صفحات سوريةطيب تيزيني

العرب بين النهوض والانكسار/ د. طيب تيزيني

 

تتسارع عمليات التصدع والتفكك العربي في سوريا والعراق وفي نواحٍ أخرى من العالم العربي، دون أن يكون ذلك هو السمة الوحيدة في المشهد العربي، فقبل ثلاثة أعوام ونصف العام تقريباً اندلعت أيضاً أحداث «الربيع العربي» في تونس ومصر واليمن، وفي السودان، وتحولت مناسبات تحضير لانتخابات رئاسية وغيرها في الجزائر ولبنان.. الخ، لتشعل ناراً لم تنطفئ، وتُظهر أسراراً من الفساد والإفساد والاستبداد تضيف إلى هذا الكثير من مظاهر العسف والاضطراب في اكتشاف القواعد إن لم تكن القوانين الفاعلة في كل ذلك.

إن في العراق وسوريا خصوصاً ظاهرة خطيرة توغل في التسيّد باتجاه مزيد من تحويل العنف الجهنمي إلى الأسلوب الأساسي في مواجهة النظم الرسمية المهيمنة في العالم العربي أو في معظمه لجمهور المستهدفين ممن أُخرجوا من معادلة السلطة والثروة إضافة إلى مراكز الإعلام وقيادة المجتمع. في هذه الأحوال تبدو الأمور عربياً كأنها انتقام من مرحلة ازدهار الشعبوية مختلطة بأحول وروائح التشفّي ممن استعادوا أو راحوا يستعيدون أحلامهم في بعض العدل والحرية، أما الذراع الطويلة المؤدِّبة لجمهور تلك الشعبوية فقد انتقلت إلى مواقع الناس الأكثر فقراً وظلماً وأوهاماً، إضافة إلى المواقع الأيديولوجية الدينية القائمة على التكفير والتحذير من «يوم العقاب القادم»، إضافة إلى التأكيد على أن هذا «اليوم» صار أقرب من البياض إلى السواد.

لقد أخذنا نواجه هذا «اليوم الكوني الصارم» بلسان أولئك الفاقدين لكل شيء، وبدعم ممن يملك كل شيء. وإلا من هم هؤلاء الذين يعملون على «تأديب» أولئك «الكفرة»، الداعين إلى المساواة والكرامة؟ نعني، من هم حينئذ المنتمون إلى «داعش» وأمثالهم، الذين أحدثوا نقلة من «المرتدّين المظلومين» إلى سادتهم في بعض النظم الأمنية العربية! ذلك أن ما يحدث على ساحة القتال في العراق يتماثل مع ما يتم في بلدان عربية أخرى من «الربيع العربي» وإن اختلف عنه بكيفية أو بأخرى، أي مع إمكانية تباين كبير أو صغير في مجرى العمليتين كلتيهما. ها هنا، يتعين علينا أن نكشف عما يظهر أو ما قد يظهر خفياً، فلقد أعلن جمعٌ من المدافعين عن تلك النظم العربية الأمنية أن ما أخذنا نواجهه في بلدان «الربيع العربي» أو في ضغطها، إن هو إلا «دسيسة من عمل الشيطان»، أو «مؤامرة متحدرة من بلدان الغرب» بسبب النزعة الثأرية، التي تتملك هذا الأخير، مع الإضافة التالية، وهي أن أعداء النظام المعين، أي القائل بأن المتحالفين مع أعداء «الأمة العربية»، أو مع رؤوس النظم العربية «الوطنية» أي هم الذين راحوا يخترقون هذه النظم «الوطنية» على مشهد من هؤلاء أنفسهم. فلم يتوسلوا إلى أساليب اختراق سلمية فحسب بل راحوا يستخدمون السلاح، محققين بذلك عدة أهداف استراتيجية بوسائل بسيطة، هي التشكيك بوطنية المواطنين السوريين، إذ في هذه الحال، يفقد هؤلاء هويتهم الوطنية، لتُضفي عليهم هوية الخيانة، التي تقابلها برأيهم «هوية مندسّين». ووجدوا أن ما أضافوه إلى شخصيات هؤلاء «المندسّين» مطابق لقصد التهمة بحذافيرها، إنهم مندسّون مسلحون عملاء للأميركان أو الفرنسيين بل كذلك للصهيونيين!

وهؤلاء المسلحون يجري التفكير بضرورة استيلائهم من مصادر متعددة، تتراوح بين الفقراء والمظلومين والغارقين بأيديولوجية ظلامية فاحشة، وبين أولئك الذين تخمّرت في أذهانهم وحياتهم اليومية البائسة نوازع الثأر ممن اعتبروهم «المجاهدين» القادمين «في آخر الزمان» لمحْق «الكفرة والمارقين عن الدين»! ها هنا تحديداً اعتُبرت المعارك الدائرة بين «المواطنين» و«سادة المواطنين» معارك بين أديان وطوائف ومذاهب وإثنيات من طرف، وبين مثيلاتها لدى مجموعات أخرى من طرف آخر، فهي من ثم علاقات لا تمس واقع حال البشر، بل تمس في واقع الحال، ما لم يختاروه ويقبلوه إلا بفعل التوارث.

إن الصراعات التي تتأجج في المجتمعات العربية الراهنة تمثل -أولاً- رداً على مظاهر النهوض والتغيير التاريخي، التي جاءت في عملية التقدم التاريخي ومع حلول شتات سابق من مشروع نهضوي جديد، كادت تنتج بناء شامخاً من النهوض. لقد سقطت في قرننا هذا الحادي والعشرين ركائز مهمة في الثقافة والسياسة والاقتصاد وغيرها من مظاهر مشروع عربي في النهضة والتنوير والتقدم، فالاحتراب بين المعارضات العربية في بعض العالم العربي، وبين النظم، أطاح أو يكاد الآن يطيح بما وُلد من حالات وركائز مشروع عربي أطيح به أولاً على أيدي استعمار غربي أخذ مداه على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين. ويأتي الاحتراب الجديد الحالي في سياق «ربيع عربي» جديد، لينتج اعتقاداً بأن المشروع المُدافع عنه راهناً في بعض العالم العربي يجب أن يحذّر العرب النهضويين التنويريين من انتكاسة جديدة أكبر للمشروع العربي وعلى أيدي مجموعات تحمل شعارات التقدم الحضاري العربي والوحدة العربية والعلمانية، وتأتي المرحلة المعيشة الآن لتجد نفسك أمام معادلة صعبة، ولكن قابلة للتحقق، تلك هي أن العالم العربي يبقى أمامه أن ينجز الديمقراطية.

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى