صفحات الرأي

العدمية في تهذيبها ووحشيتها/ شادي لويس

 

 

“الانتصارات الصغيرة”: الأحكام القضائية المتناثرة ضد التعذيب والفساد، الإضرابات الناجحة والفاشلة أيضاً، انتزاع تعديلات تشريعية ولو رمزية، فوز أحد الرموز اليسارية بمقعد في البرلمان أو عضوية لجنة في نقابة المهنية… كانت تلك عناوين النضالات المحدودة في عهد مبارك الذي ولى، وواحدة من ممكناته الفقيرة المتاحة.

اليوم، أضحت الانتصارات الصغيرة، مادة للسخرية ومدخلاً للتندر، لم يعد هناك من يجرؤ على استخدام المصطلح على محمل الجد، أو حتي من باب المراجعة النقدية. أسقط معجم قطاع معتبر من جيل شهد الثورة وسقوطها، عمداً، مصطلحات الطموحات الدنيا، ومعها أيضاً عناوينها الكبرى, بما فيها المستحدث منها: الشعب، الأمل، النضال، الحنين، الشهيد،.. وغيرها. أغاني الشيخ أمام، فيروز، قهوة الصباح، اسكندرية الكوزموبوليتانية، التفاصيل الصغيرة، ميكروجيب السبعينات، شعر محمود درويش… كلها تم نبذها إلى هامش “المُحن”، كتعريف فضفاض لتأفف أصحابه من ابتذال الرومانتيكية ومثالياتها، ومن النوستالجيا للماضي، والحلم بيوتوبيا المستقبل. وينسحب ذلك المحو على مفردات التعبير عن الخبرة الذاتية، ومعها مقولات السياسي والعام، ليس في اللغة وحدها، بل في إمكاناتها لتوسط الواقع، أو انتاجه فردياً وجماعياً.

لا تبدو تلك النزعة العدمية، بوصفها نفياً للمثالي والجمالي والممكن، وليدة اليوم، أو منتجاً عرضياً للهزيمة الآنية، بل مرحلة متأخرة من عملية طويلة من النبذ، بدأت مع أفول الحلم الناصري. مهدت النكسة لهجر مصطلحات الإشتراكية والقومية والعروبة. وعلى مدى عهدي السادات ومبارك، لم ينتج قاموس السلطة سوى مقولات السلام والاستقرار، الهزيلة والسلبية في جوهرها، واكتفت المعارضة بتدوير شعارات سلطة يوليو مع مقولات الإسلام السياسي. ومع هذا لم تعدم الفورة الثورية في الأعوام الأربعة الماضية. تراث كان ما زال حاضراً، رغم خفوته في الوعي العام، تم استدعاؤه وتطعيمه بلغة الطبقة الوسطى الصاعدة نصف المعولمة، بمفرداتها الحقوقية والديموقراطية الليبرالية، والتي لا تقل مثالية عن سابقتها.

لم تكن هشاشة تلك اللغة وتصوراتها في طبيعتها التلفيقية، بل في مفارقتها رويداً رويداً للواقع، وهزائمه، وتحولها إلى غاية في ذاتها، لا أداة للفعل. فالمثالي لا يبغي سوى ذاته، ولا يحتمل أن يكون وسيطاً أو خياراً من بين ممكنات.

لكن النزعة العدمية، في إخلاصها الوحيد لعدميتها، لا تخلو من خيارات. فالعدمية في قيمتها الأسمى، هي نفي للأحادية. فعدمية اللذة وعدمية الهدم تفترقان مع اشتراكهما في منطلقاتهما. فالأولى، أي العدمية في نسختها المروضة، وفي إدراك أصحابها لموت المثالي، وبالتالي انتفاء المبرر للسعي أو التضحية في سبيل قيم بعينها، لا تجد نفسها معنية بشيء، سوى اللذة وتحققها. ينسحب العدمي المهذب إلى عوالمه الذاتية ودوائره الإجتماعية الضيقة، مكتفياً عمداً بالأهداف الصغيرة الممكنة والقريبة والمباشرة، منصرفاً قدر الإمكان عن العام، وينخرط فيه بحكم الضرورة القاهرة أحياناً، وإن كان بالحد الأدنى من الطموح. وبالتوازي، فإن العدمية في صورتها الوحشية، مدفوعة بحماس ونقمة أخلاقية، تسعى بكل همة، إلى هدم كل القيم، والمعايير، وتفكيك الثوابت، وتؤسس فعل الهدم بوصفه كل شيء، وغاية كل نشاط إنساني.

تبدو مقدمات النزعة العدمية، في نسبيتها وقلقها وشكّيتها، شديدة الأصالة، بشكل لا يمكن معه نبذها. لكن منطقها، بلا شك، يحمل أسباباً كافية للفزع من نتائجها وتبعاتها. ومع هذا، فالعدمية نزعة غير سلبية، لا لشيء سوى لأنها تحمل في منطقها إمكانية تحطيم نفسها. فهي في تمثلاتها المهذبة و الوحشية، تحمل قيماًفي النهاية، سواء كانت اللذة أو الهدم، وتضطر آجلاً أو عاجلاً إلى إتخاذ مواقف لها صفة المبدئية، رغماً عنها، لتوسل تلك القيم وتحقيقها. وبناءً على تلك المواقف، تنتج أفعالاً لا تفتقد إلى الهدف والغاية. تنقلب العدمية في النهاية إلى براغماتية مخففة أو مثالية شديدة الأخلاقية. هكذا، تطرح العدمية نفسها، في تناقضها، كمرحلة، لا كمحطة نهائية تحمل إمكانية خلق تصورات مغايرة عن العالم المهدوم بواسطتها، وإن كانت لا تستطيع بنفسها تمثلها، تاركة تلك المهمة لغيرها.

تقوم عدمية اليوم، بالمهمة التي فشلت فيها الثورة المصرية، بميولها الإصلاحية المتواضعة في تحقيقها، وإن كانت قد مهدت لها، تخريباً متعمداً وواعياً لكل شيء، هدماً متسارعاً للذاكرة، واللغة، والقيمة، تفعيلاً للعجز والحنق على الماضي والقائم، نبذاً حتى لتصوراتنا عن المستقبل والممكن. استشرفت مأساة محققة، قبل وقوعها مادياً، وزعقت بإنذار أخير بأن هناك ما يجب فعله، قبل فوات الآوان، وإن كان هذا الفعل ممكناً فقط بانقلابها هي نفسها إلى أحد أضدادها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى