صفحات الرأي

العراق وسواه: طبائع الاستبداد


فالح عبدالجبار

حال العرب راهناً، كما حال العراق الآن، يذكرنا بما وجدناه في بطون الكتب الصادرة منذ قرن ونيف، وبالأخص منها كتابات: جمال الدين الأفغاني، وتلميذه المصري محمد عبده، والكردي-الحلبي الهارب الى القاهرة، عبد الرحمن الكواكبي.

الأفغاني اتخذ سبيل الإصلاح السياسي من فوق، بنصح الحاكم (كما يفعل أردوغان مع السوريين)، وانتهج محمد عبده سبيل الإصلاح الفكري (تغيير الأفكار وتحديث نظام التعليم)، أما الكردي-الحلبي، فاتخذ مساراً راديكالياً: الاعتراض الكامل على الدولة السلالية الأوتوقراطية، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.

ما يجمع الكل هو الخوف من الانحطاط العربي-الإسلامي بإزاء الغرب الصناعي-العقلاني-الليبرالي، فالإصلاح السياسي (عند الأفغاني) والفكري–الثقافي (عند محمد عبده) يرمي الى إعادة تأسيس الحضارة على قاعدة متينة، باعتماد مبدأ دنيوية الحاكم، وشرعية حق الجماعة (الأمة، أو المجتمع) في اختياره وعزله، وإشاعة العلم، ولكن من دون ضياع الهوية الدينية (وفق عبده).

باختصار، فإن “الترقّي” (ما سمّته الأجيال اللاحقة بـ “التقدم”) يقوم بالديموقراطية والعقلانية في جوهره، ويرتبط ارتباطاً مكيناً بمواجهة التحدي الغربي، التوسعي-العسكري. من هنا، حرص الأفغاني على فكرة الجامعة الإسلامية، ودعوته اعتماد اللغة العربية في الآستانة لدمج ما كان يسميه رابطة الجنس (الرابطة القومية) برابطة الدين (الجامعة الإسلامية)، باعتبار الاثنين أقوى روابط الاجتماع البشري، في منظوره. مواجهة الغرب عند الأستاذ وتلميذه كانت مركباً غنياً من معاينة الذات في العالم، لا معاينة العالم من دون تفحص الذات، وهو بهذا يتفوق على كل كارهي حركات ما اصطُلح عليه بـ “الربيع العربي”، بإعلاء التضاد مع الغرب ونسيان الشقاء العربي-الإسلامي واتخاذه دريئة لاستمرار الاستبداد.

أما الكواكبي، فقد فصّل في معنى “الترقّي” وركّزه في أمرين: الخلاص من الاستبداد، وفصل الدين عن الدولة. ما تزال نزعته العقلانية مطلوبة، وقد أسماه السيد حسن الأمين “العلمانية المؤمنة”، وقوامها بسيط جداً (موضَّح في كتاب “أم القرى”): اختيار خليفة بالانتخاب ليمثل الجماعة الدينية في مقره “أم القرى”، أي مكة المكرمة، من دون تعيين ذاتي، سرمدي، مقدس، فهو خاضع لترتيبات انتخابية. أما أقاليم المسلمين، فخاضعة لحكامها “المحليين”. علمانيته كانت مؤسساتية، واضحة، مباشرة. ولهذه العلمانية، التي حوَّلها الجهل الى سُبَّة، وألصق بها إلغاء الدين، لا حمايته من تعديات الدولة، جذورها في فكرة نقض الاستبداد الكواكبية.

وأغامر بالقول إن فكرته عن الاستبداد التي استمدها من خبرة تجواله في الهند البريطانية، واحتكاكه بالجالية الإيطالية في حلب، وبالأخص اطلاعه على أفكار المفكر الإيطالي ألفيري، منظِّر الديموقراطية في إيطاليا، أغامر بالقول إن فكرته لا تزال راهنة.

فهو يرى في الاستبداد أشكالاً ثلاثة: الاستبداد السياسي والاستبداد الديني والاستبداد الاقتصادي، جبروت الدولة ونفوذ الإكليروس وقوة المال. ولم تكن مصادفة ان تحمل الطبعات الأولى من الكتاب توقيعاً غفلاً: “الرحالة ك”، رغم إقامة المؤلف في القاهرة (بعيداً من دولة السلطان)، ذلك ان جبن الرعية – وفق تعبيره- مقيم، أما المستبد فشديد الخوف!

وخلافاً للتصور الشائع، لم يكتب الكواكبي ما كتب في فراغ، فهو يشير الى جملة من أقلام عصره التفتوا الى أمور الدولة، وفي السياسة كعلم قائم بذاته، متمسكين بفكرة الدستور والحريات السياسية والتنظيم الحديث للدولة، مثل رفاعة رافع الطهطاوي، وخير الدين باشا التونسي، وأحمد فارس الشدياق، وسليم البستاني (من بين العرب)، أو أحمد جودة باشا وكمال بك وسليمان باشا وحسن فهمي باشا ومدحت باشا (من بين العثمانيين).

لو التفت ذلك الجيل الى حالنا اليوم، لوجد -بعد انصرام قرن وتسع سنوات على وفاة الكواكبي- أن الاستبداد السياسي على أشده، بحزب واحد أو من دونه، وأن استبداد الإكليروس في ذروته، مقيماً استبداده الخاص المباشر باسم المقدس، لكأن جرعات الاستبداد السياسي وحدها لا تكفي.

ولعل الكواكبي كان سيعيد النظر في صياغة أحكامه لو صحا على الدولة الدينية- الريعية، التي تمسك بمقاليد السياسة والدين والثروة في آن.

هل ثمة حاجة للتذكير بالعراق اليوم؟ العالم العربي يتجه لفك احتكار النظام السياسي والعراق يسير في اتجاه معاكس: المزيد والمزيد من الاحتكار، والمزيد فالمزيد من قضم فضاءات الحرية الشحيحة. النزعة التسلطية، كما يسميها علماء السياسة، تقوم على اعلاء السلطة التنفيذية فوق ما عداها، بقضم استقلال القضاء وتحييد السلطة التشريعية (البرلمان) وازدراء السلطة الرابعة: سلطة الرأي العام، والأسلحة في ذلك وفيرة: وسائل العنف المتاحة للدولة، أدوات الإكراه وقوة المال (ادوات الغواية بالمناصب والعقود)، اي ريوع النفط التي تشكل اكثر من 90 في المئة من عوائد الدولة. ورغم ان هذه الثروة المجتمعية هي، من الوجهة القانونية، وديعة لدى النخب الحاكمة، فإنها تؤول الى أداة استلاب وان لم تكن عتلات القسر وجبروت الثروة بكافية، فثمة الاستلابُ الديني، غربة الإنسان عن عالمه الواقعي.

لعل بناة الأساطير القديمة كانوا يتوجسون مثل هذا المآل يوم صوَّر لهم خيالهم الطفولي تنيناً لا يُقهر، بثلاثة رؤوس، ينفث النار يميناً وشمالاً. ألاَ كم يشبه هذا حال الدولة “الحديثة”، لكن الأساطير ابتكرت لكل تنين، أو وحش أو بطل خرافي منيع على النبال والسيوف، نقطةَ ضعف صغيرة، سيفاً سحرياً لقطع رؤوس التنين، او منفذاً لخرق جلد او جسد البطل السحري (أخيل الإغريقي مثلاً).

العصر الحديث لا يحتاج الى ابطال وسحرة، فثمة الجموع المكتظة في المدن القادرة على تعطيل جنازير الدبابات، وثمة الكمبيوتر القادر على اختراق جدران العزلة الرسمية وهتك الأضاليل الرسمية، وثمة قوة الردع الأخلاقي التي تعم المعمورة… وثمة، وثمة.

ليست السياسة ملكاً عائلياً، ولا حكراً دينياً، ولا حيازة خاصة، فهي – وفق قول مقتضَب للكواكبي- “ادارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة”. والاستبداد تعريفاً -وفق رأيه أيضاً- “تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة”، وهو “صفة للحكومة المطلَقة العَنان فعلاً وحكماً”، وهو صفة تشمل “الحكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسؤول… لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هنا ارتباط في المسؤولية، فيكون المنفذون مسؤولين لدى [أمام] المشرعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة”.

باختصار، تقويض الفصل بين السلطات او ثلمه، هو -مؤسسياً- تقنية نهوض الاستبداد. وهو ما نراه جامحاً في بغداد هذه الأيام.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى