صفحات الثقافةعزيز تبسي

العدمية والطريق إلى الفاشية

     

        نزيه أبو عفش يقارب الانتفاضات الشعبية العربية من الموقع الفاشي،في مقابلة مع السفير الثقافي

        في يوم من ربيع 1981 وبينما كنا نتحاور عابرين الأرصفة الطويلة في شوارع حلب ،أحمي الديوان الناري للشاعر نزيه أبو عفش –الله قريب من قلبي- وأصونه بدفتي كتابي،وهو مرثية حنونة لشهداء المنظمة الشيوعية العربية والمعتقلين …

        قال :الشاعر الذي طالما كتب عن العصافير ورعشة بردها وقلق جوعها وانتهاك أعشاشها….. هو صياد ماهر طلقاته لا ترحم العصافير ولا فراخها ولا أعشاشها…

        واعتبرت حينها أن الكلام عن الشاعر ،هو لكسر الهالة الأخلاقية والوجدانية عنه وعن الشعراء عموماً،حيث ما عادوا يكتفون قول ما لا يفعلون،بل نقيضه تماماً..

        وكنت أقرأ:

        “أحفاد القتلى يتجهون إلى القتل

        محاطين بأبهة الحرب وبول الحيوانات…”

        و:

        “أحمد باشا….لايذكر أن قتيلاً عاتبه من قبل

        على حفنة قمح أو عنقود من أعناب الكرم

        ولكن القتلى اعترفوا:

        أحمد باشا متهم بالصلوات وترويج الجوع

        أحمد باشا متهم بالقتل وإرهاب الحيوانات…..

        مسؤول عن تخزين مياه النهر وإحراق الأعشاب

        وذبح الماشية الشريرة…والرقص….

        وتبديد خزائن بيت المال على الاستعراضات

        وألعاب الخيل….

        وزج النسوة في إسطبلات الأبقار بقصد

        التثقيف الثوري……………..”

        ولابد أن يختلج قلبك وأنت تكتشف وحدتك،وإستفراد القاتل بك ورفاقك:

        “ياالله ..لماذا أبصرت ولم تفعل شيئاً؟!

        ياالله..لماذا لم ترسل نارك؟!”

        من قصيدة:عمر يموت باكراً-ديوان الله قريب من قلبي.

        ساعة تتحول الحرية إلى مادة شعرية،ومصدر عيش ،تتكور على ذاتها وتتلذذ بها في جغرافيا القصيدةوحدودها،وتنتهك خارجها ويزنى بها،مترادفة مع أخواتها من مواد التعيش الدائم كالقضية الفلسطينية وجنوب لبنان والموسمي العدوان الأمريكي والصهيوني المتجدد…

        الكتابة عن الشاعر نزيه أبو عفش ليست سهلة،كون قصائده تشكل عنصراً رديفاً للذاكرة الشخصية،ونقده بمثابة وقوف نقدي معها..والحوار الذي أجري معه في السفير الثقافي،ساهم في تحريك المسكوت عنه في تجربته الشعرية..

        بعد أن تحررنا من نفوذ قصائده،وهذا حصل من زمن بعيد…حيث تبين لنا أن الشاعر نزيه أبو عفش،قد غادر الموقع الثوري منذ زمن،وبات ينظر من بعيد لآثار الإستبداد،وينتج على مر تاريخ يمتد لثلاثين عاماً شعراً جباناً،متخاذلاً،لايكلف نفسه عناء السير في جنازات القتلى،ويكتفي بالكتابة عن أناس وأوطان إفتراضية……

        عن جهالة أو وعي لم يكف الشاعر نزيه أبو عفش من الترويج لليأس والقنوط والإنسحاب الآمن، والرضى أمام جبروت الفاشية وطاغوتها،لكن للأمانة التاريخية، كان يعترض على الله وقسمته الضيزى من حين لأخر..

        يعتاش على فلفل الكلام وبهاراته،بعد أن يستقطرهما في أنابيق التداعيات النفسية رعباً أسود،ويشربها حتى الخنوع،تقع المذابح في الشارع المجاور لبيته ويمر القتلى أمام شرفته،ولم ينبث ببنة شفة عن(تدمر- حلب-حماة –بيروت-)….درب نفسه على إنتاج العبارة الغامضة المخصيّة،المتفلتة من الزمان والمكان وتحجب الحقيقة بخبرة نادرة،تصلح لمصدر عيش ،و تحظى بإحترام الطليعة الانعزالية …وتجنبه المساءلة الغضوبة من المليشيات الثقافية الناهرة والموبخة..ولأن اليمين لاينتج شعراً ولايحتفي بالثقافة والشعراء،وإستبدلهما منذ زمن طويل بالمتع الأبيقورية حيث الخمور واللحوم المشوية والنيئة والعارية،لم يبقى له إلا اليسار اللفظي الذي أفنى ركبه زحفاً أمام الفاشية وزبانيتها وتمريغ جبهته في السجود على أعتابها…

        هل كان الشاعر يضللنا؟

        لا ونعم… كان يشغل مع غيره حالة التيتّم التي طالما أحسسنا بها وسكنتنا،كنا نبحث عن ظهير في المعارك الطاحنة التي خضناها مبكراً،نستعين بمقالة من هناك وبحث من هنا وقصيدة وقصة وعبارة في رواية ورسم ساخر وقصاصة جريدة..نحاول أن نقوي عزيمتنا ونحن نواجه واحداً من أشرس الأنظمة الفاشية في المشرق العربي وأكثرها خداعاً وتضليلاً…

        ونسأل اليوم والآن:

        هل كان أطفال حوران وهم يخطون في تلك الليلة الماطرة على الجدران “الشعب يريد إسقاط النظام”يفعلون ذلك مقابل أموالاً تأتيهم من الخارج ،وهل كان أهالي بلدة البيضة في بانياس وهم يتضامنون مع إخوة لهم يأتمرون بإيعاذات من الليدي كلينتون….؟!!

        لم يفهم ما يحصل في بلاده والمنطقة العربية، تساكن مع القمع وإرتضى الذل،وهو يساوي عن عمد بين الكتبة المتجولين بين صحف ومكاتب ومصارف الأنظمة الفاشية في نسختها العربية وبين الشعوب الثائرة….ويساوي بين الشعوب العربية المقموعة والمنتهكة الحقوق طيلة نصف قرن من أنظمة حكم أنجبتها حالة بعد الإستقلال ولايشبهه بشئ سوى بعض لوازم وعدة الشغل من نمط راية وطوابع وأختام ونشيد….، وبين التعبيرات السياسية والحزبية التي ظهرت كأهل الكهف، تتلمس طريقها بعد سنوات من دمس الإقصاء والتصحر والتجفيف المتجدد لطاقاتها بإستنزاف الشعوب وطلائعها…

        هذا الرجل لايريد إنقاذ الشعب الذي تغرقه الفاشية بالدم،بل يريد إدانته لأنه أمسك بالقشة التي تسخر من قدره وتكرسه في آن،لايكتفي بتنبيهه ولا يريد،بل يريد إدانته،وإحتقار نضاله الملحمي…

        يداور ويخادع،يلوك لقمة الجهل ولايبتلعها،بل يقدمها بلا خجل أو حياء -للقراء-بمثابة وليمة من الجهالة والبلاغة المنافقة،والتي لم تستطع مهارته المركبة من حجب العمق الإنحيازي للفاشية ومشروعها الدامي…

        يتوهم هذا الشاعر المنقوع كأفعى مع الفورمول في حوجلة النطاسين،أن الإمبريالية مشغولة به،وبأوهامه التي تنتجها أمراضه العصابية المزمنة،هذا الرجل يريد مواجهة الإمبريالية والكيان الصهيوني ويدير ظهره أمام شرطي مرور…..الخ والمطلوب منا تصديق هلوساته.

        “أنت الذي تزعم أنك قادم لنجدتي…ليتك تعرف كم أنا خائف منك”

        يتبنى القول الفاشي،عبر عنصرين أساسيين،أو خرزتين من خرزاته المثقوبتين من طرفيهما لصنع السبحة وهي ليست إلا سبحة الفاشي وشياطينه:إنكار الأسباب التي دفعت الشعب للانتفاضة،وترحيل هذه الأسباب إلى الخارج الإمبريالي،من هذا الأساس الهزلي ينتقل إلى إنتاج أحكام القيمة على قياس الهزل عينه.

        “العبيد الذين يستقوون بعدو على سيدّهم أو طاغيتهم لن يكونوا أحراراً،بل يتحولون من عبد مقتول إلى عبد قاتل”

        ينطلق هنا من شرط لا تاريخي ويؤسس له عبر تحويله إلى إستحالة تاريخية من أجل تأبيد الواقع الفاشي ووقائعه….

        هل يعلم الشاعر نزيه أبو عفش أن معظم الثورات الشعبية والثورات المضادة في أوروبا ساهم فيها الخارج،أي كان للخارج أسبابه تدفعه للإنحياز لأحد طرفيّ الصراع،وهل يعلم الشاعر أن معظم حركات التحرر الوطني كان للخارج دوراً مسانداً وفاعلاً ودافعاً للنصر أو للهزيمة.

        فما بال شاعرنا بدول تابعة،حيث للخارج مرتكزات بنيوية في متن البنية الإجتماعية ومستوياتها،إن ترحيل الإنتفاضة الشعبيةوأسبابها للخارج،عمل تقتضيه الضرورات الفاشية بتنويعاتها العربية،لأجل نزع الشرعية عن الشعب وتثبيت النظرة المتعالية- العنصرية نحوه،هؤلاء-الشعب-عاجزون عن التحرر والثورة وإنتاج برنامج تحرري،هذا الشعب لا يستطيع الحركة إذاً هناك قوة خارجية هي من تحركه..

        الخارج هو من يفعل ذلك،ويتأكد ذلك من مقاربته الهزيلة والهزلية لإنتفاضة الشعب الليبي

        “لكن ما حدث في ليبيا شئ آخر،فالعبيد هناك ظلوا أربعين عاماً تحت حكم الطاغية إلى أن قال لهم الغرب:الآن سوف نقاتل لكم ونحرركم…..”

        هل الحقيقة هي ما يقوله نزيه أبو عفش..ألم يقرأ أو يسمع بإنتفاضة مدينة-بني غازي-التي قامت على أكتاف مناضلين حقوقيين ونشطاء حقوق الإنسان ،ولم يسمع أو يقرأ عن الأهوال التي أذاقها العسكر الفاشي المسمى-كتائب القذافي-للمتظاهرين السلميين..والمذابح التي ارتكبت بعدها…في بني غازي ومصراته وبني الوليد…هذا الشاعر لا يرى لأنه لا يريد أن يرى إلا ما تريه إياه الفاشية،ووعيه المستلب لها.

        بعين الفاشية ينظر وبعين الفاشية يرى.

        ما من شك أن للإمبريالية مصالحها في دفع تلك الانتفاضات إلى مسارات وخيارات محددة،تتوافق مع مصالحها،وتدخلها هو للجم الاندفاعات الثورية وإيقافها عند حدود معينة ،من هنا تأتي مقدمات تدخلها وضرورته لتثبيت مصالحها الإستراتيجية،والكيان الصهيوني واحداً منها،وهو الكيان الذي طالما عمّق ومتّن نظام القذافي العلاقة معه،وهادنته الأنظمة الأخرى..

        وهل يمكن أن تجد الإمبريالية صنيعة ،بمستوى نظام حكم القذافي والأنظمة العربية،يصون مصالحها ويوسع امتيازاتها على حساب تهميش وقمع وإذلال شعوبها…

        “ما حدث في الأشهر الماضية لم يستطع النظام أن يفعله خلال مئة عام بأن يوصل البلد على هذا المستوى من الكارثة…”

        تحت هذه الكلمة الغادرة”ماحدث” التي يستدل على معناها بعد بضعة كلمات ،والصواب ما أحدثته الانتفاضة الشعبية “كارثة”بالنسبة لهذا الشاعر والسلطة التي تظهر بلا مراوغة كونها سلطته ..،لقد انتفض الشعب أخيراً،وحان موعد توقف العرس الفاشي وأعوانه..

        وهو الذي يزعم بأنه منحاز للشعوب لايسأل من الذي أوصل الشعب إلى لحظة الإنتفاضة،تختلط عليه الأسباب بالنتائج،أو يخلطها فكره العدمي،كي يبحث للفاشية عن منفذ نجاة من جرائمها …

        لا بل يستنفر ما تبقى له من قوى ذهنية لينافح عن مشروع الإصلاح الفاشي الذي بات يُعد منذ أكثر من إحدى عشر عاماً ويرمى في سلة المهملات بعد أن يتبول فوقه قادته الفاشست،ونسأل أين كان هذا الشاعر يخبئ إنتماؤه الفاشي ،وداخل أي كلمات يخادع بها من يقرأ شعره،هذا الذي إعتبرناه يوماً أيقونة شعرية…

        “لكنهم لايريدون هذه الإصلاحات،بل إنهم يعملون جاهدين لعدم إنجاحها وتحققها،هم يسعون اليوم لمنع المؤسسة السورية من تحقيق هذه الإصلاحات فهذه لا تكون بيوم وليلة….”

        ما هي القوة التي بحيازة الشعب ليمنع سلطة الفاشية عن تحقيق الإصلاح،هناك حالات في التاريخ يتجاوز فيها الفعل الثوري الإصلاح المتأخر الذي تقدمه السلطة ولكن لا يوقفه،بل يستكمله،بمعنى أن هذه الحركة الثورية قد تجاوزت الإصلاح المتأخر الذي أقدمت عليه السلطة….

        وهنا المخادعة الفاشية،المتحققة في كلام الشاعر،بمحاولته الإيهام بامتلاك الفاشية لمشروع إصلاحي،ولا يمكن لأي عاقل أن يلمس أي ميل أو عارض إصلاحي عند السلطة منذ أكثر من عشر سنوات،على العكس تماماً،يمكن ملاحظة الاتجاهات الفاشية الممانعة والمقاومة للإصلاح والذهاب عميقاً في تكريس المشروع الفاشي وصقل أدواته:زيادة عدد المعتقلين والمطلوبين والشهداء والجرحى والفارين إلى خارج الحدود…

        ولم يكتف بالمخادعة والمراوغة،لأن الحتمية الفاشية قد وضعته بزاوية الانهيار ،ولم تترك له إلا الكذب الصريح ملاذاً يُسكّن به أوجاعها التي هي أوجاعه الحقيقية.

        “أنا أخاف هذه المعارضة التي ابتدأت مشوارها ومنذ الأسابيع الأولى بشعار :لا للحوار…”

        لأشهر والإنتفاضة الشعبية في العديد من المقاربات السياسية لها ،كانت مع الحوار،الحوار المفضي إلى نتيجة ملموسة،لا الحوار الذي يمّكن الفاشية من كسب الوقت للتوغل في دم الشعب وسحق إنتفاضته السلمية،على أن تبدأ بسحب الجيش من شوارع المدن والبلدات ،إيقاف العمل بقانون الطوائ والأحكام العرفية، إطلاق سراح المعتقلين،إحالة من إرتكب جرماً بحق أبناء الشعب إلى محاكم عسكرية أو مدنية،إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تحول الشعب إلى مطية يركبها حزب البعث،والسماح بالتظاهر السلمي…الخ ما الذي تحقق من هذه المطالب الإصلاحية…..

        يستحوذ هذا الشاعر وأمثاله على قابلية كامنة ليصير فاشياً،لكن لم تكن قد توفرت لحظتها-في 30 أيلول2000،حيث كان من الموقعين على بيان عرف في سوريا ببيان99،أي لم يصل مشروع الفاشية إلى حدوده التاريخية ولم تنهض الحركة الثورية الشعبية لتزيد أزمته ومأزقه ،والتي تؤدي في سياقها الحركي إلى حدة في الإستقطاب والفرز السياسي،لذلك نرى أن العديد من الموقعين على ذاك البيان،والذين إعتبروا أن كتابة العرائض والتسول السياسي هو الشكل-النضالي- الوحيد قد تنكروا لما وقعوا عليه في 15آذار2012،وباتوا في موقع الظهير للفاشية،مدفوعين بقوة مصالحهم الحقيقية وإنتمائهم السياسي ووعيهم الإنعزالي،لذلك عندما ننقد الشاعر نزيه أبوعفش نقصد عموم هذا الرهط من المثقفين الذين إنحازوا إلى الجبهة الفاشية من الصراع ودونوا بحبرها ودانوا بعقيدتها وضربوا بسيفها

        وربما للحفاظ على ما تبقى في وجهه من حياء يدفع به لتجنيبه المتشككين في إنحيازه للمشروع الفاشي الأسود،يستعين بالشيوعية المحلية ربيبة الفاشية ونعل حذائها ومنديل مخاطها منذ نصف قرن…

        “وأرجو أن لا ينسى أحد أنني رجل ماركسي شيوعي علماني،لي عدو وحيد على هذه الأرض هو النظام الأميركي وضمناً اعني إسرائيل.

        ونعده أننا لن ننسى لأن الذكرى تنفع الشعب وهو يكشف كل يوم عدواً يخرج من بين ظهرانيه ،وعشرات الأصدقاء الآتين من الهوامش الإجتماعية والثقافية،المندفعين بقوة إعصارية إلى الإنتفاضة المجيدة.

        ماذا يفعل الشعب المنتفض بشيوعيتك وماركسيتك وعلمانيتك،وقد حولتها جميعاً إلى “خرطوش”بمسدس القاتل الفاشي،وهل سينطلي على أحد بعد الآن،أن من عجز عن مواجهة فاشية محلية صغيرة ومحاسبة رموزهاالصغار،سيواجه الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني وسيدحرهما.

        كف عن الكذب والخداع،لقد انكشفت على حقيقة ،حجبتها طويلاً.وهي حقيقتك:إنك فاشي ظلامي،وعدو للشعب.

عزيز تبسي

        حلب كانون الثاني2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى