومريين، اللذين كانا يزيّنان مدخلها، كما سبق وهُشِّم تمثال الخليفة العباسي هارون الرشيد، الذي كان يتموضع في مدخلها الشرقي. هناك التقيتُ بأحد أصدقائي، فسألته عن الحال، فأجابني: “هنا، على قد سلاحك، مد رجليك”، ثمّ حذّرني من أنهم يلقون القبض على كل من يجهل الطريق إلى الآخرة. حمدتُ الله أني لم أتورط في حلاقة لحيتي، لعلها اليوم تشفع لي، من حيث أن العلاقة بين اللحية والدين في هذه الأيام، تتناسب طردا، وكأن من لا لحية له، لا دين له. لا بل تمنيت لو أنها شعثاء تتهدل على صدري، فسيكون تأثيرها أبلغ آنذاك، قياساً بلحى من رأيتهم، من أمراء الحرب. فهذه الولاءات والانتماءات وُجدت لتبرر القتل، من حيث أن القتل يحتاج إلى عقيدة، وليس إلى قوانين. فالقوانين قابلة للنقض، أما العقيدة فإنها ترتكز على المقدس، والمقدس نصوصه غير قابلة للنقد أو التعديل، وليس لأي عقيدة. إنه يحتاج إلى عقيدة تكفيرية، تستعلي على العقائد الأخرى، وتدّعي امتلاك الحقيقة. لكأن الوصول إلى الجنة يحتاج إلى كل هذه الوحشية! وجدت هذه العقائد مراحها في المجتمع العربي، حيث الأخلاق ترتكز على المظاهر، واللحية أهمّها! في المساء سمعتُ عن طفلة انفجرت بين يديها طلقة رشاش 23 كانت تلهو بها، مما أدى إلى بتر يدها واصابات بالغة في عينيها. علمتُ أن تلك الحوادث أخذت تتكرر كثيرا في الآونة الأخيرة.

“محارم” النساء

في الصباح المبكر، انطلقت إلى كاراج البولمان، لأغادر إلى دير الزور. هناك علمتُ بوجود طريقين إلى الدير، أحدهما تغادر من طريقه النساء اللواتي لا يرافقهن “محرم”، والآخر تغادر من طريقه النساء اللواتي برفقة “محرم”، إضافة إلى من يرغب بالسفر من الركّاب الذكور. تبيّن لي ذلك من خلال حركة النساء بين الميكروباصات، حيث تواجه المرأة التي تريد السفر إلى دير الزور، بالسؤال عن “المحرم” فإن لم يكن موجوداً، تنصح بأن تأخذ طريق البشري، أما اللواتي معهن “محرم” فيغادرن من طريق خط الكرامة، وكأنهن في طريقهن إلى الحج، وليس إلى دير الزور.

غادرتُ برفقة ثمانية من الرجال، وست نساء، لنتوقف عند أول حاجز، لا يبعد عن المدينة سوى ثلاثة كيلومترات، فصعد إلى حافلتنا شاب في مقتبل العمر، يحمل بيده بندقية روسية، وطلب من الرجال بطاقاتهم الشخصية، وسأل النساء إن كن برفقة محارمهن. وقد كان بينهن اثنتان من دون، فاحتج على خروجهما بهذه الطريقة، إلا أنه أمام توسلاتهما، سمح لهما بمتابعة السفر. بعد نحو من عشرين كيلومتراً أوقفنا الحاجز الثاني لـ”داعش”، ليصعد إلى حافلتنا رجل تغطي وجهه لحية كثة، وبيده بندقية روسية، طالباً من الرجال بطاقاتهم الشخصية، وسأل إن كان ثمة أحد بحوزته سجائر، فنفى ركاب الحافلة أن يكون لديهم دخان، فقال إن كان مع أحد علبة سجائر فليخرجها، فلم يجبه أحد، فسمح لنا بالمرور. في الطريق تجاذبت الحديث مع الرجل الذي كان يشاركني المقعد، وقد علمت أنه من دير الزور، وأنه كان في زيارة ابنه المقيم في محافظة الرقة، منذ زمن بعيد. سألته عن الأوضاع فقال: اليوم في دير الزور تترجم العداوات إلى تصفيات.

عند الحاجز الثالث، كنا على موعد مع خطبة طويلة، ألقاها علينا ملثّم تشي لهجته بأنه إما من ريف المنطقة وإما أنه عراقي، من حيث أن اللهجة بين ريفَي البلدين متقاربة. كانت الخطبة تتمحور حول تحريم الدخان، والنساء اللواتي لا يرافقهن محرم. لم يكتف بما أتحفنا به من مواعظ، بل طلب من المرأتين اللتين ليس برفقتهما محرم، أن تنزلا، فنزلت الأولى، وبقيت الثانية، وقد لفّت وليدها باحتمال الحياة، فاحتل الخذلان وجوه ركاب الحافلة، وصرنا نتطلع في وجوه بعضنا البعض، وأمام إصراره على نزولها، وتوسلاتها، أخذ الركاب بالتوسل إليه أيضا، وصار كل من يعرف آية قرآنية، أو حديثاً نبوياً، يصلح للاستشهاد به في مثل هذه الحالات، يتلوه على مسامعه. بعد أخذ وليّ، وافق على أن تكمل المرأتان سفرتهما، شريطة أن لا تجلسا إلى جانب أحد من الذكور. لقد ترجم لنا ذلك الرجل ما قالته يوما الباحثة التونسية رجاء بن سلامة: “يهتمون بآخرتك، وينغّصون عليك دنياك، ويبدون جشعاً كبيراً في متاع الدنيا”. كان ثمة في الطريق حواجز كثيرة، بعضها يستوقفنا، وبعضها كأن له اختصاص آخر، فيسمح لنا بالمرور من دون استيقاف. قبل أن نصل إلى دير الزور بنحو من خمسة وعشرين كيلومتراً، توقفنا عند آخر حاجز من حواجز “داعش”، ثمّ غادرناه ليستوقفنا حاجز لـ”جبهة النصرة”، هو الوحيد يفصل بين آخر حاجز لـ”داعش”، وأول حاجز للنظام. لقد أثار استغرابي هذا الحاجز اليتيم! تفقد بطاقاتنا الشخصية، ولم يسأل النساء عمن يرافقهن من المحارم، ولم يسألنا إن كان لدينا علب تبغ، فانطلقنا ليستوقفنا بعد عشرة كيلومترات تقريباً، أول حاجز للنظام. اطلعوا على بطاقاتنا الشخصية، وفتشوا أمتعتنا، واستفسروا عن سبب سفر كل منّا، ثمّ غادرناهم.

الضمائر حين تصمت

لم تكن دير الزور مدينة واحدة كعهدي بها. لقد انقسمت أحياؤها، وأصبح لكل حي صورته الخاصة. ثمة أحياء احتل صورتها الدمار، بالمعنى الحرفي للكلمة، مما يذكر بقول لجوزيه ساراماغو: “أحيانا، الضمائر تصمت، أكثر مما هو مطلوب منها”. لم أستطع ترتيب أفكاري، التي بعثرتها مشاهد الدمار. كانت الناس تتحرك في كاراج البولمان، كأنها أرقام تتبادل المواقع. وجدتني كأني جئت لأكتب عن بلد ينتظر ما بعد الجنون. مشيت في ما بقي من شوارع على قيد الحياة، فشعرت بوجعي أكثر نضجا، ووجدتني وقد استسلمت لهامش الحياة، كبقية الناس من حولي، وكأن المكان قد بدّل أحلامي، بعد أكثر من ساعتين من التجوال. ابتعتُ لنفسي فنجان قهوة من بائع متجول، وجلست على حافة أحد الأرصفة أحتسيه، قبل أن أمضي إلى غيابي، بعدما تعب ظلي من السير خلف أسئلة لا جواب لها!

في أحد الشوارع، استوقفت شاباً ينتعل بؤسه، وسألته عن أصوات الرصاص، وغير الرصاص، التي لم تتوقف منذ وصولي، فأخبرني أن الكل هنا يحارب الكل. تساءلت: كم على الإنسان أن يتجرد من إنسانيته، ليستطيع أن يتماهى مع ما ليس إنسانياً؟! عدت إلى كاراج البولمان، وأنا لا يمكنني أن أكتب لكم صوت سيارة الاسعاف، فلو فعلت لكنتُ شوّهتُ كل الخوف والرجاء والغضب والفضول الذي يرافقها. كانت حركة السير بين الرقة ودير الزور نشطة، بعدما تقطعت السبل بأبناء هذين البلدين. صعدت إلى أحد البولمانات الى جانب شاب في الثلاثينات. في الطريق تجاذبنا أطراف الحديث، فعرفت أنه من دير الزور، وقد كان سابقا في تنسيقيات الثورة، ويريد المغادرة إلى الرقة، ومنها إلى تل أبيض. ثمة من وعده بأن يؤمّن له العبور إلى تركيا، التي سبقه إليها أفراد أسرته. سألته عن الأسباب التي جعلته يتخلى عن موقعه في الثورة، فأخبرني أن ما يحدث في دير الزور، تجاوز قدرته على الاستيعاب. في الطريق رأينا البولمان الذي انطلق قبلنا في اتجاه الرقة، واقفا، فتوقفنا لمساعدته، وإذ به قد تعطل، وقد يطول مكوثه هناك، فاتفق سائق البولمان المعطل، مع سائق حافلتنا، أن يقل هذا الأخير بعض الركاب، وخصوصاً الفتيات، حيث أن ثمة الكثير من طالبات الرقة، يقدمن امتحانات نهاية المرحلة الإعدادية في دير الزور، فصعدت إلى حافلتنا مجموعة من التلميذات والتلاميذ، ولم يخطر في بالنا أن حاجز “داعش” سيطالبهن بوجود “محرم” معهن. وهذا ما حصل. إذ ما إن وصلنا إلى الحاجز، حتى بادرهن بالسؤال عمن يرافقهن من “المحارم” فارتبكت الفتيات، فتم إنزال السائق واقتيد بعيدا من الحافلة. تملكنا خوف شديد، من أن يحتجزوا الفتيات، اللواتي أجهش بعضهن. بقينا ما يقارب الساعة، ثم عاد السائق، بعدما أقسم لهم على القرآن الكريم، بأنهن كلهن برفقة محارمهن من الرجال، وقد تعطل البولمان الذي كان يقلهن، فحملهن، لأنهن فتيات صغيرات، ولا يحتملن الحر الشديد، ولا أحد يعرف متى سيتم تصليح البولمان الذي كان يقلهن. مررنا بكل الحواجز السابقة، وكان السائق بشرح لكل حاجز قصة التلميذات، وأن الحاجز الأول سمح له بحملهن، رأفة بهن، وشفقة عليهن. بقيت الحال كذلك إلى أن وصلنا مشارف الرقة، فأوقفنا الحاجز الأخير، وهو الأول للخارجين من الرقة، فلم يقتنع بكل ما قلناه، وبما قاله له السائق، فأنزل الفتيات. فاضطررنا للإتصال بذويهن، وبقينا هناك إلى أن جاء الأهالي.

يقول ممدوح عدوان: تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا. بقيت في كاراج البولمان ريثما اكتمل الركاب، فغادرت الرقة عائدا، وأنا أدندن مقطعاً من قصيدة الدكتور باسم جبور “بتطلّع فيكي بحرقة… وبجسمي سحرك راعش… لو بتروحي ع الرقة… بتضب سلاحها داعش”.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى