صفحات سورية

العاصمة العالمية للضحك: حمص مدينة الموت والحياة

 جورج كدر

قبل عام ونصف أطلقت حملة ‘لإعلان حمص عاصمة عالمية للضحك’، حقيقة الحملة لاقت صدا إعلاميا وتفاعلا منقطع النظير، كنت على الدوام أومن أن مدينة تمتلك إرادة الحياة فإنها حكما تمتلك إرادة الموت، وعندما يمتلك شعب إرادة الموت وتبقى سلطته عاجزة عن استيعاب هذه الإرادة فإن دروس التاريخ تعلمنا أن هذا الشعب سيحقق وعد الحياة ويصنع مستقبله، تماما كحبة القمح التي يهدينا موتها بيدراً.

أقسم أن الشهيد يبتسم اليوم تختلط إرادة الموت والحياة على تراب هذه المدينة العظيمة، نجد حمص المضرجة بالدم والألم ترسم ابتسامة على

فمها لتقول: الحياة جميلة كالموت. هذه الفكرة كانت تجول بخاطري عندما كنت أرى ثوار المدينة يتبادلون على هواتفهم الخليوية صورة الشهيد ويراهنون بعضهم البعض على أن الشهيد يبتسم وهو في طريقه إلى جنة ربه، يتأملون مليا وجهه الذي خاض الألم وعذاب السجّان ورصاص البنادق والمدرعات ليؤكدوا لأقرانهم أن الشهداء يموتون وهم يرسمون ابتسامة، كان جسدي ولا يزال يقشعر كلما حضرت هذا المشهد، كنت حائرا أمامهم تعاجلني الدمعة وهم فرحون، سلمت أخيرا بأن لهم لغتهم الخاصة، لهم أفراحهم وأحزانهم، حتى ألمهم مختلف عن ألمنا، لذلك كان موتهم

مختلفا… حقيقة لكل شهيد في حمص موت أسطوري…

أسطورة حمص الآن تصنع أساطيرها، تصنع بطولاتها، آخر ما سمعته، أن أباً دُعي إلى المشفى لاستلام جثة ولده، وعندما فتح له براد الموتى لاحظ أن طفلا بالقرب من جثة ابنه المتوفى فيه بضعة أنفاس تحطم صمت الموت، امتلك الوالد المفجوع إرادة أن يدع ولده في غفوته الأخيرة ليؤكد أن صاحب الأنفاس هو ولده وليس الولد الميت، يقال: إن الوالد المفجوع أسعف الولد ليبث فيه الحياة.

لا يهم إن كانت القصة حقيقة أو أسطورة فما سينقله التاريخ عن هذه المدينة

الأسطورة سيكون حافلا أكثر من أي وقت مضى.

نُكت الموت والحياة، حمص المشغولة هذه الأيام في ‘إضرابها’ لم تنس

أن ترسم على شفاه عشاقها الابتسامة. آخر النكات التي أطلقها أهل المدينة لها علاقة بمستجدات الأحداث عندهم تقول:

إن إضراب الكرامة فشل فشلا ذريعا في حمص، لأن أهل حمص خرجوا عن بكرة أبيهم ليتأكدوا بأم أعينهم من نجاح إضرابهم.

في حادثة تحمل كل معاني الموت والحياة، دخلت مجموعة من ثوار المدينة بعد أشهر قليلة من اندلاع الاحتجاجات في المدينة وبعد انتشار الحواجز العسكرية بكثرة، إلى مقبرة الكتيب المشهورة في المدينة وارتدوا

لباس الأموات وضرجوا اثوابهم بالدم وقفزوا عند ساعات الفجر الأولى من سور المقبرة على الحاجز الأمني الكبير وهو ينادون ‘الشعب يريد إسقاط النظام’ تردد صدى هذه الحادثة في كل أرجاء المدينة.

وهناك نكتة تروى أن حارس مقبرة حمصي أراد أصدقائه أن يخيفوه، فارتدوا الأكفان وخرجوا في مظاهرة وهم يرددون ‘الأموات

يريدون إسقاط النظام’ فحمل الحمصي عصاه وطارد الأموات وأخذ بضربهم وهو يصرخ:’ع قبرك انت وياه ولك’.

أهل حمص زرعوا زيتون فلسطينقال أهل السيرة فيما روى ياقوت إن: حمص بلد مشهور قديم … وزيتون فلسطين من غرسهم، وقال الحميري صاحب الروض المعطار وعنه نقل

القلقشندي في صبح الأعشى: يقال إن أهل حمص أول من ابتدع الحساب في سالف الزمن، لأنهم كانوا تجارا يحتاجون إلى الحساب في أرباحهم ورؤوس أموالهم ونفقاتهم.

في النصف الثاني للقرن الرابع الميلادي، نقرأ للشاعر والجغرافي اليوناني أفينوس، وصفاً لروائع أذهلته عند زيارته حمص، يقول: ‘من الجهة التي تخرج نيران النهار من مهدها، ترفع حمص رأسها المجلل بالضياء. أما جوانبها فتمتد بعيداً على الأرض في كل اتجاه، بينما ترتفع أبنيتها حتى تلامس عنان السماء. ويبدي سكان المدينة ذكاءهم بممارسة كل أنواع

الدراسات الجادة التي يندفع إليها شيوخها بحماسة أكبر.

في عالم الدين كانت حمص صاحبة ثاني ديانة شمسية عرفها العالم بعد الأخناتونية وفيها كان معبد إله الشمس الحمصي الذي عبده الرومان عندما حكمت أسرة باسيانوس الحمصية روما أواخر القرن الثاني وأول القرن

الثالث الميلادي، هذا المعبد الذي تحول إلى كنيسة ثم إلى جامع مشهور هو الجامع الكبير كما تقول بعض الروايات. في حمص أيضا كنيسة أم الزنار وفيها الزنار الذي كانت ترتديه العذراء مريم أم السيد المسيح.

ويقول ياقوت ان في حمص مزارات ومشاهد كثيرة منها مشهد للإمام علي بن أبي طالب، فيه عمود يقال إن عليه موضوع إصبعه وفيها دار خالد بن الوليد وقبره، ومسجده شهير معروف. وفي حمص قبور لعشرات الصحابة والأولياء.

كعبة القصف

أما الوجه الآخر لهذه المدينة فهو حافل بطيبات هذه الدنيا، خمرها إلى اليوم من أشهر الخمور وخضرتها كذلك، فهي ‘كعبة القصف/اللهو’ كما يصفها شعر أورده الأبشيهي في مستطرفه:

مدينة حمص كعبة القصف أصبحت يطوف بها الداني ويسعى لها القاصي بها روضـــــــــة من حسنها تعلق في أكنــــــــــاف أذيالها العاصي. ويروي ياقوت الحموي في معجمه حادثة عن أبي نواس أشهر ماجني العصر العباسي أنه لما انصرف من مصر، طالبا لقاء ديك الجن الشاعر الحمصي الشهير وأستاذ أبي تمام ـ اجتاز النواسي حمص ‘ فرأى كثرة خماريها وشهرة الشراب بها وترك كتمان الشاربين لها شربها فأعجبه ذلك فأقام بها مدة مغتبطا ومصطبحا، وكان بها خمار يهودي يقال له: لاوي، فقال لأبي نواس: كيف رأيت مدينتنا هذه، وحالنا فيها، فقال له: حدثنا جماعة من رواتنا أن هذه هي الأرض المقدسة التي كتبها الله تعالى لبني إسرائيل، فقال له الخمار: أيما أفضل عندك هذه الأرض أم قطربل؟ فقال: لولا صفاء شراب قطربل، وركوبها كاهل دجلة ما كانت إلا بمنزلة حانة من حاناتها.

يقول ابن الفقيه الهمذاني [318 هجري] في كتاب البلدان: إن ‘مدائن الجنة أربعة: حمص، ودمشق، وبيت جبرين، وظفار اليمن’.

الجنوناستراتيجية عسكرية حمص المدينة التي كانت العصيّة كحال عاصيها، يحدثنا التاريخ فيما يحدثنا عنها أنه عندما قدم إليها تيمورلنك حاملا معه الموت القادم إلى الشرق، واجهته المدينة بكل ما أوتيت من حياة، تخيلوا مدينة خرج أهلها يدعون الجنون ويضربون على الطناجر والطبول، يرتدون ثيابهم بطريقة عجيبة ويأتون العجائب من الحركات ليفهم عدوهم أن بهم لوثة، بالتوازي مع ذلك بث أهل حمص إشاعة أن مياه هذه المدينة تصيب من يشربها باللوثة والجنون، لم يصدق تيمورلنك هذه الأمر فأرسل عسسه ومخبريه ليراقبوا تحركات أهلها عن كثب، عاد عسسه ليؤكدوا الإشاعة، وكانت حمص هي المدينة الوحيدة التي نجت من بطش هذا الطاغية الذي زرع الدمار والموت أينما حل تماما كأسلافه من التتار.

ما فعله أهل حمص بتيمورلنك ليس حكاية تروى لتبرير مقولة إن لأهل حمص يوما في الأسبوع يحتلفون فيه بجنونهم وهو يوم الأربعاء، بل على العكس تماما نحن أمام خطة عسكرية محكمة لم ينفذها جيش مدرب وإنما أهل مدينة بأكملها، هي خطة عسكرية تستحق أن تدرس في كتب العلوم العسكرية، وليس كرواية ترد في كتب الطرائف فحسب.

حمص

مقبرة العقارب والحيات

قدر حمص أن تكون ‘عاصمة الموت’ و’عاصمة الحياة’، قال ياقوت ذات تاريخ من أخذ من طين أرض حمص لن يلدغه عقرب ومن لدغه ومزج طينها بالماء يبرأ لوقته.

ويقول صاحب الروض المعطار في خبر الأقطار: حمص مطلسمة لا تدخلها حية ولا عقرب ومتى أدخلت على باب المدينة هلكت على الحال.

حمص سليلة المدن العظيمة التي إن عشقت فارسها منحته موتا أسطوريا يليق به لتخلد ذكره أبدا..

ستداوي هذه المدينة جراحها وستدفن شهداءها كما يليق بموتهم ثم ستنبعث عابقة بالحياة، فهي المدينة التي سكنها ذات تاريخ أبو الطب/حكيم اليونان الشهير أبقراط.

هذا هو السر الذي يجعل من حمص ‘عاصمة للثورة السورية’ و’عاصمة الضحك العالمية’.

*كاتب وإعلامي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى