صفحات العالم

العراق «الشيعي» في عين تناقضات السياسات الإيرانية والإقليمية/ وضاح شرارة

 

 

قد يكون أمر حيدر العبادي، رئيس الحكومة العراقية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، بوقف قصف المدن أو البلدات التي يتحصن بها وبأهلها مقاتلو «الدولة الاسلامية» قرينة أولى مقْنعة على تركه أحد أركان السياسة التي انتهجها سلفه، نوري المالكي. وأفضت هذه السياسة الى انهيار القوات المسلحة «الوطنية»، وانفضاض أهالي محافظات الغرب والشمال الغربي والوسط عن «دولة» المالكي وتحالفه «الوطني» وميلهم الى جماعات طرفية منهم، والى سعي تيارات الغالبية المذهبية وأحزابها في إنشاء جماعاتها ومنظماتها المسلحة والخاصة أو الاحتفاظ بها ورعايتها على رغم جلاء القوات الاميركية المحتلة قبل 3 أعوام. وكان قضى النهج المالكي، منذ انعطافة 2009-2010 التي قربته من إيران الحرسية ثم من سوريا الاسدية، بأخذ جمهور العراقيين السنة بجريرة الجماعات المسلحة الارهابية، البعثية الصدامية والاسلامية. فزعم نوري المالكي، ومعه قيادات تحالفه وجماهيره، أن الكثرة الانتخابية والبرلمانية التي يحظى بها وحلفاءه تخوله دمج قوى المعارضة، المتفرقة المشارب والمصادر والغايات، في معارضة «دينية» أي مذهبية متمردة ومسلحة واحدة. وهذا الدمج هو منتهى أمنية الجناح المذهبي والمسلح والغالي من المعارضة، وعلى رأسه «القاعدة» الارهابية وكتلها وفروعها، وآخرها «الدولة الاسلامية» (أو «داعش»، الى الامس وربما غداً).

ويترتب على دمج الكتلة الاهلية الكبيرة بمنظمات أقلوية وحركية جوازُ بل وجوبُ قصف أهالي الكتلة المدنية، في المدن والبلدات والنواحي، بمدفعية الميدان والطيران الحربي والبراميل، تيمناً بالشقيق السوري، واحتذاءً عليه وعلى ابتكاراته ونجاحاته المدوية، بذريعة استهداف مقاتلي المنظمة المسلحة، المستولية والغاصبة في أحيان كثيرة. فتوحيد طرفي المعارضة، المسلح الارهابي والاهلي السياسي، نهج سار عليه نوري المالكي الثاني (في اثناء ولايته الثانية بين 2009 و2014)، ورعته السياسة الايرانية في شقها الحرسي والاقليمي، على نحو ما وافق هواها وميولها في سوريا الاسد، وهي السبَّاقة الى تجريد اصناف المعارضة كلها من المشروعية. وأسهمت في صوغ هذا النهج وبلورته في لبنان «السوري» والمحتل متعاونة تعاوناً وثيقاً وقوة الاحتلال والردع والتقويض السورية. وعليه، قصف «جيش المالكي»، على ما سمته المعارضة السنية العراقية وبعض المعارضة الشيعية، الفلوجة والرمادي حين تحصنت ببعض أحيائهما قوات «داعش» وبعض حلفائها وخصومها معاً، مثل المجلس العسكري (للثوار من العشائر المحلية) والجيش الاسلامي وكتائب ثورة العشرين وفيلق عمر وكتائب جيش محمد. وسبق أن قتلت القوات المسلحة «العراقية»، في قيادة زعيم حزب الدعوة ورئيس الوزارات الكثيرة بالوكالة المتطاولة ولاية كاملة، معتصمين في الساحات العامة لم يبادروا الى استعمال السلاح، وحرصت قياداتهم الدينية والسياسية على التزامهم شعارات سياسية وطنية ومسالمة. وفي أعقاب المجزرة رفع المعتصمون والسياسيون والمشايخ والمعممون السنة مطلب إنشاء حرس وطني محلي في المحافظات، على غرار البيشمركة الكردية، يلجم المبادرة المركزية أي الشيعية الى القمع الانتقامي المفرط.

وتذرعت الكتلة المذهبية المستولية بتوحيد الجماعات المعارضة، المذهبية بدورها شأن الجماعات الحاكمة الشيعية، في كتلة واحدة، الى اقصائها من الحكم، وتجريمها على ماضيها الصدامي واستبدادها بالعراقييين وتعاونها مع القوات الاميركية (ولو دفعاً للحرب الاهلية المذهبية وللخسارة الفئوية والوطنية)، والى إضعاف مكانتها السياسية والاجتماعية والادارية والمعنوية تمهيداً لاطراح مطاليبها من المعادلات والموازنات الداخلية والاقليمية، ودمغ هذه المطاليب بمخالفة المعيار الوطني والخروج عليه. وكان الاحتلال السوري وحليفه (وخصمه وعدوه) الفلسطيني امتحن هذه الصيغة من التوحيد والدمج، طيلة العقد الثامن وشطر من العقد التاسع، في لبنان، قبل تدويرها وتجديدها في المرحلة الايرانية والحزب اللهية التالية. وأثمرت استيلاء كاملاً على لبنان، وشقاقاً عميقاً في جماعاته الاهلية وقياداته، وشللاً أصاب دولته وهيئاته وسلَّمه لقمة سائغة الى تجاذب إقليمي لا نهاية مرئية أو مقدَّرة له. ويبيح التوحيد، ونفي حقيقة الفروق العميقة في صفوف الجماعة الاهلية، الاستئثار بالسلطة والمصالح والعوائد، والتستر عليه بوحدة الدولة وكيانها المهدد على الدوام بانقسامات المجتمع وجماعاته القومية والمذهبية والعشائرية المحلية، وبعلاقات الجماعات الاقليمية المتضاربة.

وفي آخر مطاف هذا النهج في إدارة الدولة، والاستيلاء عليها وتحطيمها، تسوغ الحربُ المفتوحة والمعلنة على الخصم الاهلي أو المعارضة الاهلية، السنية في المعرض العراقي. فيذهب الجهاز المستولي والمتسلط الشيعي، الى أن حرب «دولته» وأجهزتها الامنية والعسكرية الطيعة، الى الاجهزة الاقتصادية والخدمية، على مناطق المعارضة وعشائرها وسكانها ووجوهها أو أعيانها، تستبق توحيد صفوف المعارضة الحتمي والكامن، وتعالجه بالكي قبل أن يستفحل. والاستباق المزعوم هو من قبيل تحقيق التوقع أو النبوءة بقوة ذاتية: فلا يعدم غلقُ باب التجنيد في القوات المسلحة والقوى الامنية أو في الادارات بوجه من تطوعوا قبل أعوام في صفوف الصحوات إعادةَ «أبناء العراق» على ما سموا، الى احضان جيوش الاسلاميين والبعثيين ومنظماتهم الارهابية وأنصارهم. وإذا تصدى السياسيون لمعالجة بعض عوامل الاقصاء والافقار، والتصنيف على مراتب جدارة وطنية تحط بناخبيهم وجماعاتهم الى مستوى المنبوذين، فاقترحوا: 1) تحويل ملف المساءلة والعدالة («استئصال البعث» سابقاً- الكاتب) الى «ملف قضائي»، و2) إقرار قانون العفو، و3) التقيد بالتوازن القومي والمذهبي في الولايات السياسية والادارية، و4)إعمال مجلس دفاع أعلى، و5) سن قانونَيْ مجلس الاتحاد والمحكمة الدستورية، و6) انجاز المصالحة الوطنية، و7) حمل التعاون مع الدول الاقليمية العربية على محمل الجد (سليم الجبوري، رئيس البرلمان)- صَنفت قوى التحالف الوطني المقترحات هذه في باب إحياء «النظام المقبور» الصدامي، وتلبية برنامج أنصاره. ولم تميز الاخوين النجيفي والاخوين العيساوي والهاشمي وصالح المطلك من سلسلة «الامراء» الذين توالوا على رأس الامارت والدول «الاسلامية» الجهادية وقضاة شرعهم. وهذا على نحو حمل الجماعة الحرسية الخمينية في لبنان اشرف ريفي ونهاد المشنوق ورشيد درباس، ومن ورائهم سعد الحريري وفؤاد السنيورة، على مقاتلين في «حزب» زياد علوكي وشادي مولوي وحسام صباغ، على افتراض انضواء الثلاثة في حزب واحد.

ويتصل اليوم مفعول هذا التصنيف أو التمييز العملي والتطهيري من العهد المالكي (والصدري والحكيمي والجعفري والعامري، على رغم التظاهر المراوغ بخلاف لا تترتب عليه نتائج فعلية) الى غداة استعادة أمرلي وعشرات القرى والبلدات السنية المجاورة. فحين بسط مقاتلون أكراد وشيعة سلطانهم على هذه البلاد، حيل بين الاهالي السنة الذين فروا أمام «داعش» وبين عودتهم الى بيوتهم. وأحرق «المحررون»، وفيهم «خبراء« ايرانيون حرسيون على رأسهم قاسم سليماني وقائده ومادحه محمد علي جعفري ربما، بيوت الهاربين اللاجئين بعد سرقتها ونهبها على مثال مشهور و»شرعي». ويلاحظ مراسل وكالة رويترز من سليمان بيك أن الحال ترهص بمراكمة «المظالم» التي شقت طريق «داعش» الى صفوف العراقيين السنة، واستمالتهم وألَّبتهم حولها. وقد تؤدي الغارات الاميركية، اليوم، الدور الذي أدته الحملة العسكرية الاميركية والاوروبية في 2003. فتتصور عدواناً أو «حملة صليبية» على أهل السنة المسلمين، وانتصاراً لخصومهم ومناوئيهم من أهل الشيعة، «الصفويين» و»الروافض» و»النصيريين» المتربعين في سدة بلاد الشام. وهذا ما تذهب إليه شعبة القاعدة في المغرب الاسلامي وشقيقتها القاعدة في جزيرة العرب، ونوه به يوسف القرضاوي وبعض خطباء مساجد ديالى. ويفتي مرشد الجمهورية الاسلامية في إيران و»قائد الثورة» بحرمة التحالف مع اليد الاميركية «الملوثة». ومصدر التلوث هو مناوأة «القوة العظمى» التي تجوب أساطيلها بحار العالم، وتخيف صواريخها وأقمارها الاصطناعية وصناعتها الذرية السلمية طواغيت الاستكبار (ويقصد قائد الباسيج بهذا كله إيران وحدها)، وتقرر فتطأطئ القوى الغربية الرأس (الجنرال صفوي نفسه).

ومزيج التعريفات والمواقف والسياسات عود على بدء حرب العراق وإسقاط صدام حسين ونظامه. فحلُّ جيش صدام، وكان الرجل «صاحب الجيش» حقاً، وهو في حال انحلال لا تذكر بأمجاده وانتصاراته على الحرس الخميني والجيش الايرانيين في 1987 و1988 (وهو دان بشطر منها الى التسليح والتمويل الخليجيين في المرتبة الاولى) لم يسوغه الخوف من الحيش مقدار ما سوغه التقرب من الشيعة العراقيين، واستمالتهم الى صف المحتل، وإشراكهم في بناء ديموقراطية رائدة في الشرق الاوسط لا تقوم لها قائمة بغير اشتراكهم. وقاتلت القوات الاميركية، ومعها بعض حلفائها، «التمرد» الذي تولته قوى أهلية وعسكرية سنية على الخصوص. ومهد القتال الاميركي الطريق الى سيطرة الشيعة العراقيين على الدولة. وفي الاثناء تقاسم الشيعة العراقيين موقفان: واحد لم يرَ خيراً في الانخراط في العملية السياسية، في رعاية عسكرية أجنبية حيوية، وآخر أظهر تحفظاً لفظياً شديداً عن الرعاية الاميركية. ولكنه ألمح الى اسهامه القوي في العمليات القتالية التي ينظمها السنة «الجهاديون» والبعثيون، وانتهى به المطاف الى الانخراط السياسي والمؤسسي، وقطف ثمرات انخراطه وغالى في تقدير حقوقه.

وفي الأثناء، تولت السياسة الايرانية على وجوهها، الدعوية والحوزوية الاكليركية والاجتماعية والاقتصادية تحت عباءة أمنية راجحة، استتباع القوى الشيعية المتفرقة، وإضعاف القوى الوطنية العراقوية، على ما قيل في بعض ضباط 1936-1941 وفي عبد الكريم قاسم (1958-1963)، من شيعة البلد. وحين ينوه قائد الحرس الثوري (الباسدران)، محمد علي جعفري، اليوم بمنظمة بدر التي تعد 20 ألف مقاتل «يتمتعون بخبرات اكتسبوها خلال تواجدهم في إيران إبان الحرب العراقية الايرانية (1980-1988)، وعلى رأسها هادي العامري، مرشح ايران والمالكي و»بدر» الفاشل الى وزارة الداخلية، فإنما يزكي الرجل جزءاً من شيعة العراق الذين اضطلعوا بدور سياسي وأمني عسكري مزدوج في الاعوام «الاميركية» من التاريخ العراقي القريب، وقاتلوا في صف الحرس وإدارته. وجَمَع هؤلاء، وهم يتخطون منظمة بدر الى قواعد المنظمات العسكرية الامنية الشيعية كلها وإلى الشطر الاعظم من الطواقم السياسية الشيعية، التنديد الحاد بـ»الاحتلال» الاميركي، واستغلال عباءته الى التسلط على الدولة، والاحتماء به من غارات الجماعات الارهابية السنية، والتذرع بحصانته (وإحصانهم) الى اغتيال الكفاءات السنية العسكرية والمدنية التي برزت في الحرب العراقية الايرانية والاشتراك الرمزي الهامشي في اغتيال أميركيين.

ويدين العراقيون بخروجهم من الحرب الاهلية والمذهبية الساحق الى السياسة الاميركية، والى سعيها في انقلاب سنة محافظات الوسط والغرب على إرهاب «الجهاديين» وقيامهم عليه. ويدين شيعة العراق على الخصوص الى من يسميهم مقتدى الصدر وقادة «عصائب أهل الحق» و»ألوية اليوم الموعود» وفرق «حزب الله» الخارجة من «جيش المهدي» و»أتباع» آل الصدر، «المحتلين» ويتهددهم بالقتل ويتظاهر تنديداً بهم، (يدينون) بتحطيم العمود الفقري لسيطرة بعث صدام على العراق، جيشاً وحزباً، وبخلافته على السلطة. ومصدر جوانب بارزة من المسألة العراقية، اليوم، غداة غزوة «الدولة الاسلامية» وتوسعها، هو استحواذ المنظمات والحركات والفوضويات الشيعية على السلطة بواسطة قوة أجنبية. وكانت القوة الاميركية مطية المنظمات والحركات الى الاستحواذ، من وجه، بينما تشكو هذه عجزاً مدقعاً عن تدبير السلطة التي آلت إليها من طريق الاستيلاء والعدد، وحاجة المحتل الى الاستقرار والمغادرة، وليس من طريق «عملية» سياسية وداخلية.

ولم ير شيعة العراق أو «نخبهم» الحاكمة، ومعهم الحلف الحرسي والاكليركي (الحبري العلمائي) والاوليغاركي (المؤلف من المحاسيب والاقارب والوكلاء والوسطاء) الايراني، ضيراً في التستر بالاميركيين واحتلالهم وبـ»مقاومتهم» الخفية الى استيلاء غير مقنَّع على العراق، والانفراد بالتمثيل على وحدته الوطنية والرمزية، والسطو على عوائده وريوعه وتحويله بقرة عوائد وريوع، أو «مزرعة» وإقطاعاً. وحسبوا على مثال سوري- إيراني مدمر، أن الاستعداء على المحتل السابق من الارهاب الذي أحياه الاحتلال ومنحته مقاومة الاحتلال ثم مقاومة خلفائه قوة هائلة، شهادةُ مشروعية لا نهاية لها. ولكن الاستيلاء والانفراد والسطو والتحويل- وهي سبقت إليها «العصابة» الاسدية وما تسعى العصابات الحرسية والاكليركية والاوليغاركية في انجازه- لم تحل دون فضح قصور الاحزاب والتيارات الشيعية المتحالفة والمتخاصمة عن إدارة الدولة التي آلت إليهم وسوس انقساماتها التاريخية والطارئة.

ولعل القرينة الصارخة على القصور الفاضح هي عزم الولايات المتحدة، ومنسق عملياتها العسكرية والأمنية الجديد أو المتجدد في العراق، جون ألن، على ألا تنشر وحدات مستشاريها في مناطق شيعية، تفادياً لاغتيالها أو خطفها، وعلى أن تحيي هي شبكاتها الاستخبارية التي انشأتها منذ أوائل 2007، وتبعث حلقات اتصالها الخاصة بالعشائر والسكان المحليين. فالاجراء الاول يدل من غير لبس على ان الجهة العراقية الحكومية لا تضمن التزام الصدر والحكيم والخزعلي والمالكي والعامري وأمثالهم التعاهد الاميركي الحكومي. فهي جماعات لا تقاتل إلا تحت ألويتها الاهلية، على ما صنعت في أمرلي وأماكن أخرى. و»اعتبارات» المقاومات» المهدية والحرسية تتقدم التزامات الحكومة الوطنية. والاجراء الثاني ينوب مناب ما عجزت الحكومة السابقة عن الاضطلاع به، أي رعاية علاقات ثقة بالجماعات السنية في محافظات الوسط والغرب والشمال الغربي، من وجه، ونسج خيوط أمنية واستخبارية بالاوساط التي يقدَّر ضعفها عن مقاومة التسلل الارهابي، إما تحت ذريعة المظلومية وإما جراء إغراء شراء الولاء، من وجه آخر.

والقصور الحكومي المزدوج يتوج النهج الايراني الحرسي الذي انتهجه العراق «الشيعي»، المذهبي والسياسي، منذ ما قبل انعطاف 2003. ففي مجتمعات وبلدان دول هشة التركيب، وشديدة التعقيد الاهلي والاقليمي، تنتهج القيادة الايرانية المضطربة والكثيرة الاجنحة سياسة أو سياسات آلت على الدوام الى انقسام أهلي عميق، مذهبي إسلامي، مشتبك مع انقسامات قومية وعصبية ومحلية لا تقل عمقاً وتأريثاً وجمعاً عن الانقسام الاول. وأدى «تصدير الثورة»، وهو أفضى الى الحرب العراقية الايرانية، وكبد الايرانيين فوق الـ500 ألف قتيل وانتهى بهزيمة إيران العسكرية، الى استعداء الشطر السني الغالب من الشعوب العربية، والى صراع إقليمي مرير حسبت القيادة الحوزوية والحرسية الاوليغاركية أن سباقها النووي وتصدرها الصراع «العربي» الاسرائيلي (وهو فلسطيني اسرائيلي في المرتبة الاولى) قمينان بحسمه لمصلحتها. وجددت أركان السياسات الايرانية الاقليمية الثلاثة الحروب الملبننة في لبنان، وحالت دون طي صفحة النزاعات الاهلية في العراق، ولم تلجم بعض أثرها في اليمن والبحرين والسودان، ونفخت في النيران السورية وكتلتها المتأججة.

فالحروب الاهلية تحتمل، على خلاف الحروب الاقليمية بين الدول والكيانات الدولية، سحق العدو وإخراجه من الموازنات السياسية التي تقر «الكيانات» الوطنية كلها بالحق في الوجود والدوام والاحتساب. وهو ما لا تقر به إيران الخمينية والثورية (الحرسية) لشعوبها وأقوامها وجماعاتها وأحزابها المعارضة، والسبب الاول في لهاثها وراء سراب سلطنة جديدة، على مثال عثماني، إمامي وشعبي، طالما دغدغ خيالات حكامها وشيوخها ومتعلميها منذ الاسرة الصفوية فالقاجارية فالبهلوية الى «النظام» الخميني. وأدرجت الطغمة الخمينية والحرسية الحاكمة شطراً من حوادث الشرق أوسط العربي في ربع القرن الاخير، وعلى الاخص في العقد ونصف العقد منه، في رواية سياسية واستراتيجية تمزج الوقائع بالاحلام والخيالات مزاجاً هاذياً، العبرة منها أن إيران الحرسية والفيلقية هي عمدة النظام الاقليمي والعالمي «الجديد» الذي طوى الانظمة القاهرة، العثماني التركي والبريطاني والروسي والاميركي. وهذه الرواية تستعير من الروايات التاريخية «الكبيرة» خط بيان عريضاً.

ويزعم خط الرواية الايرانية البيانية أن الولايات المتحدة، ومعها تحالفها الغربي، هُزمت في العراق وهزم حلفاؤها الاقليميون، واضطرت الى الجلاء خاوية الوفاض ومثخنة بجروح «المقاومة». ولم يبق من برنامج «الثورة الاسلامية» الايرانية، على هذا، بند واحد لم ينجز: ففلسطين حررت أو هي على طريق التحرر عن يد «حماس» و»الجهاد» طبعاً؛ والعراق عاد علماً على الاسلام الحقيقي والطريق التي اختطها أئمة الهدى بعد أن كان دار كفر علمانية أو سنية لا فرق؛ وسوريا سند المقاومة وهي تكاد تكون ولاية من ولايات «حزب الله»، حزب «الثورة الاسلامية في لبنان» والقوة الاقليمية المهيبة؛ وهذه أربع عواصم عربية (وصنعاء هي العاصمة الرابعة المتوقعة) توالي طهران أو تأتمر بأمرها، وكلها عواصم كانت معاقل للنفوذ الاميركي الاسرائيلي وحلفائه أو أتباعه الذليلين. فالهزيمة محققة وفادحة في عقر دار الاستكبار الكبير وملحقاته الصغيرة.

ولكن الحركات التكفيرية والارهابية والسلفية المقاتلة، مجازاً أو فعلاً، أبطلت هذه الرواية وكذبتها. وكانت انتفاضة الايرانيين في ربيع 2009 وصيفه السباقة الى التكذيب، وهي لا تمت الى النعوت المتقدمة بأضعف صلة أو رابطة. فلما انتفض سوريون متوسطون على نيف واربعة عقود من القهر الممانع والعروبي الامني، ومن العقم المدمر على الصعد كلها، فزع «النظام» وحلفاؤه الى طيف الارهاب التكفيري وفزاعته الرادعة، وجعلوه بديلاً من الفضيحة التي تفتق عنها قيام السوريين على جثة النظام المتحللة منذ عقود والمتربعة في خواء عزوفهم وقرفهم واستقالتهم. ولم تعجز أجهزة بشار وحافظ الاسد عن صد القيام عليها فحسب، بل اضطرت الى حضانة الجماعات «الجهادية» الارهابية والتعرض لأخطارها المميتة رجاء الحصول على حياد دولي وإقليمي بإزاء تدميرها العشوائي للمجتمع السوري وبلاده. وها هي اليوم تستجدي تبليغاً أميركياً وإقليمياً بعمليات التحالف، بينما تزعم السياسة الايرانية انها تريد «التنسيق» مع الاميركيين وترفض «القيادة» الاميركية، وتتداعى الرواية الاسطورية عن هشاشة يرثى لها.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى