خليل النعيميصفحات الثقافة

العالَم موجود لنـَكْتُبَه


خليل النعيمي

جوهر الكتابة هو التعبير الشخصي عن أحوال الكائن والكون. لكن التعبير لا يكون معبِّراً، دائماً. لأن الكتابة سديم، رُكام، تراكم. تحتوي ما يستحق، وما لا يستحق. وهي من هذه الناحية تحتاج إلى عملية فَرْز موهوب من أجل النفاذ إلى غايتها. وهذه العملية لا يقوم بها الكاتب، فحسب، وإنما القاريء، أيضاً. ولكن أي قارىء لديه الصَبْر والقُدْرة، على فعل ذلك (إذا أسقطنا من حسابنا الكاتب ــ القارىء لما يكتبه)؟ ومَنْ هو القاريء الذي يستطيع، أو يجرؤ، أو يرغب، في أن يضع النص الروائيّ، أو بعضَه على الأقل، موضعَ شكّ، وإلْغاء؟

لا حدود لطاقة الكاتب على الإبداع والتخَيّل، ولا قيود عليها. وأنا أتصوّر أن القارىء يتمتّع بنفس الإمكانيات. والرأي المألوف حول خُمول القاريء العربي، وإمكانياته الإدراكية والمعرفية الضئيلة، لا سند له، ولا قيمة. إنه نوع من هروب الكُتّاب إلى الأمام، كما يُقال، من أجل ألاّ يكلِّفوا أنفسهم عناء كتابة نص جدير بالقراءة العميقة. فالقراءة، مثل أي نشاط إنسانيّ آخر، يمكن أن تكون سطحية، أو بسيطة، أو معقدة، أوعميقة. القراءة هي كتابة من نوع آخر. ويخطيء مَنْ يعتقد أنها غير ذلك. وهو ما يدفعني لأن أقول: إنْ لم تعشْ حياة جديرة بالكتابة، فاكتبْ نصاً جديراً بالقراءة. وسيبدو الإعتراض السريع على هذا القول مقبولاً، بسبب خلل الصيغة الموجود في بنيته. ولكن، لا تنسوا أن المخيلة الإبداعية لا ضفافَ لطموحاتها.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن العمل المكتوبَ مقروءاً لا حدود لشروحاته، ولا قيود على تفاسيره. المخيلة القارِئة، وحدها، تكتشف إذا استطاعت، أو تبتدع إذا شاءت، أبعاده المستترة، أوتنشىء له أبعاداً أخرى جديدة. وهي تفعل ذلك، حتى عندما تعجز عن إدراكه، أوتستاء منه، وتهمله ‘لأن عدمَ الفهم فهم آخر’ (من رواية: لو وضعتم الشمس بين يدي). فلا يعادل طاقة كاتب مبدع، إلاّ مخيّلةُ قارىء أكثر إبداعاً.

‘الحكاية فن الكذب’ (من رواية: لو وضعتم الشمس بين يدي). ولكن ما هي الحقيقة في هذه الحال؟ هل هي الوضع الذي عرفناه، ولم يعد موجوداً، ونحن نكتبه؟ أم هي الحال النفسية، أو المفهومات الأخلاقية، أو التي كانت كذلك من قبل؟ أم هي كلُّ هذا الخليط الذي لا ماهية فعلية له، سوى اعتبارنا الذاتي المحض الذي لا يستند، هو الآخر، إلى أية حقيقة؟ و’الحقائق، كما يقول نيتشه، ليست إلا أوهاماً نسي المرء أنها كانت كذلك، ذات يوم’! هذه هي الحقيقة الوحيدة في الوجود، فلماذ نختلق لأنفسنا المثبِّطات؟

من نقطة إلى أخرى نكتشف أن جوهرَ الكتابةِ هو نفسه جوهرُ الحياة. أي أنه غير محدد، ولا محدود، حتى عندما نضع لأنفسنا حدوداً ‘حديدية’. إنه إنبثاق مريب، وعميق. لا متوقَّع، ولا يمكن السيطرة عليه. من نقطة الرؤية، هذه، نحن ننفجر عندما نكتب، مثل بركان تحت ضغط عنيف.

حتى المقولات الفلسفية الصريحة تغدو سرداً روائياً عندما نكتبها. لكنها لا تؤدي، بالضرورة، المغزى الذي من أجله كتبناها، ولا تعود تُحيل إلى المعنى الفلسفي القديم، نفسه، أقصد معناها المألوف. تصير، في سياق النص الروائي، شيئاً آخر. وهنا تتجلّى قدرة الكتابة الروائية على خلق مناخات فكرية جديدة، وعلى إبداع أبعاد نظرية لا حدود لها (تذكروا: رواية لعبة الكريات الزجاجية لهيرمان هسه، مثلاً). ومهما يكن الأمر، فنحن لا ندرك خفايا النص الذي نكتبه، ولا احتمالاته اللانهائية قبل أن يكتمل. وأحياناً، حتى بعد ذلك.

هَوَس الكتابة، إذن، يناقِض بعمق بلادة القراءة. ‘أشياء’ الكتابة الحميمية لا يمكن الإلمام بها بشكل متسرّع، ولا بتسطيحها بطريقة مغرضة. إنها تتطلَّب خطة قراءة جادة في تناولها، وكشف نواياها. وأياً كانت الحال، فإن إدراك روعتها (إن كان لها حظ منها) لا يقوم على المعرفة فحسب، وإنما على المتعة، أيضاً.

متعةٌ القراءة، وحدها، تبرِّر جهدَ الكتابة.

الكاتب كائن ملحميّ. لكن ملحمته، وأكاد أقول: السرية، تختلف كثيراً عن الملاحم الأسطورية المعروفة. ساحاتها تقع في نفسه. ومعاركها تدور في داخله. جيوشه الكلمات. وأسلحته الأفكار. مناصروه، ومناوِئوه، هم ‘هو’، ذاته. وهذه الــ’هو’ عديدة، ومتباينة، ولا نهائية. إنها التاريخ الإنسانيّ برمته. ملحمته، إذن، تختلف عن ملاحم الآخرين. لأن أسطورة الوجود متفَرِّدة، وليست عمومية. تحدث في أعماق الكائن. ولا خلاص له منها إلاّ بإبداعها وإعطائها بنية متماسكة. فالعالَم ليس شكلاً… فقط.

هدفُ الكاتب ليس تبيان أخطاء الآخرين، ولا التنبّؤ بما يمكن ألآّ يحدث، أو بما سيحدث عفواً لأن أسبابه اكتملتْ، وإنما تعميقُ وعيه النقدي، ومحاولةُ الوصول إلى أبعد ما يمكن في كشف أسرار الحياة. موضوع الكتابة لا يتعلّق بالخطأ والصواب، إذن، وإنما بطاقة الإبداع على سَبْر أغوارالكائن اللامحدودة. نحن لا نكتب إلاّ بدافع الرغبة في التعبير عن وجودنا المختلف عن وجودهم. ولا يهمُّنا إلاّ ما تحمله هذه الرغبة من متعة وإنسانية. وفي هذا الشأن ‘نحن لسنا موضوعيين، أبداً’ (من رواية: لو وضعتم الشمس بين يدي). ولا نخاف من الخطأ. ‘فللخطأ دوره التاريخيّ، كما للصواب… دوره’ (من رواية الخُلَعاء). ودورنا نحن هو أن نضع كل طاقتنا الإبداعية في خدمة الإنسانية.

الكتابة كالحياة فيها شيء كثير من الطفولة. لكن ‘طُفولة الشيء، تناقض وعي الحياة’. وإلى هذه العتَبَة، من عَتَبَات ‘الوعي المتنامي’، يبدأ الكاتب الموهوب بالإنحياز تدريجياً. وإذا بدَتْ كتابته عفوية، فهي عفوية مُفَكَّر بها، وإلاّ صارت تقليداً مبتذلاً. ولا ننسى أن الحياة تحشو الكائن بالتقليد منذ الطفولة. فهو، في البدء، يتعلَّم بتقليده للآخرين. وفيما بعد، لا مجال لحساب الجهد العملاق الذي تقتضيه منه عملية التخلّص مما تعلَّمه تقليدياً. وقد يستمر طيلة حياته كذلك، أقصد مقلِّداً للآخرين، إنْ لَم ‘يحقق ثورته الشخصية’.

الكتابة ليستْ مُلْكَ الكاتب الذي ينجزها. إنها مُلّكُ اللغة التي تُكْتَبُ بها. واللغة ليست أحرفاً وكلمات، إنها حضارة. وهو مايشير إلى موقع الكتابة المميز في الوجود. ويتطلَّب، بالتالي، من الكاتب كَنْسَ كل ما تعلَّمه عندما يكتب، وتأسيسَ فضاء ثقافيّ شخصيّ له يدلّ عليه منذ أول سطر نقرؤه. فالكاتب المبدع هو التاريخ وقد تجسَّد في كلمات.

نعيش شيئاً، ونكتب شيئاً آخر. وما نكتبه لا يخصنا أكثر مما يخصنا الهواء الذي نستنشقه. يتصور الكاتب خطأ أن كتابته تحكي عنه. لكن الكتابة تحكي عن أحد آخر. عن أحد لا يعرفه الكاتب إلاّ من خلال الوصف. إنه كائن مختلف عنه، ومختلق في بنيته، ولا يعني شيئاً لأحد سوى للقاريء النبيه.

أحياناً، أسأل نفسي: لماذا لا أعرف كيف أحكي؟ والجواب يبدو بسيطاً: أنا كاتب، ولستُ حَكّاءً. ومن هذه الزواية: الكتابة تخصيص لا تعميم. أُكتُبْ عن نفسكَ، ثم أكتب عنها من جديد، قد تصل، ذات يوم، إلى العتبة الأساسية من عتبات الوجود، تلك التي تنكشف لك فيها أهواؤك العظمى. وتَتَبَدّى لكَ مرائي نفسك في حقيقتها المخيفة. لاشيء في الوجود يعادل الكتابة، حتى الحياة التي نكتب عنها.

الكتابة ليست مجرد لغة، وليست واقعاً، أيضاً. ولا تعكس، بالضرورة المفاهيم التي تتخللها، ولا الواقع الذي تحاول التعبير عنه. ‘الواقع الحقيقي’ للأوضاع والأحداث مختلف تماماً عن و’اقع الكتابة اللغويّ’. ومع أن الكتابة إنتاج لهذا الواقع، إلاّ أنها ليست مرآة صادقة له. ومن هذه النقطة، بالذات، تبنع أهمية ُ الكتابة، وخطورتُها، وقدرتُها على التغيير.

يلزمنا الكثير كي نتعلَّم ‘فنّ الكتابة’. المعرفة شيء، والكتابة شيء آخر. وهو ما يثير، في الواقع، مسألة القراءة وأهميتها. حتى أنني صرتُ أتمنى لو كنتُ قارئاً، فقط. ولكن، هل يقرأ مَنْ لا يكتب؟ وإنْ قرأ، وهو الأمر الغالب، هل سيدرك طاقة الكلمات على تغيير العالَم؟

الكتابة نشاط إنسانيّ مادته الحياة. ولذلك فهي لا قواعد لها، ولا تتحَمَّل القيود. إنها كَشْف مستمر. وهي لا تستوي لا باللعب، ولا بالتجريد. لأن التجريد الذي لا يتضمّن واقعاً لا قيمة إبداعية له. وبين هذه وتلك، نحن بحاجة إلى برهة، إلى وقت، إلى تأمُّل من أجل أن نصل إلى الأساسيّ في حياتنا. والكتابة، بطبيعتها، تمنحنا هذا الإحساس بالتأمُّل البطىء الذي ينضج مشاعرنا، ويجعلنا نتنَفَّسُ بهدوء بدل اللهاث اللامجدي الذي يسيطر على حياتنا اليومية.

لا يجوز أن يتنازل الكاتب عن وعيه الأقصى، عندما يكتب، بحجة أن القاريء ‘العادي’ قد لا يدرك، أو لا يفهم، أو لا يتفاعل، مع كتابته. فكما أننا نرفض مفهوم الكاتب العاديّ، كذلك نرفض مفهوم القارىء العاديّ، أيضاً، وبالخصوص عندما يكون وجوده افتراضيّاً. القاريء الحقيقي (مثل كاتب حقيقي) يفهم دائماً ما يقرأ، حتى عندما لا يفهمه ‘بشكل مباشر’. للفهم، كما للجهل، عَتَبات. و’النص الصعب’ هو الذي يطرح على قارئه أسئلة لم يكن يتوقعها. وبالتالي يحرِّضه على ‘ملاحقة’ هذه الأسئلة، حتى ولو لَمْ يكنْ مضطراً للإجابة عنها، أمام أحد آخر. لأنه سيكون مدفوعاً، فيما بعد، للإجابة عليها إزاء نفسه، مهما حاول التلاعب والمراغة. وهي العتبة الأولى من عتبات التحوُّل عنده.

في الكتابة الحقيقية (اللا مساوِمَة) يكون الكائن وفيّاً لنفسه، أقصد للغته. والكاتب الأصيل لا يتنازل، لا لأحد، ولا لشيء عندما يكتب. أما ‘الكَتَبَة’، حسب مفهوم ‘جيلْ دولوزْ’ (الفيلسوف الفرنسي المتميّز) فهم، كما يقول: ‘المستعمِرون للكتابة، أو المستعمِلون لها، بغرض الشهرة، أو المال، أو الفائدة، أو….’. وهم، من هذا المنظور، خارج نطاق اهتمامنا.

في الكتابة، أي شيء، أو أي أمر، يمكن أن نجعل منه مأساة، أو نحوَِّله إلى مهزلة، بما في ذلك ‘ تاريخنا الشخصيّ’. وهنا تتجلّى خطورة ‘الخطاب الروائيّ’. فالكتابة، والرواية مثلاً، ‘كائن لغويّ’ بالمعنى الإيجابي للكلمة، ومن منظور نقديّ عميق لها، أيضاً. و’لغة المرء، كما يقول ‘كلود هَجَّيجْ’، عالم اللغات الشهير، هي تصوُّره الشخصيّ للعالَم. هي تاريخه، وتطلُّعاته. هي هو’. ومع ذلك فالكاتب شيء، والكتابة شيء آخر (كما ذكر من قبل، ولا بأس أن نذكره من جديد). وهو ما يدعو الكاتب لكي يضع جهده الأكبر في كتابته لتقترب أكثر ما يمكن منه، من حقيقة أحواله وأفكاره. فالحياة التي لا تُكْتَب لا تعاش.

‘المخيلة النقدية’ هي التي تقتضي خروج الكاتب، والروائي بالدرجة الأولى، من قوقعة النسق المعرفي المألوف. وتدفعه، بالتالي،إلى تجاوز تعاطفه الساذج واللامشروط مع تقاليد محيطه. حجة الإنتساب ‘الجينيّ’ إلى هذا المجتمع، أو هذا المحيط، لا تعود تكفي لتبرير إنضوائه، ولا استيعابه من قبل مؤسسات مجتمعه ذات التأثير الصارخ على الفرد، وبخاصة ذاك الذي لم يَعِ دوره التاريخيّ، بعد . فالكاتب، والروائي أولاً، منشقّ بوعي عن الآخرين. وأكاد أقول إنه منشقّ بلا تنازلات عن مجتمعه، ولكن من أجل تحسينه، لا من أجل تدجينه. إنه كائن كونيّ، لكن مجال عمله هو محيطه الخاص. إنه يكتب بوعيه الكوني عما يعيشه. وهو نقيض الكاتب المدجَّن، أو المستوعَب، الذي يكتب، أو يتنَطَّح بالأحرى لمشاكل الكون الذي لم يَعِشْها، بوعيه الساذج، وفكره البسيط.

نزع القدسيّة عن المبتذل، والتافه، والعاديّ، من الأمور، يغدو، في هذه الحال، إحدى مهمات الرواية العربية المعاصرة. وبعبار أُخرى، نزع القدسية عن اللامقدس الذي احتَلَّ، عمليّاً، مكان ‘المقدَّسات الأساسية’ في الثقافة، وفي الحياةالعربية، والْتَهَمَ، بتَمَدُّده هذا، طاقتنا على الإبداع والتغيير، هو المعْنيّ بالجهد الروائي الكاسح للسكون. فهذا’المبتذل’ الذي سادَ بحكم التقاليد والبلادة، صار، اليوم، يجثم على عقولنا (فالروائي لا قلب له) مثل تَلّ من التراب. يمنعنا من أن نعيش حياتنا كما نحب، بعد أن دمَّر طزاجة الوجود.

وفي النهاية، أحس أن هذه التأمّلات السريعة حول الكتابة تبعدني عن كل شيء. عن الواقع، وعن الإبداع، وعن نفسي. ولكن لا بد منها.

محاضرة في النادي الثقافي بمسقط،بدعوة من جمعية الكتاب والأدباء في عُمان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى