ديمة ونوسصفحات الناس

الطفل محمد الخولي.. من حمص إلى حاوية النفايات/ ديمة ونوس

 

في حاوية النفايات الخضراء. طفل في الخامسة من عمره يدعى محمد الخولي. شعره أسود كثيف وناعم. يرتدي بيجامة قطنية سوداء وزرقاء. يخبئ رأسه بين يديه وينحني على بعضه كمن يلعب “الغميضة”. لا نرى ملامح وجهه لكن باستطاعتنا أن نتخيلها. له عينان صغيرتان سوداوان ربما أو ملوّنتان، لا نعرف إن كانت عيناه مفتوحتين أم مغمضتين. له فم صغير ووجنتان ريّانتان. لم يكن الطقس بارداً البارحة. ومحمد ظهره مكشوف، كمعظم الأطفال المهملين، الشغوفين باللعب والحياة. وربما نلاحظ من الصورة أن محمد يبالغ في انهماكه في اللعب إذ لا يكتفي بالاختباء في حاوية النفايات الخضراء، بل يغطس بجسده الصغير بكرتونة مخصّصة لأكياس الشيبس كتب عليها أنواع النكهات (ملح، خل وملح، باربكيو). ويذهب محمد أبعد من ذلك، إذ يدفن رأسه في كيس زبالة أسود فلا يظهر منه سوى الشعر الأسود الكثيف والناعم. ولكي يعزّز دفاعاته في لعبة “الغميضة”، يضع على رقبته من الخلف قماشة بالية عثر عليها في الزبالة. ولمزيد من التمويه، يلوّن ظهره بالدماء ويجعلها تسيل ببراعة حتى ليبدو أن محترفاً قام بتلطيخه وبتجهيز اختبائه الأخير.

إنها آخر لعبة “غميضة” يلعبها محمد الخولي. الطفل الذي نزح مع أهله إلى حلبا- قضاء عكّار، هرباً من مأساتهم في سوريا. وليس النزوح السوري، مجرّد نزوح. إنه امتحان يومي على الصبر في مواجهة الخسارات النفسية والمادية وفي ابتلاع عنصرية البعض والتحايل على “المؤقت” الذي يأخذ يوماً بعد يوم شكلاً من أشكال الديمومة الشاقة.

قبل عامين، جاء محمد من مدينة حمص بصحبة أهله، وكان في الثالثة من عمره. لا نعرف كيف أمضى محمد العامين الماضيين. هل لعب بما فيه الكفاية؟ هل أحبّ حلبا أكثر من حمص؟ هل كان يحلم بالالتحاق بالمدرسة هو الذي لم يحمل حقيبة مدرسية قبل الآن؟ إنها الحياة المنقوصة التي عاشها معظم السوريين خلال السنوات الثلاث الأخيرة. حياة اجتزئت منها الطقوس البديهية كالمدرسة والدفن والعزاء. ومحمد طفل سوري، ومن حمص، ونزح مع أهله، وعاش الأثمان كاملة كغيره من الأطفال السوريين. لا بل وكبر قبل الأوان. إذ أرسله والده صباح البارحة ليشتري له علبة دخان من دكّان مجاور. دكّان يبيع القهوة وتعود ملكيته لرجل لبناني. محمد ابن الخامسة، الذي لم يلتحق بالمدرسة بعد، يعرف الطريق بين المنزل والدكّان. لا بل ويعرف نوع الدخان الذي يدخنه والده. يعرف كيف يلفظ الاسم وكيف يدفع النقود وينتظر الباقي. لكنه لا يعرف أن ابن صاحب الدكّان البالغ من العمر 16 عاماً يريد اغتصابه. فقط يريد اغتصابه. شاب في السادسة عشر من عمره اشتهى اغتصاب محمد الجميل، السوري، الحمصي، المتروك. نعم إنه متروك. ثمة ما أعطى المغتصب ذلك الإيحاء. طفل متروك ينتمي إلى شعب متروك. ثمة شرعية ما تبيح لأي كان أن يفعل ما يشاء مع هذه الفئة المتروكة التي فقدت الوطن والبيت والهوية الشخصية والوجود والأحباء، وما المانع من اغتصاب طفلها؟

بعض اللبنانيين، استفاق صباحاً على صورة محمد، مرمياً في حاوية النفايات، الدماء جفّت على ظهره المكشوف، غارقاً بين أكياس سوداء وصناديق كرتونية حيث رماه قاتله كما ترمى أكياس الزبالة. بعض اللبنانيين، استهجن الصورة ووجه لوماً قاسياً لوسائل الإعلام التي تنشر هذه الصور وتعكّر “صباحاتنا”. وهل صباحاتكم رائقة فعلاً؟ ما الذي يجعل صباحاتكم رائقة؟ ألم ينشر هذا البعض صورة المواطنة اللبنانية تمارا التي تعرّضت قبل يومين لضرب مبرّح على يد زوجها؟ ألا تعكّر صورتها، بعينيها المتورّمتين بعد محاولة زوجها اقتلاعهما، مزاج هذا البعض؟ ألا تعكّر العنصرية حياتهم؟ ونحن نعيش زمناً، يصبح فيه نشر الصورة، هو القضية، وليس الاعتداء على من يظهر في الصورة ثم طعنه طعنات خمس ثم رميه في حاوية الزبالة. الإدانة للصورة، مشروعة، حرصاً على كرامة الطفل محمد وعدم التشهير بخصوصيته، وليس حرصاً على صفاء صباحاتكم. وربما يخرج الآن أحدهم ليقول إن السوريين المتخلفين، الكسولين، يرسلون أطفالهم ليشتروا السجائر فيكون الاغتصاب أو الخطف، مصيرهم.

الامتعاض من نشر صورة محمد يشبه بمعنى أو بآخر الضرب المبرّح الذي تعرّضت له تمارا قبل يومين وتتعرّض له العديد من النساء اللبنانيات بشكل متكرّر. ويشبه أيضاً، الخبر الذي أوردته صحيفة “النهار” اللبنانية البارحة عن إلقاء القبض على شبكة دعارة في منطقة الكسليك، معظم نسائها سوريات. قد يبدو الخبر عادياً. لكن في العنوان إصراراً على تنميط الكائن السوري، العامل أو عنصر المخابرات أو العاهرة أو ذاك الذي شوّه صورة الشوارع اللبنانية ممسكاً بجمل يتجوّل به. إنه إمعان البعض في إهانة السوري الذي كان شجاعاً أكثر بكثير من غيره، وثار ضدّ نظام عانى منه اللبناني بالقدر ذاته ربما. السوري الذي فقد أبناءه في معارك أو تحت التعذيب ولا يزال قادراً على التنفس. ولا يزال قادراً على تجاوز فكرة أنه “متروك”.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى