صفحات سوريةطيب تيزيني

العدالة العقلانية فوق الثأرية

طيب تيزيني

تأخذ أعمال العنف الشائن في سوريا، هذه الأيام، وتائر متسارعة، فالأعمال الوحشية من قتل وإعدام واستباحة وذبح بالسكاكين واستباحة تزمجر في سوريا، لتنتهي بمجازر من الفظاعة بحيث تُذكّر بأكثر أحداث التاريخ البشري همجية وشناعة.

وفي كثير من هذه الأحداث يشتم المراقب رائحة نتنة ينضح منها، في حالات معينة، العار والشنار بصيغة تعلن عن الطائفية وملحقاتها من تجييش للعواطف وإشعال للثأر، ونحن إذ نشير إلى ذلك، فإننا نضع أيدينا على حالة يُراد لها أن تُشعل الأخضر واليابس، وتدخل البلد في وضع من الاحتراب يأتي على كل شيء. لقد تكونت، غالباً بأفعال قصرية وفي الأشهر الأخيرة أوضاع فظيعة يُراد لها أن تأتي بنتائج مدمرة، نعني بذلك أن استخدام كل أنواع الأسلحة في تدمير القرى والبلدات والمدن، أنتج حالة مضادة في أوساط المدنيين المتضررين تتمثل في استخدام الثأر بوصفه طريقاً إلى أخذ الحق لمئات القتلى والجرحى من القتلة. ومع تعاظم ذلك ليل نهار، تتسع دائرة ذوي القتلى والجرحى والنازحين إلى الداخل والخارج والمعطوبين والأيتام إلى درجة، راح هؤلاء فيها يشكلون ظاهرة خطيرة إلى حدود قصوى.

أما وجه هذه الخطورة فيُفصح عن نفسه بصيغة «الثأر»، الناري، الذي يأكل أكباد هؤلاء حسرة وألماً على من فقدوا، ويزداد أوار النار زئيراً أن عملية الإبادة تلك تأخذ أشكالاً مرعبة في حد ذاتها: نهبُ البيوت وإعدام الرجال واستباحة النساء، وقتل الأطفال والرضع، درءاً لما يواجهه مُستبيحو النساء من إزعاجات يطلقها هؤلاء الأطفال والرضع أثناء «فعل الاستباحة»، وتقطع تيار الكهرباء بحيث لا يتمكن الناظر إلى الأشياء أن يراها والكاتب – كما هو حالُ كاتب هذه المقالة الآن – أن يتمكن من إنجازها إلا بعد عشرات مرات انقطاع التيار، وبحيث لا يستطيع إرسالها عن طريق الفاكس إلى الصحيفة الناشرة إلا بعد معركة طويلة من الجهد المضني، إذن، مع تعاظم زئير النار الثأري على ذلك لنحو، يواجه المرء والباحث دعوات هادرة إلى الثأر بقتل الرجل بالرجل والطفل بالطفل وتدمير المنزل لقاء المنزل، وفق القاعدة الشرعية التالية: العين بالعين والسن بالسن.

على ذلك الطريق، تتعالى الصيحات لتجميع الداعين إلى الثأر من القتلة وسُراّق البيوت ومُستبيحي النساء ورُماة القنابل العنقودية والسامة وغيرهم، وفي هذا السياق، يأتي التحريض على مزيد من ذلك في الداخل وأيضاً في الخارج معاً، وواحدة تلو الأخرى ولدى أطراف متعددة.

ونحن هنا نريد التشديد على أحد عناصر المشكلة المعنية هنا، والمجسدة بإشكالية العدالة والثأرية.

فها هنا نلاحظ تغليباً للعقلانية والإنسانية والوطنية على ثأرية لا تخلو من الأسباب، ولكنها تنطوي على مخاطر كبرى تمس الثورة ومصيرها، والمدافعون عن شرعية هذه الثأرية يرون أن قتل القاتل مباشرة هو عين العدالة، فهذا المبدأ صحيح في منظور مبدأ العدالة والحق، لكن ذلك إذا طُبق على واقع الحال المشخص في بلد الثورة السورية، فإنه يُظهر أنه قد يكون سبيلاً إلى إنتاج وإعادة إنتاج الموت المجاني، بل كذلك إلى تدمير مبدأ العدالة نفسه، حيث يختلط الحابل بالنابل.

أما الخطر الأعظم في فكرة ترك المظلومين يأخذون حقوقهم بأيديهم، فيقوم على أن ذلك قد يكون طريقاً معبداً لنشوء فوضى كبرى تهدد المجتمع، وتفتح طريقاً لعودة محتملة إلى رجال الموت وإبقاء النظام الذي يسعى إلى تأبيدهم.

وهذا من شأنه التأكيد على أنه من أجل تجاوز رهانات القتل والتدمير لابد، بالأساس، من التشديد على مهمات مرحلة الانتقال إلى النصر على القوى الظلامية، وفي مقدمتها الملفات الثلاثة التالية: الملف السياسي، وملف القضاء، والملف الاقتصادي على نحو يؤدي إلى حل مشكلات العمل، إن المحكمة الوطنية العادلة ستكون الإجابة عن كيفية مجابهة المظالم المتراكمة منذ خمسين عاماً.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى