صبحي حديديصفحات الثقافة

الطمر خير وأبقى!

 

صبحي حديدي

طيلة أربعة أشهر ونيف، ظلّ موقع “ميديابارت” الإلكتروني الفرنسي يلحّ، ويقدّم الدليل تلو الدليل، على أنّ وزير الموازنة الفرنسي جيروم كاوزاك كان، خلال سنوات طويلة، يمتلك حساباً مصرفياً سرّياً في سويسرا، هدفه التهرّب من الضرائب؛ ثمّ أغلقه سنة 2010، ونقل ودائعه إلى مصرف في سنغافورة.

وطيلة أربعة أشهر، ظلّ كاوزاك ينكر ويكذّب، أمام رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان والصحافة؛ وتضامن معه عدد من زملائه الوزراء، وأصدقائه في “الحزب الاشتراكي” الفرنسي؛ كما تعاطف معه عدد من الصحف والصحافيين، ممّن وجدوا أنّ “ميديابارت” تغالي في طرائقها، وكان هذا الطراز من التعاطف هو الأكثر إثارة للدهشة.

وحين أخذ التحقيق القضائي الرسمي، في فرنسا وسويسرا، يطبق الخناق على كاوزاك، اضطرّ إلى تقديم استقالته من الوزارة، أوّلاً؛ ثم لم يجد مفراً، في نهاية المطاف، من التقدّم إلى القضاء بنفسه، والاعتراف بأنه بالفعل كان يمتلك ذلك الحساب؛ فاعتذر من جميع الذين كذب عليهم، والذين صدّقوه، أو تواطأوا على اعتماد روايته. وإذا كانت القضية مجرد ملفّ جديد، يُضاف إلى عشرات ملفات الفساد، هنا وهناك في العالم؛ فإنها، في جانب جوهري آخر، تخصّ سلطة الصحافة عموماً، وصحافة التحقيق خصوصاً، في الديمقراطيات الغربية. وبين دروسها البليغة أنّ ابن المهنة، الصحافي ذاته، يمكن أن يكيل بمكيالين في الحكم على مادّة تحقيق محرجة أو متفجرة: يعارض، سياسياً وإيديولوجياً، الوزير كاوزاك وحزبه؛ ولكنه “يستهجن” المضيّ أبعد مما ينبغي في نشر الغسيل القذر، للشخص ذاته!

ولم تكن مصادفة أنّ الجهة الصحفية التي تجاسرت على كشف قضية كاوزاك، وصمدت في متابعة فصولها رغم ضغوط متعددة عاتية، هي موقع إلكتروني مستقل، بل “منشقّ” عن التيار العريض لمؤسسات الصحافة الفرنسية. وكان إدفي بلينل، مدير الموقع، قد أطلقه في سنة 2008، بعد أن استقال من رئاسة تحرير صحيفة “لوموند” العريقة، بسبب خلاف تحريري وسياسي مع كبار مالكي الأسهم فيها. ولأنّ اشتراكات القراء هي وسيلة التمويل الوحيدة، تمكن الموقع من حيازة هامش حرّية واسعاً في فتح ملفات الفساد بصفة خاصة؛ وفي طليعتها، قبل حكاية وزير الموازنة، قضية استغلال سيدة الأعمال ليليان بيتانكور، والتي يُلاحق فيها اليوم عدد كبير من الأشخاص، بينهم رئيس الجمهورية السابق نيكولا ساركوزي.

وفي عام 1906 كان ثيودور روزفلت، الرئيس الأمريكي السادس والعشرون، قد نحت عبارة طريفة، فظّة بعض الشيء، في وصف طراز خاصّ من الكتابة الصحفية: “النكش في الطين” Muckraking؛ أو، بمعنى أدقّ: تقليب القاذورات، وإظهار ما هو مستور من أوساخ وقبائح. واستمدّ روزفلت ذلك التوصيف من شخصية حامل المِدَمّة Rake، أداة تسوية العشب وتقليب التربة والسماد، في رواية الإنكليزي جون بنيان “رحلة الحاجّ”، 1678، فقال: “إنه رجل ليس في وسعه أن ينظر إلا إلى أسفل، والمِدَمّة في يده؛ وقد بُورك بتاجٍ سماويّ بسبب شغله هذا، لكنه لم يتطلع إلى أعلى، ولم يكترث حتى بإبصار التاج، وظلّ يشغل نفسه بنكش القاذورات في الأسفل”.

لكنّ الحياة، وتطوّر تقاليد الكتابة الصحفية وأخلاقياتها، تكفلت بتطهير التعبير من مضمونه السلبي الفظّ، وبات على العكس صفة حميدة لذلك الصحافي ـ المحقق، الذي يكشف أستار قضية سياسية أو اجتماعية أو مالية تمّ إخفاؤها عن المجتمع، بتواطؤ من هذه السلطة أو تلك. ولقد شهد العالم عشرات الأمثلة على ذلك الصحافي الذي يتعب ويكدّ ويغامر ويجازف حتى بحياته، من أجل إماطة اللثام عن الحقيقة: صمويل هوبكنز آدامز في سلسلة تحقيقاته “الدجل الأمريكي الأكبر”، 1905، حول التلاعب بالأدوية؛ راي ستانارد بيكر، في كتابه “اقتفاء اللون”، 1908، حول التمييز العنصري؛ شارلوت بيركنز غيلمان، حول إساءة تشغيل الأطفال؛ أبتون سنكلير، في “الغاب” 1906، حول تعليب اللحوم؛ ثمّ سيمور هيرش، الذي كشف مذبحة “ماي لي” في فييتنام، وفظائع سجن “أبو غريب” في العراق، بين قضايا أخرى كثيرة…

محزن، بالطبع، أنّ هذه التقاليد غير شائعة، حتى ضمن حدودها الدنيا، في الصحافة العربية؛ ليس بسبب الافتقار إلى صحافيين حاملي مدمّات، أغلب الظنّ، بل لأسباب تخصّ طبائع ارتباط الإعلام بأنظمة الاستبداد العربية، حيث الطَمْر وليس النكش هو القاعدة؛ وهو خيرٌ… وأبقى!

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى