صفحات سوريةغياث نعيسة

-العدو الداخلي- و مواقف القوى الوسطية في سوريا


    غياث نعيسة

يقوم عدد من الناشطين السوريين بإضراب عن الطعام في باريس وعدد من العواصم الأخرى منذ 27 أب احتجاجا على المذبحة التي تعرضت لها مدينة داريا وسقط فيها مئات القتلى اغلبهم من المدنيين العزل، وايضا في محاولة من هؤلاء الناشطين للفت انتباه الرأي العام الدولي لما يجري في سوريا من قتل وتنكيل، وربما كان هذا النشاط تعبير حدسي لديهم بان نية و استراتيجية النظام الدكتاتوري في مواجهة الثورة الشعبية هي ” عدم الرضوخ مهما كان الثمن” كما قال الطاغية في احد لقاءاته الاخيرة، وان ألة قتله وقمعه ستواصل عملها بلا شفقة.

    لم يحظ اللقاء التلفزيوني الاخير للدكتاتور بشار الاسد في 29 أب باهتمام يذكر رغم انه قدم، برأينا، تصورا واضحا لاستراتيجية النظام الاستبدادي في تعامله مع الثورة و المعارضة، وكانت رسائله ايضا واضحة للقوى الاقليمية والدولية.

    سنتناول في مقالتنا هذه ما قاله الطاغية بخصوص توصيفه للثورة الشعبية وتعامله معها، فالثوار لم يعودوا “مندسين” و”جراثيم” كما سبق ان وصفهم في خطاباته السابقة، لا. لقد اصبح كل مواطن سوري لا يقف مع النظام بوضوح “عدوا داخليا” يجب سحقه.

    فقد قال بشار الاسد في مقابلته المذكورة ” هذه المرة تحرك العدو من الداخل وليس من الخارج… وأي سوري يقوم بتنفيذ مخطط أجنبي ومعاد يتحول الى عدو ولا يعود سوريا” .

    اصبح بذلك هامش المناورة لأطراف المعارضة التي بحثت او تبحث عن حلول وسط على الطريقة اليمنية او غيرها ضيقا جدا ان لم يكن معدوما، ونخص بالذكر هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي و كل من يشاطرها الاستراتيجية السياسية بشكل او باخر. اذ ان الدكتاتور لم يكتف بذلك فحسب، بل تحدث عنهم بصفتهم “تجار الأزمة” دون ان يحدد من هي المعارضة المعنية، ولكنه وصفها يتلك التي دعت ” الى الحوار ، فوجئنا بالحوار انها رفضت المجيء للمشاركة في الحوار، لأنها قبل الحوار طرحت أن يكون الحوار حصريا بين الدولة وهذه المجموعات” واصفا اياهم انهم يحاولون «أن يحققوا موقعا سياسيا بشكل انتهازي لكي يفاوضوا الدولة” .

    و في رد مباشر على دعوة هيئة التنسيق الى عقد مؤتمر” لإنقاذ سوريا” في دمشق في منتصف ايلول الجاري ، قال الطاغية ” سمعنا مؤخرا بأنهم بدأوا يتحدثون عن الحوار…. لكن ان اردت ان تأتي متأخرا فعليك أن تأتي صادقا، لا أن تأتي مرة أخرى بشكل انتهازي وتركب موجة ترى أن السفينة لم تغرق وبالتالي فلنؤمن لأنفسنا موقعا فيها…” و اكمل متوجها لهذه القوى ” انت تتحدث عن رفض العنف ورفض التسلح”، وهو الموقف الذي يميز الخطاب الوسطي لهيئة التنسيق ، ويطلب منها ان تقر بانها كذبت سابقا او على الاقل “انها اخطأت في التقدير”.

    في الواقع فان هذا الخطاب خفض سقف طموحات قيادات هذه القوى الوسطية في خطابها و الانتهازية في ممارساتها مما يمكن ان تحققه من مؤتمرها المنشود في دمشق ، فالنظام الدكتاتوري يعطي موافقته بشرط التزامها بالاطار الذي يضعه لها. و الا فإنها كغيرها من المعارضة تصبح في اعين النظام “عدوا داخليا”.

    هيئة التنسيق: وسطية المواقف و انتهازية الممارسة

    بداية علينا التأكيد ان نقد خطاب وممارسات القوى السياسية السورية المعارضة وخاصة في ظروف الثورة الشعبية ليس ترفا فكريا، بل هو ضرورة لأنه يتناول ممارسات سياسية قد يكون لها نتائج ضارة جدا على مسار الثورة ونتائجها.

    منذ بدابة الثورة الشعبية وقفت هيئة التنسيق -ويقاربها “المنبر الديمقراطي” بمفاهيمه وممارساته، ولكنه ليس موضوع مقالنا هنا- موقفا مواربا منها ومن النظام الدكتاتوري، فلا كانت مع الثورة حقا ولا كانت مع اسقاط النظام فعلا، رغم بعض البيانات التي اصدرتها في سياق ضغط الحراك الثوري، والتي كان يمكن ان تشير الى خلاف ذلك، ولكنها كانت تعود وفي كل مرة الى موقفها الاصلي الوسطي ، وتحاول في كل مرة الى جر قوى اخرى الى استراتيجيتها المذكورة هذه . و لا سيما حالتي حركة معا و ائتلاف وطن، فقد عملت هيئة التنسيق بشكل منهجي على تفريغ الاجتماعات و اللقاءات من شحنتها الثورية لصالح مفهومها السياسي التوفيقي او الوسطي. ان تذبذب مواقف قياداتها(المحسوبة على اليسار) اساءت الى حد كبير لسمعة اليسار السوري عموما و قدرته على الفعل في الحراك الثوري، فقد احتكرت رايته لوهلة قصيرة بعض القوى اليسارية التي التحقت بهيئة التنسيق مثل قوى احزاب تجمع اليسار الماركسي (حزب العمل الشيوعي وغيره) والاخيرة قررت ان تمارس عملها السياسي من خلال هيئة التنسيق بمعنى انها ألحقت نفسها تماما بها و لم تعد لها ممارسة مستقلة ، ما هو بعد اسوأ من ذلك ان بعض قيادات احزاب “تجمع اليسار الماركسي” هي في الوقت عينه قيادات بارزة في هيئة التنسيق واصبحت معروفة اكثر بانها من بين اشد حاملي خطابها الوسطي وسياساتها الانتهازية. من الجهة الاخرى، اساءت قوى الاحزاب الشيوعية الرسمية لاسم و اليسار السوري وارثه النضالي بالتحاقها المبكر جدا بسلطة الطغمة الحاكمة، وكان على اليسار السوري الجذري الداعم و المنخرط بالثورة السورية ان يتمايز وسريعا عن كافة هذه القوى الانتهازية ل”اليسار” ان كان هذا الحليف للسلطة او ذلك الوسطي المعارض. وهذا ما حصل مع تكوين عدة مجموعات يسارية داعمة للثورة ومنها تيار اليسار الثوري.

    ترسخ موقف هيئة التنسيق كفصيل توفيقي او وسطي مع مبادرتها لوقف العنف التي اعلنتها في 14 أب من هذا العام منطلقة من تحليلها لما تسميه ” توازن القوى ” بين قوى الثورة و النظام الحاكم في ظل “توازن دولي لا يقبل انتصار اي من الطرفين على الاخر”، واضعة نفسها ، انطلاقا من مسلماتها هذه في موقف الوسيط او في موقف وسطي، رغم ادعاء بعض قياداتها عكس ذلك. حيث ان مبادرتها هذه تدعو الى ” التوافق على هدنة مؤقتة بين جميع الاطراف التي تمارس العمل المسلح” بمعنى انها تنظر الى قوى الثورة و مقاومتها الشعبية بنفس المنظار الذي تتعامل به مع عنف النظام ووحشيته، وعلى قدم المساواة معه.

    و الحال ، فان هيئة التنسيق كانت قد مهدت لموقفها الوسطي هذا في 26 تموز ببيان روما الذي جاء عقب لقاء كانت هي القوة الاساسية التي اعدت ونظمت له مع استدراجها لبعض الشخصيات من قوى اخرى مثل” ائتلاف وطن”، حيث تنطح بيان روما لإعلان “ان السلاح ليس هو الحل” و ان الوضع الراهن اصبح بحاجة ملحة “اكثر من أي وقت مضى لمخرج سياسي” و دعا بيان روما ، الذي تشكل مبادئه تراجعا كبيرا عن متطلبات الثورة ، الى “سحب المظاهر المسلحة… وصولا الى مفاوضات لا تستثنى احدا” ، و الفقرة الاخيرة هي تمهيد لتمسك هيئة التنسيق بالحوار او “مفاوضة” النظام.

    توجت هيئة التنسيق انزياحها النهائي كطرف وسطي في الصراع الطبقي العنيف الجاري من خلال دعوتها الاخيرة التي صدرت في 28 أب الى عقد مؤتمر وطني لإنقاذ سورية تقول انها ستعمل على عقده في دمشق في 12 من الشهر الجاري، معتبرة ان عنف النظام، وهو مقدمة نظرية ضرورية لها لتبرير ما سيأتي لاحقا في متن بيانها، “خلف حاضنات للعنف المضاد” وبهذا اصبحت المقاومة الشعبية بما لها وعليها بالنسبة لهيئة التنسيق مجرد “عنف مضاد”. و لتبرير سلوكها الوسطي بضرورة حوار النظام ، فإنها ركزت في بيانها المذكور على فقدان سوريا لقرارها الوطني المستقل حيث “باتت خاضعة بصورة كاملة للمؤثرات الخارجية الدولية والاقليمية”. وهكذا لان سوريا كبلد و مجتمع ودولة اصبحت “خاضعة بصورة كاملة” للخارج، وفق كلام هيئة التنسيق، يصبح مبررا قيام الاخيرة بعمل انقاذي للبلاد و لعبها دورا وسيطا بين كافة “الاطراف المتنازعة” في سوريا. لم تعد هنالك في خطاب هيئة التنسيق ثورة شعب و تضحياته في مواجهة دكتاتورية دموية تحرق الناس و البلاد ،بل اصبح موقف هيئة التنسيق واضحا في تحديد تموضعها الوسطي اي انها لا تقف مع هذا الطرف او ذاك ، انها تضع نفسها في موقع الوسيط المنقذ، الجاهز لإنقاذ ما يمكن انقاذه… وخاصة من النظام القائم.

    يسار هيئة التنسيق إإ

    ولأن “تجمع اليسار الماركسي” لم يعد شيئا أخر سوى ملحق تبريري لسياسات هيئة التنسيق المذكورة، وليس له نشاط سياسي مستقل خارجها، فقد جهد في افتتاحية عدده الاخير من نشرته “طريق اليسار “، عدد 39 أب 2012 ، التي عنوانها “ضد العنف المعارض” حيث يعلن هذا التجمع ان النظام قد نجح في دفع المعارضين الى “استعمال السلاح، من اجل افقاد المعارضة تفوقها الاخلاقي، و لجعلها تشبه ممارسات النظام” هكذا بجرة قلم اصبحت المقاومة الشعبية المسلحة للجماهير في مواجهة الة القتل البربرية للدكتاتورية بشكل ألي “انحطاط اخلاقي” وممارسات وحشية مثل “النظام الحاكم تماما”، الحقيقة ان هذا الكلام نموذج مأساوي للانحطاط الفكري لبعض اليسار السوري ،ليس الا.

    فالافتتاحية نفسها تعيد التأكيد ان ما يجري في سوريا هو تكرار لمأساة حماة عام 1982،بما يعني صراع بين الاسلاميين و الاخوان المسلمين من جهة و النظام الحاكم، من جهة اخرى. حيث تقول ان الاخوان المسلمين “يعودون ومعهم الكثير من المعارضين بعد ثلاثة عقود ، الى تكرار محزن لتلك المأساة التي أطالت لثلاثين عاما من عمر النظام السوري…”.هذه الحجة البائسة لتبرير الموقف الوسطي و التوفيقي لهيئة التنسيق و تابعها “تجمع اليسار الماركسي” تدعو للرثاء فعلا، لان عقل قاصر وحده يمكنه المساواة بين احداث الثمانينات وصراع الاخوان المسلمين المسلح مع النظام حينئذ مع الثورة الشعبية العميقة الجارية في بلادنا منذ نحو 18 شهرا، التي لا يشكل فيها الاخوان المسلمين و الاسلاميين سوى فصيل محدود النفوذ رغم الدعم الاعلامي و المالي الهائل الذي يتلقاه من قطر و السعودية وتركيا، وهم كانوا غائبين وبعيدين عن الحراك الثوري في الاشهر الاولى من الثورة ، حيث كانوا في هدنة وحوار مع النظام الحاكم منذ عام 2006.

    والحال، يصبح الأن مفهوما لدينا موافقة ومباركة “احزاب الجبهة الشعبية” الانتهازية التي تضم حزبي قدري جميل و علي حيدر المشاركين في حكومة الدكتاتورية لمبادرة هيئة التنسيق المذكورة اعلاه، ويصبح مفهوما اكثر تقارب مواقف كل منها في تعامله السياسي مع الثورة الشعبية حيث وصل التوافق بينهما حد تطلب عقد اجتماعات تنسيقية بين كل من الجبهة الشعبية الحكومية و هيئة التنسيق في بداية شهر ايلول الجاري.

    هنالك اذن اعادة اصطفاف جديدة بين القوى السياسية “اليسارية” حيث تتقارب القوى الانتهازية و الوسطية من جهة، وتقوم عملية تقارب بين مجموعات اليسار الجذري من جهة اخرى، مما يعني زيادة الضغط على القوى المترددة و الرخوة سياسيا الموجودة مثلا في حركة معا او في ائتلاف وطن، وسيفرض عليها سريعا القيام بتوضيح تموضعها السياسي الفعلي الذي صار من الصعب تأجيله أو الالتفاف عليه، وعليها اما ان تتجه نحو موقف جذري واضح في الثورة او الالتحاق بسياسات انتهازية توفيقية.

    في ظروف من تجذر الجماهير الشعبية السورية في ثورتها ضد نظام الدكتاتورية البرجوازية، اصبحت الشروط اكثر من ناضجة لتشكيل اطار يساري جذري واسع منخرط فعليا في الثورة الشعبية ، يكون خارج هذه القوى “اليسارية” الانتهازية والوسطية -نقصد قياداتها واطرها التنظيمية لأننا قد نجد انفسنا مع كوادرها وقواعدها في نضالات مشتركة دفاعا عن قضايا مثل العلمانية او حقوق المرأة وغير ذلك من النضالات الاجتماعية- وهذا ما يجب العمل عليه دون تأخير، وعلى اساس برنامج سياسي وعملي يساري جذري.

    غياث نعيسة

    8 أيلول/سبتمبر 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى