صفحات الحوار

الطيب تيزيني: سوريا تعيش استقلالا جديدا


حاورته في الدوحة/نور الهدى غولي

بهدوئه القوي يتحدث المفكر والدكتور السوري الطيب تيزيني -الذي بدا مسكونا بهاجس يسمى الوطن العربي- عن آمال هذه الرقعة الجغرافية وطموحاتها الكبيرة القادمة.

وحكى لنا -على هامش لقاء الجزيرة نت معه- حادثة طريفة ساخرة وقعت له عندما دعي للمؤتمر التشاوري، إذ لم يلب الدعوة، فبحثوا عنه ولم يعثروا عليه، وسألوا زوجته عنه فيما كان هو في السجن، فقد اعتقل أياما قبل أن توجه له الدعوة لتعاطفه مع امرأة عجوز عوملت بطريقة سيئة جدا خلال المظاهرات..

الجزيرة نت التقت الطيب تيزيني وأجرت معه الحوار التالي:

كيف تقرؤون الآن هذا المشهد العربي القائم اليوم؟

الطيب تيزيني: ما الذي يحدث؟ لطالما اعتقدت خلال عقود عديدة من الزمن أن التغيير له مجموعة من الأنماط التي اعتادت عليها البشرية منها الثورة، الانتفاضة والتغيير والانقلاب..، المظاهر الفاعلة والأقل فاعلية.

وأين نحن الآن بالضبط في الثورة..، هل هي الأكثر فاعلية؟

الطيب تيزيني: هذا ما أبحث فيه الآن..، أين نحن الآن من هذا الذي يحدث؟ والسؤال هنا يجاب عنه بالسؤال عن سؤال ضمني: ما هو الحامل الاجتماعي الذي يقوم بهذا الفعل الراهن، من هم هؤلاء الشباب؟ الشباب معروفون حتى الآن بأنهم يمثلون فئة اجتماعية يشترك أفرادها في أنهم جميعا ينحدرون من هذه الفئة الجيلية.

والجيل هنا يعتبر مقولة بيولوجية تتحدد سماته بكونه يمثل عمرا قد يبدأ في 17 وينتهي في الثلاثين، بالإضافة إلى مشتركات معينة في المزاج والنفس في قابلية القراءة، في عدم الانخراط الكامل في العمل، في كون مشروع العمل والتأسيس للحياة الشخصية مشروعا معلقا ينتظر الحل بعد التخرج، ثم البحث عن العمل وتكوين أسرة..، أما ما لا يشتركون فيه فهو أنهم ينحدرون من فئات وطبقات مختلفة. ما الذي حدث الآن بين هذا المشترك وهذا المختلف..، هذا ما أبحث فيه.

هناك إذن قدر من الثقة يمكن الاتكاء عليه مع هذا الجيل؟

الطيب تيزيني: السؤال الإشكالي: هل من المحتمل الآن بعد 40 أو 50 عاما في التاريخ العربي أن ينتج هذا الذي يحدث حالة جديدة من التغيير هي أكثر من أن تكون تغييرا في قلب الجيل؟، هل هناك احتمال في أن يكوّن هؤلاء حاملا اجتماعيا سياسيا وثقافيا لتغيير شامل؟، لأن هذا السؤال تواجهه صعوبات، طالما أننا اتفقنا في تعريف الجيل بأولئك الذين تبدأ أعمارهم من 17 وحتى 30، وبعد ذلك هل ينتهي المشروع أم أن هناك احتمالات أخرى؟

يتضح لي أنّ هذا التطور الهائل على الصعيد العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي راح ينتج حالات جديدة ما كان احتمالها قائما، من ذلك التواصل الذي يتوقف بيننا، كل شخص يتجه نحو مصيره الأخير.. الآن نكتشف أشياء جديدة..، كاحتمال التأسيس لحالة مشتركة بين هذا الجيل إلى النهاية، هنا تبرز بعض العوامل الأخرى المساعدة مثل التحول الضمني في إطار الجيل الواحد ذاته.

ثانيا: تخلخل الطبقات الاجتماعية، وثالثا تشكل نماذج جديدة من الجيل قد تلخص شعبا. وهذا ما يحدث الآن، أعرف قسما ممن يخرجون إلى الشارع الآن في دمشق وحمص لم يكونوا يهتمون بشيء إلا الكرة مثلا.

الراهن السوري صار يشغل الرأي العام العالمي..، كيف ترون مساراته الآنية والسابقة واللاحقة؟

الطيب تيزيني: ما يحدث في سوريا حالة طبيعية تماما، تصوري أن بيتك تهجرينه شهرا وتعودين إليه، ماذا تتوقعين؟ سيحتاج إعادة تنظيف وصيانة وترتيب..، سوريا تركت 40 عاما، وحرمت من فضيلة عقل السلطة، وللأسف كانت السلطة هي نفسها ذاتها مرة أخرى وثالثة..، يعني نستطيع القول إن جيلين كاملين حكما سوريا بصورة متتابعة، لم يتغير فيا سوى أشياء طفيفة..، هذا النظام أتى بعد إخفاق الوحدة السورية المصرية عام 1958 وهي نقطة حاسمة جدا.

فشلت الوحدة وجاء بعد ذلك الانفصال..، وشهدت المرحلة تأسيسا لحزب البعث بأيديولوجياته وبروح النظام الأمني،   المجتمع كله اختزل في حزب انتهى بالبلد كله.

حزب البعث أصبح مرجعية البلد وهو من يقود الدولة والمجتمع، هذا البلد الهائل والجميل والغني بتراثه تحول إلى كرة تدخل في قبضة نظام لا يسمح بكوة واحدة أن تفتح.

ما هو في نظركم أسوأ ما ترتب على كل هذا الجمود الطاغي؟

الطيب تيزيني: لقد تأسس على أعقاب النظام الأمني ما أسميته وفق علم الاجتماع السياسي “الدولة الأمنية” التي تحددت خصوصيتها عبر شعارها: “يجب أن يُفسد من لم يَفسد بعد” بحيث يصبح الجميع ملوثين ومدانين تحت الطلب. أي يحب أن تتكون الدولة على ملفات الفساد والإفساد، حتى لا يصلح أي كان لأن يكون رهانا على مشروع جديد، كلهم قابلون لأن يدمروا تحت ملفات فسادهم.

وقد اخترقت هذه الدولة الأمنية الطبقات والفئات والجامعات والمدارس والمجتمع الأهلي والمدني وحولته إلى حطام. هذا هو المصطلح الذي تشكل معي: “حطام” .

الدولة الأمنية كانت بهذا المعنى نهاية المجتمع البشري، لتدخل سوريا حالة مجتمع يجتر نفسه، سحبت منه السياسة، العلم والشرف ومنظومة الأخلاق والقيم، واتسعت الدعارة حتى بدأ الناس يبيعون شرفهم هنا وهناك..، وهذا بالتوازي مع اتساع متعاظم للفقر والإفقار.

ألم يكن هناك من حل مواز قريب، يقف في وجه هذه الآلة الأمنية؟

الطيب تيزيني: قامت هبات هنا وهناك بسيطة أحيانا كانت تأخذ طابعا طائفيا يختبئ وراءها أصحاب الأمر، يشعلون النار ولكن بصيغ زائفة، هي حالة اجتماعية طبقية تمنح هوية طائفية.

اتضح لي شيئا فشيئا خصوصا بعد سقوط بغداد أن سوريا أمام أربعة احتمالات: الأول التدخل الأجنبي، وكان البعض من المسؤولين يسألونني كيف ذلك؟ كنت أقول لهم مثلا شعبيا “الباب المفتوح الداشر يعلم الناس السرقة”، وباللغة العلمية “الداخل المهشم يستجلب الأغيار”. وهذا ما بدأ يحدث..، هي مهيأة لأن يحدث فيها تدخل من قبيل ما حدث في العراق.

الخيار الثاني: أن تحدث صراعات في الداخل من نمط الصراعات الطبقية الاجتماعية، لكن هذا الأمر سوف يُضغط عليه بتزوير صراع الطبقيات بصراعات طائفية.

أما النمط الثالث، فهو فعلا صراعات طائفية حدثت في مناطق معينة في سوريا آخرها كان في مدينة السويداء.

أما الرهان الرابع، فهو الدعوة إلى مشروع وطني ديمقراطي في النهضة والتنوير. وكتبت كتابا عنوانه “بيان في النهضة والتنوير العربي”، طرحت فيه هذا المشروع الذي فصلت فيه كل هذه الاحتمالات.

وجاء هذا الحراك الشعبي رفضا لهذا الواقع..؟

الطيب تيزيني: جاء في الوقت الذي كاد فيه الناس يقعوا في حالة مأساوية مرّة بسبب الاعتقاد بأن السوريين خرجوا من التاريخ، أنا أذكر ذلك ببساطة لأنها مرحلة قريبة. حتى كبار المفكرين والمثقفين بدؤوا يتصدعون والأحزاب المشكلة خلال فترة ما بعد الاستقلال كلها اخترقت وحولت لخدمة الدولة الأمنية، ولهذا حين جاء الشباب بدا الأمر وكأنه أسطورة.. (الأسطوري التاريخي). شباب لا يملكون شيئا لا كرامة ولا شرفا ولا عملا ولا منزلا ولا عائلة.

جاء الغليان من الداخل خصوصا مع فضائح كثيرة طفت كالمليارات التي كشفت لدى أشخاص في قلب السلطة، والقاعات الضخمة التي اكتشفت مليئة بالأموال وليس البنوك.

تحرّك الريف خصوصا الذي افتقد كل شيء، وانتقلت الثورة بعد ذلك إلى دمشق وحمص وحلب..، ثورة الشباب ليس معجزة بل كانت استجابة لقانونية تاريخية صارمة. وجاءت بعد أن تصدع كل شيء في الداخل بما في ذلك غياب السياسة.. لحظة من الخواء الداخلي أسميته “الحطام” وتركته مفتوحا.

5الآن لا يجوز التفكير في الخروج من الساحة مهما قدموا من تنازلات ومحفزات..، فالتاريخ فُتح، وقد كتبت مقالة قلت إن (فرانسيس) فوكوياما نجح حين جاء في مرحلة أصبحت فيها البلدان العربية مغلقة بتاريخ مغلق..، والتاريخ الوحيد الذي ظل مفتوحا هو التاريخ الغربي..

مجيء الشباب فتح التاريخ السوري وبرهن على بطلان فكرة فوكوياما في تعميم نظريته. فسوريا الآن وتونس ومصر فعلا ينجزون عملا جديدا. وأزعم أن ما يحدث الآن حالة جديدة في التاريخ العمومي، خصوصا إذا عدنا إلى دراسة البنية الجيلية الحالية، واكتشفنا أن هذه الأجيال يمكن أن تكون حاملا لنمط من التغيير. فنحن نقول “الرطل من أجل أن ينجح يحتاج رطلين”، الحرية مكلفة وسوف نكون لها.

هل من المتوقع أن يلجأ الشعب إلى السلاح؟

الطيب تيزيني: الشباب إلى الآن لم يتحولوا إلى استخدام العنف المسلح، وهم يملكون الكثير منه لكن لم يستخدموه، وهم يحذرون بأنهم لن يستخدموه إلا في اللحظات الأخيرة دفاعا عن النفس. وهذا يرعب النظام لأننا قد نتكلم عن حالة انتقالية باتجاه الخلاص.

يتخوفون من فكرة تكرار سيناريو ليبيا والتحول نحو العنف المشترك..؟

الطيب تيزيني: الشعب هنا برمته يرفض التدخل الأجنبي. ولكن إذا حدث ذلك فسوف يكون من موقع النظام نفسه الذي يفتعل مسائل كثيرة من أجل دخول الآخر ووضع هذه التهمة في وجه الشباب. المسألة لها احتمالاتها التي لا تحصى ولكن ثمة خط ناظم لا يمكن أن يقر به، هو خط الصعود والتقدم والمواجهة التي تستمر ما شاء الزمن، لكن لم يعد هناك خط للرجعة.

وما الذي يدعم الشعب في ظل هذه الإبادة المتعددة المستويات..؟

الطيب تيزيني: تصوري أنّ الشعب يدعمه الشعب نفسه..، هناك حالة جميلة تفرض. كثير من التجار والموسرين -الذين حققوا ثروتهم في هذه الفترة 40 عاما- صاروا منحازين إلى الشعب، وبعضهم ترك ثروته في خدمة الشباب، مليارات الليرات السورية تنفق لرأب الصدع.

وصوت المثقف ألم يأت متأخرا نوعا ما؟

الطيب تيزيني: المثقف مرّت عليه فترة طويلة، تحولت “المثقف” إلى كلمة فيها كثير من الإيذاء والاحتقار، إلى “مخبر للسلطة”، ولهذا كان انهيارا سريعا للثقافة في سوريا، مع أن المشروع الثقافي السياسي كان أول ما بدأ في مرحلة ما بعد الاستقلال.

كان هناك مشروع وطني ثقافي ديمقراطي. الآن حدث ما حدث، والسوريون يقولون لقد وقع ما كان يعتبر معجزة، وهو الخوف الذي تصدع..، فوبيا شعبية انهارت..، سقط الرعب.

قبل أربعة أشهر ونيف لم يكن الناس يصدقون أنهم يتكلمون لأنه خلال أربعين سنة نشأ نمط من الثقافة أطلقتُ عليه “ثقافة اليومي”. فتحت الدائرة الآن، وبعد سقوط بغداد كتبت بيانا ثقافيا سياسيا ووزعته بيدي عنوانه “سارعوا الخطى وابدؤوا أنتم بفتح الدائرة قبل أن يفتحها الأغيار”..، الآن يعيش الشعب السوري هذا. هذه مقدمة لحدث هائل هو الاستقلال الجديد ولن يفرط فيه.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى