رشا عمرانصفحات الثقافة

العبارة الذهبية/ رشا عمران

 

 

من إحدى عاداتي الأخيرة، أن أذهب أحيانا إلى محلات تصميم الحلي المشغولة بحرفية وفنية عالية. الأمر لي يشبه الذهاب إلى معارض الفن التشكيلي، ثمّة جرعةٌ عاليةٌ من الطاقة الإيجابية تصل إليّ من التأمل في العمل الفني الجميل. ولكي لا يخطر لأحدكم أنني أمتلك ثروةً ما، فأنا أذهب للمشاهدة والتأمل، وأعود أدراجي خاوية اليدين ممتلئة الخيال، إذ تساعدني رؤية الأعمال الفنية الجميلة على الكتابة، وتدخلني في أحلام يقظةٍ طالما استغرقت ساعات بها.

قبل أيام، كنت في فرعٍ لمحل مصوغات فضية وذهبية، تملكه مصمّمة مصرية بديعة. لفت نظري عقد ذهبي طويل، ينتهي بعبارة مشغولة بطريقة فنية مذهلة، على طريقة خط الثلث، وبقدر ما لفتتني طريقة صياغة العقد، لفتني أيضا معنى العبارة المستخدمة: “الغنى هو الاستغناء”، وهي عبارةٌ أظنها من العبارات الصوفية التي تم اكتشافها أخيرا، وتناقلها واستخدامها، في المشغولات اليدوية، على غرار باقي الجمل الصوفية، التي ينبهر بها الغرب، بوصفها صورة عن الشرق الذي يعرفونه من لوحات المستشرقين وكتاباتهم.

سألت عن سعر العقد، نوعا من الفضول: أربعة آلاف ومئتا دولار! طبعا، لا علاقة لهذا السعر بقيمة الذهب المستخدم، ولا بالحرفية، هذا سعر الاسم المدموغ على حواف الذهب المستخدم، فالاسم أصبح “سينييه” مثل أي اسم عالمي في هذا المجال. فكرت بمعنى الجملة الذهبية، وبالسعر المطلوب لها، وبحالتي وأنا أرى وأسمع وأفكر: أنا معجبة جدا بالعقد، وأتمنى اقتناءه، طبعا لا أستطيع اقتناءه، لأنني لا أملك هذا المبلغ، ولا في حتى في الأحلام. لهذا سأستغني عن رغبتي في اقتنائه، وأذهب في حال سبيلي، وسأصبح غنيةً لأنني استغنيت عن شيءٍ رغبت فيه، ولم أستطع امتلاكه! سأصبح غنيةً، لأنني لم أنفق مبلغا خياليا ليس متوفرا معي أصلا، مفارقة مدهشة حقا.

العبارة، بعيدا عن بعدها الصوفي، يمكن إحالتها إلى كل شيء في حياتنا، هي بمعنى ما تعني الاستغناء عن الرغبات كلها، الرغبات التي نشعر بالضعف حيالها، والتي يمكن أن تجعلنا نفقد بعض كرامتنا، والكثير من ذواتنا في سبيل تحقيقها! يمكننا الاستغناء فعلا عن كثير من رغباتنا، حين نكون ممتلئين بما يعوّضها. سنستغني عن الحب، حين نشعر أننا مكتفون بذواتنا. سنستغني عن الأصدقاء، حين نكون أيضا مكتفين بذواتنا. سنستغني عن السفر، حين نكون قد رأينا الكثير، وامتلأت أرواحنا ومخيلاتنا بما رأيناه سابقا. سنستغني عن شراء الملابس الجديدة، والمجوهرات والحاجيات الشخصية، حين تكون خزائننا ممتلئةً بها. سنستغني عن شراء الكتب، حين يكون لدينا مزيدٌ منها لم نقرأه بعد. الاستغناء هو الغنى فعلا، شرط أن تكون غنيا بما يكفي لتستغني، غنيا نفسيا وروحيا وماديا.

تخيلوا مثلا أن تقال جملة كهذه لجائع لا يملك ثمن طعامه أو طعام أبنائه. لمنفيٍّ عليه أن يستغني عن فكرة الوطن. لمشرّد معدم بأسمال بالية، يراقب محلات الألبسة من بعيد. لشاب يسرق الكتب من المكتبات، ليقرأها وهو لا يملك ثمن ورقة واحدة. لامرأة وحيدة لم تحظ بحب رجل طوال حياتها، ولم يلمس جسدها رجل. للاجئ أرسلوه إلى قرية نائية في ريف أوروبي بارد، وليس حوله من يقول له صباح الخير. لامرأة لم يمنحها الله أطفالا، وتكاد تخنق النادمين على الخلفة الكثيرة. لفتاة تتخيل أنها أليس تجول في بلاد العجائب، وهي تجلس على بساط فقير، ولا تملك ثمن تذكرة باص نقل داخلي.

قد تقولون هذه احتياجات، وليست رغبات يمكن الاستغناء عنها. ولكن، متى كانت الرغبات ترفا مجردا؟ الرغبات مصدرها الاحتياج، حتى لو كان احتياجنا لشيء ما ناجما عن مشكلة نفسية. علينا أن نكون أصحاء نفسيين، لكي نفرق بين احتياجنا الحقيقي واحتياجنا المرضي. الصحة النفسية هي غنى أيضا لمن هم مثلنا.

ليس مستغربا أن يكون ثمن عبارة ذهبية كهذه باهظا إلى هذا الحد، فهي مصوغة للمترفين الذين يمكنهم الحصول على كل شيء، والاستغناء عنه في الوقت نفسه، أما الآخرون، فهم يتأملونها في واجهات المحلات، أو على صفحات “فيسبوك”، ويهزّون رؤوسهم، وهم يديرون ظهورهم لها، ويمضون.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى