صفحات العالم

العجز أمام المخاض العربي العسير


سليمان تقي الدين

لا تزال الأوضاع في لبنان مشدودة إلى التوقيت السوري، لكن الوضع السوري نفسه صار مرتبطاً أيضاً بمسار خارجي يتصل بالوضع العراقي وبالنظام الإقليمي الذي سينشأ عن الصراع الدولي . المنطقة كلها الآن في انتظار جلاء التوازنات لكي يبادر جميع الأطراف إلى شكل من التفاهمات على مستقبلها .

حصل متغيّر فعلي في العراق لجهة موقعه الإقليمي ولجهة مكون السلطة فيه، وحصل في لبنان أيضاً هذا المتغيّر من دون أن يكون ذلك أمراً ثابتاً أو محسوماً وغير قابل للنزاع، وما يحصل في سوريا هو أحد تداعيات هذه التحولات المشرقية .

في الحصيلة الراهنة الدول الثلاث: لبنان والعراق وسوريا، هي قيد إعادة تكوين سلطاتها، فإما أن يتم ذلك على شيء من التوازن داخلها، وإما في ما بينها، وإما أن الصراع سيأخذ أبعاداً أكبر . في الوضع العربي الراهن ليس هناك من تسليم لدور إيران كما تجلّى في السنوات العشر الماضية من لبنان إلى العراق . التركيز على الواقع السوري الآن يبدو وكأنه جدار الفصل والوصل، فقد تم تجويف الوضع السوري من دون أن يتم ملء الفراغ حتى الآن، وبدأت الأزمة العراقية إلى تصاعد بحيث يصبح استقرار هذه البلدان رهناً بتفاهمات كبرى، ولبنان جرى تحييده أمنياً حتى الآن، لأنه ليس الطرف الأساسي وهو حاجة لجميع الأطراف، وما يتشكل في الإقليم ينعكس عليه مباشرة، لكن القوى اللبنانية تتهيأ لهذه التطورات ولن تقبل بسهولة هذا أو ذاك من رجحان الطرف الإقليمي . أدت المبادرة العربية في سوريا بغطاء دولي إلى إعطاء فسحة جديدة من التفاوض، لكن لا يدل ذلك على التسوية بعد، أو الحل، أو إمكان استعادة الاستقرار . هذه الفرصة لا يبدو أنها تستثمر جيداً من أجل حل سياسي، فالوقت الضائع يؤدي إلى استنزاف جميع الفرقاء .

بعد أن استطاع لبنان الحفاظ على سياسة الحياد الرسمي واستيعاب الضغوط المتقابلة، تزداد احتمالات تورطه في الصراع الأمني، وما يُحكى عن خطوط عبور على الحدود قد يتحول إلى تداخل في الأزمة في ضوء اتساعها وتطورها . المشكلة أن الحكومة المركزية ليست هي الطرف الممسك بمقاليد الأمن كاملاً، ولا هي موحدة الاتجاهات، ولا هي محل إجماع لبناني . قد لا تكون الأحداث السورية هي التي ستعيد تحريك النزاع اللبناني، لكن اللبنانيين لديهم من الملفات والقضايا الداخلية الخلافية المعلقة ما يكفي لفرط الاستقرار .

لم يستجب الفرقاء اللبنانيون إلى دعوة الحوار الوطني مجدداً فهم لا يريدون أن يفصلوا الواقع اللبناني عن الواقع الإقليمي، ومازالت الرهانات اللبنانية كبيرة على الخارج من كل الأطراف . تتوقف مسيرة الدولة حتى في كثير من الشؤون الحياتية اليومية على أن يتم جلاء الصورة في الخارج، يخوض اللبنانيون في نقاش قانون الانتخاب بوصفه أداة من أدوات التوازنات الخارجية وليس بوصفه أداة تمثيل حقيقي وصحيح يعيد تكوين السلطة بموافقة سائر اللبنانيين .

من المعروف أن خطوط التوتر والحساسيات السياسية والمذهبية قد اتسعت كثيراً . تقع حوادث فردية كل يوم وتؤدي إلى حالة احتقان حتى لو جرت معالجتها . ينقسم البلد إلى مربعات سياسية مذهبية أمنية . شعار نزع السلاح من العاصمة وضواحيها لا يلقى أي صدى، هذا الشعار له وظيفة سياسية لمصلحة فريق ولا يطرح من زاوية التصدي لظاهرة التسلّح العام في كل المناطق . السلاح يمكن الحصول عليه وإيجاده عندما تقع الأزمة السياسية . العلاج الفعلي هو في الحوار على بناء الدولة وتكوين السلطة ووقف سياسات الغلبة والهيمنة . هناك ما يشبه العقم لدى الطبقة السياسية لمعالجة هذه الأمور، ينبع هذا العقم من طبيعة القوى المسيطرة على طوائفها، فلا تتخلّى هذه القوى عن امتيازاتها الراهنة لمصلحة مشروع الدولة . وهناك أربعة تيارات سياسية طائفية تسيطر على الحياة الوطنية وتبحث عن تحالفات تعطيها إمكانية الغلبة، وكل ما عدا ذلك صار تفصيلاً صغيراً في المشهد العام، هناك هواجس وقضايا باتت مشتركة في لبنان وسوريا والعراق .

يصعب إقناع الجماعات بأن مصيرها غير مهدد من التحولات الجارية من حولها، صارت الهواجس مطروحة بلغة واضحة، وباتت الحلول من النوع المرتبط بفكرة العقد الاجتماعي الجديد، ولا يخفى على أحد طبيعة ومصادر قوة كل طرف من سلاح ومال ودعم خارجي ومن استقواء ببعض الجغرافيا .

إيقاظ الهويات الفئوية على هذا النحو لا يسمح بطرح حلول مبسّطة، فلا شرعية اليوم لفكرة الدولة ولا لمؤسساتها ولا قواها الأمنية ما لم يتم تحقيق المشاركة للأجسام السياسية الطائفية . ولا يغطي هذه الحقيقة أي شعار مهما كان شمولياً أو وطنياً، فلا يمكن معالجة المشكلات عن طريق تغيير أسمائها أو تحوير مضامينها . فهل نحن في حالة من العجز المطلق، أم نحن أمام مخاض عسير لبلورة خيارات وطنية عربية فعلاً؟!

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى