صفحات سوريةغازي دحمان

العالم متفرجاً على “المحرقة” السورية


دمشق ـ غازي دحمان

بقدر ما تحمل الحالة السورية قدراً هائلاً من الدراما، فهي تتضمن جانبا كوميديا يسمح بمقدار من الرفاهية، حتى وإن كانت سوداء وبنكهة مرة، ذلك أن كل الدماء السورية التي نزفت منذ انطلاق ثورة الحرية والكرامة، منذ تسع عشرة شهراً، لم تكن كافية بنظر صنّاع السياسات العالمية، وبالأخص أولئك الذين يدعون الدفاع عن حقوق البشر ويربطون شرعية وجود دولهم بارتباطها بهذه القيم… إلا إذا تم استخدام الأسلحة الكيماوية في إراقتها !

هذا الشرط ( استعمال الكيماوي)، يستبطن بداخله شبهة إنحراف أخلاقية فاضحة، وكأن العالم يسعى إلى تجديد عدته القيمية وينتظر الحدث السوري ليقبل على ذلك، ثمة شيئ في روح العالم بات بحاجة إلى إعادة تشغيل وصيانة ليصار إلى إطلاقه بما يتوافق والتقدم التكنولوجي والتقني الهائل، الذي ساهم في زيادة التخلف القيمي، فهذا العالم الذي مرت مآسي رواندا ولم تتح له لحظة متابعة تفاصيلها، ذلك أن “الإخوة” الروانديين أنجزوا مهمتهم( مذبحتهم) على عجل، وقبل أن تلتقط كاميرات العالم هذا الحدث، ولم ينتشِ بالحد الكافي من مجزرة الكوسوفيين، يريد أن يجدد شباب روحه بالفيلم السوري الطويل، وهو لن يقبل بغير الكيماوي خاتمة منطقية وطبيعية.

يتضح ذلك جلياً من خلال تواطؤ العالم الغريب والمريب تجاه الحدث السوري، فرغم كل الأهوال التي تقع على الأرض السورية وكل ما يجري من عمليات ذبح منظمة وتهجير غير مسبوق، لم تشهد عاصمة، لا غربية ولا شرقية، تظاهرة إحتجاج واحدة، ولا أي تعبير من عائلة التعبيرات الاحتجاجية والتضامنية، لدعم الشعب السوري، حتى المحاولات الفردية لفنانين أو ناشطين ومثقفين، وأحزاب خضراء، أو جمعيات رفق بالحيوان، لم يتم ملاحظتها على هامش المذبحة السورية الكبرى.

ولعل ما يدرج هذا الأمر في خانة الكوميديا، السوداء وغير المضيئة، ذلك النمط الأبله في التعاطي العقلي والوجداني على السواء، مع حيثيات المرحلة السورية الدامية، ففي حين يدفع العقل السياسي، بإفتقاده للمبادرة والحس المسؤول، الأمور في سورية صوب المذبحة الكبرى، عبر تسهيله الممرات اللازمة لعبورها وإغلاق كل الطرق التي تؤدي إلى نجاة الشعب السوري، سواء من خلال حالة المناكفة السياسية الدائرة على هامش المذبحة، وتواضع العالم على هذا النمط السياسي في إدارة الحدث، أو من خلال تأمين هامش زمني للنظام ومساحة عجز هائلة، تتيح أمامه كل خيارات القتل والإستباحة التي يستطيع إنجازها، نجد أن الوجدان العالمي متبلد ومنكفئ لدرجة يغري معها صانع القرار بالاكتفاء بالترقب والانتظار.

غير أن ثمة ما في الموقف العالمي أيضاً ما يثير الضحك( الأسود)، وهو عملية حساب تكاليف إنقاذ الشعب السوري من المحرقة الكيماوية المنتظرة، وقد تم التعبير عنها تصريحاً وتلميحاً في أحاديث وتسريبات الدبلوماسية الغربية، وذلك من خلال الحديث عن الأزمة الإقتصادية التي تمر بها الدول الغربية، وبخل الدول العربية النفطية، وكذا القول بإختلاف الحالة الليبية التي كلفت بحدود مئة وخمسين مليار دفعتها ليبيا الجديدة( مع البقشيش)، والملاحظ في هذا الأمر تعمد الغرب التأكيد على أن الحالة السورية مختلفة كثيراً عن الحالة الليبية على اعتبار أن مواجهة القوى العسكرية السورية تتطلب كلفة أكبر، في حين أننا نتذكر أن الطائرات الإسرائيلية كانت كلما أرادت التنزه تلجأ إلى الأجواء السورية، وكان جنرالات إسرائيل يتحدثون عن حرب ساعات لإسقاط نظام الأسد، الذي كان يصمت، أو في أحسن الأحوال يحيل الرد إلى مكان وزمان لن يأتيا أبداً.

بانتظار أن يتحقق العصف الكيماوي، على أجساد السوريين، وفي عقل وضمير العالم، ستفيض سورية موتاً كثيراً، ونزوحاً وتشرداً، حتى بتنا نعتقد أن العالم لا يفعل سوى الوقوف على بوابات سورية لإحصاء النازحين منها، لا لشيئ إلا اللهم الشفقة على دول الجوار من هذا الكم الوافد والضاغط على موارد هذه الدول وإمكانياتها، وكأن العالم يستكثر على السوريين النجاة بأرواحهم ويتمنى لو يأتي صباح لا يجد فيه سوريين يطلبون منه مساعدتهم.

لقد وضع العالم للسوريين شرطاً تعجيزياً لإنقاذهم ونجدتهم من براثن العصابة الحاكمة، وهو أنه يتوجب عليهم أولاً أن يموتوا بالكيماوي وأن يعيشوا تفاصيل المحرقة الكيماوية، ويراها العالم وربما يعد جثثهم ويقلبها ويتفحصها فرادى أو جماعات، إذ أن الأمر قد يحمل تضليلاً يمارسه الشعب السوري، وقد يكون الموت إستنسابياً، بمعنى موت بالبراميل أو بالصواريخ ومدافع الدبابات، فهذا موت مخالف للشرط الكيماوي، عندها وعندها فقط يمكن الحديث عن تدخل ضد النظام، لكن السؤال هنا هل سيجد العالم حينها سوريين يحتاجون للإنقاذ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى