صفحات الثقافةمحمد أبي سمرا

العريس المناضل/ محمد أبي سمرا

 

 

في صوري الفوتوغرافية التي تعود الى العام 1979، غالباً ما أظهر متقدماً عراضات الفوج الكشفي في ملعب المدرسة وساحة الضيعة. في يدي عصاً كانت لوالدي في شبابه، أيام كان يرعى الماعز في الجرد والمزارع، فبل أن يصير لحّاماً في الضيعة. على خصري يتدلّى مسدس معلّق بحزام جلدي. حول عنقي ينعقد فولار كشفي ملوّن. خلفي أكثر من خمسين من تلامذة مدرستي في ثيابهم الكشفية التي وزّعتُها مجاناً عليهم.

اليوم، وقد بلغت الخمسين من عمري، كلما نظرتُ الى هذه الصور حضرني ذلك التيه المسترسل الذي أخذني في فتوّتي المدرسية الكشفية وشبه العسكرية، ووسم سيرة حياتي كلّها بالتهوّر في ذلك الزمن الحربي في لبنان. فالمال الوفير الذي حصلتُ عليه من تنظيم مصطفى سعد الصيداوي الناصري، ومسدّسي الحربي الذي اشتريته بمبلغ من ذلك المال، والثياب والمستلزمات الكشفية التي زوّدنيها التنظيم نفسه، فوزّعتُها على أتباعي من التلامذة، منحتني حظوةً وشكيمة في قريتي الحدودية. قد يكون ساعدني في ما أقدمتُ عليه أنني سليل عائلة ظلّت فروعٌ منها مقيمة فطرياً على علاقاتها الموسعة الممتدة، وعلى نعرة عصبية رعوية جرديّة بدائية موروثة.

والدي هجر الجرد وقطعان الماعز، ليعمل لحّاماً في الضيعة، ثمّ عاملاً في مصنع بلاستيك بضاحية بيروت الشمالية الشرقية، فأقمنا في عين سعادة، وأمضيتُ سنيّ طفولتي تلميذاً متفوقاً في مدرسة لراهباتها الأنطونيات. لكنني لا أدري إن كانت إقامتي ومدرستي هناك لم تَقويا على انتزاع نبرة الرعيان الجردية ولهجتهم الحادة من حنجرتي وصوتي، أم انني استعدتهما بعد عودتي مع أسرتي الى الضيعة في العام 1973. ولا أدري أيضاً إن كان لهذا كله أثر واضح ومباشر في قوة شكيمتي، وفي تجاسري على الدخول الى منزل مصطفى سعد في صيدا لطلب حظوته ومستلزمات فوج كشفي تابع لتنظيمه في ضيعتي، فأكسبني هذا دالَّة أن يسلس أكثر من خمسين تلميذاً قيادهم لي في مدرستي. لم يُغوِني هذا وحدي، بل جعلني مدار اعتزاز والدي وفخاره، بعدما صرت في مدرستي الرسمية أقوى نفوذاً بين تلامذتها من معلميها، أولئك النافذين من محازبي “اتحاد قوى الشعب العامل” الذين أخذوا يهابونني. أمّي بدورها طارت فرحاً وزهواً بي، فعلّقت صور عراضاتي الكشفية على جدار في منزلنا، وأخذت نساء الضيعة يحسدنها ويتودَّدن إليها، كي لا تخيّب طلباتهن، كلما قالت إحداهنّ لصبيّ من أولادها: “روح يا ابني لعند خالتك أم محمد خلّيها تعطيك بدلة كشاف”. مزهوّةً كانت أمي تتكارم، فتعطي الصبي ما أراد، وتطلب مني أن أضمّه الى فوجي الكشفي، متضرعةً الى الله أن يوفّقني ويسدّدَ خطاي ويرضى عنّي في الدنيا والآخرة.

في المدرسة خاض معلّمو “الاتحاد” الناصري، السوري الولاء، حرباً ضروساً ضدّي، وضدّ فوجي الكشفي التابع لتنظيم ناصري آخر، كان آنذاك لا يزال على قائمة موالي “فتح” الفلسطينية، قبل انقلابه الى موالاة النظام السوري، غداة الحملة العسكرية الاسرائيلية على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وترحيل مقاتليها من بيروت صيف 1982. لكن هذه الولاءات لم تكن لتغيّر شيئاً في مجرى حرب النفوذ ومسرحها المدرسي والقروي، حيث نشبت جولات عراك بين فوجي الكشفي وتلامذة “الاتحاد” الناصري، شارك فيها المعلّمون، مما حمل مدير المدرسة، المسالم، الضعيف الشخصية والعصبية العائلية، على التخلّي عن منصبه لمعلّم من عائلتي يقود “الاتحاد” في الضيعة، علَّ عصبيته العائلية القوية وصلة القربى بيننا تمكّنانه من ضبط فوضى الحياة المدرسية، ومن كبح اندفاعي المشاكس، وتحدّ من المشاجرات شبه اليومية بين التلامذة. لكنني سرعان ما بادرتُ الى حسم المجابهة، فدخلتُ في صباح نهارٍ الى مكتب المدير الجديد شاهراً مسدسي الذي وضعتُهُ على طاولة مكتبه، وقلت له: فلنبدأ من النهاية يا حضرة المدير، ولنضع جانباً ما بيننا من قربى وخلافات شخصية وعقائدية. أما في حال إقدامك على أيّ تصرف كيديٍّ حيال تلميذ من الفوج الكشفي في ما يتعلق بالعلامات المدرسية، فإنني على استعداد لتدمير المدرسة على رأسك ورأس اتحادك للشعب الخامل. وقبل أن أتناول مسدسي عن الطاولة وأخرج من مكتبه، ختمتُ كلامي قائلاً: أعذر من أنذر يا حضرة المدير. في نهاية ذلك العام الدراسي أُلغِيت الامتحانات الرسمية لشهادة المرحلة المتوسطة (البروفيه) في لبنان، بسبب الظروف الأمنية السائدة، فنجحتُ بتفوّق في الامتحانات المدرسية التي أجبت كيفما اتفق عن أسئلة مسابقاتها.

في بدايات ذلك الصيف (1979)، رأى والدي أن ما أنا عليه مع فوجي الكشفي في الضيعة لن يدوم، فقال لي إن عليَّ أن أفكر في مستقبلي، ما دمتُ أحمل شهادة تمكنني من الدخول الى الجيش اللبناني الذي يؤمّن لي راتباً ثابتاً. أعجبتني الفكرة وراق لي أن أنتقل من قائد كشفي يحمل مسدّساً في الضيعة الى جندي يحمل مسدّساً وبندقية في كلّ مكان. فشلتُ في دورتَي امتحانات دخول الى الجيش تقدمتُ اليهما من دون واسطة أحد، لكنني نجحتُ في دورة ثالثة لأن خالي توسّط لي مع مقدّم في اللجنة الفاحصة التي تقدمتُ منها في ثكنة عسكرية في صيدا. ما إن مثلتُ أمام اللجنة وسمع المقدّم اسمي، حتى سألني عن خالي، ثم قال لي: مبروك، مع السلامة، سلّم لي على خالك. في النهار الأول من أيار 1980 التحقتُ بالجيش اللبناني في ثكنة الفياضية. كنت في الثامنة عشرة من عمري، وفي ختام دورة تأهيل وتدريب استغرقت ثلاثة أشهر في حمّانا، وقفتُ مع عناصر دورتي لنتسلَّم مستندات إلحاقنا بمراكز خدمتنا العسكرية في قطع الجيش وثكنه المختلفة. وحدي من بين عناصر الدورة قال الضابط إنني أُلحقتُ بفوج العديد الذي لم أفهم ماذا يكون، ورأيتُ زملائي ينظرون إليَّ مندهشين. ما هو العديد؟! سألتُ الضابط، فقال: لا تعلم ما هو العديد يا حمار؟! مَنْ توسَّط لكَ، ألم يقل لكَ ما هو العديد؟ كنت قد نسيتُ أن والدي كلّم في شأني جندياً في رتبة عريف من قرية تجاور قريتنا، لكنني قلت للضابط إن لا واسطة لي، فأخذ يهزّ رأسه متمتماً، فيما قال لي زميل يقف الى جانبي أن أضحك في “عبّي”، وإن فوج العديد عمله إداري في مقرّ قيادة أركان الجيش في وزارة الدفاع.

مسيحياً كان الضابط الذي تلا أسماءنا حسب مراكز إلحاقنا، فتذكرتُ أن موعد بدء دورة التدريب كان قد أُجّل لمرتين أو ثلاث في انتظار اكتمال عدد الجنود المسيحيين المفروض أن يساوي عدد المسلمين في الدورة، حرصاً على التوازن الطائفي في الجيش. لكن الدورة بدأت أخيراً، بعدد من الجنود الأغرار المسيحيين أقلّ من عدد المسلمين. قسوة التدريب طوال النهار، ومهانة أن يُحشَر كالأغنام كلّ 25 غراً منا في هنغار واحد في الليل، لم ينالا من عزيمتي واندفاعي وسروري بأن أصير جندياً في الجيش. أما بذاءة الضبّاط والمدرّبين وإهاناتهم وهم يكلّموننا، فسنحتْ عنها واكتشفت كم هي راسخة ومتفشية الحساسيات والنعرات الطائفية التي لم يكن لي عهد بدرجة قوتها وعمقها قبل دخولي سلك الجيش. فهي تعصف مكتومة في علاقاته الداخلية، ولا تخلو الإجراءات والمعاملات، إلاّ في ما ندر، من دبيبها المختنق والخانق. لكن هذا كله لم يقلّل إصراري على اجتياز الدورة بسلام، لألتحق، أخيراً، بوزارة الدفاع في اليرزة، جندياً إدارياً، فأطّلعتُ على قوانين النظام العسكري وتصنيفات عقوباته وترميزاته، وبدأتُ عملي الإداري ما بين الثامنة صباحاً والثانية بعد الظهر. أعجبني هذا العمل المميّز وراق لي، فضلاً عن راتب شهري قدره 450 ليرة لبنانية، فاعتبرتُ أنني محظوظ ما دام لديَّ، بعد دوام وظيفي لا يتجاوز الساعات الست في اليوم، وقتاً طويلاً أصرفه حيثما أشاء وعلى هواي، مرتدياً ثيابي المدنية أو العسكرية، حسب رغبتي وإرادتي، إلاّ أثناء عملي في الوزارة، حيث كان عليَّ ارتداء الزيّ العسكري. أما مبيتي فكان غالباً في بيت خالتي في بيروت، بعد طوافي على بيوت مَن أعرفهم من أبناء ضيعتي في أحياء العاصمة وضاحيتها الجنوبية.

دعيتُ مرة الى حفلة عرس صبيّة من ضيعتنا، يقيم أهلها في حارة الناعمة. كنت فرحاً ومسروراً بنفسي، فلم أتوقف عن الرقص مع صبية تعرفتُ اليها في الحفلة، وأعجبتني. كانت شقراء جميلة ومنمنمة الجسم، وفي الرابعة عشرة ربيعاً، ومضت مدة قصيرة على تركها المدرسة. بعد وقت من رقصنا معاً، سمعتُ امرأة تزغرد مردِّدةً إسمي، وسرعان ما علمتُ أنها أمّ الصبيّة التي أراقصها، وأدّت زغردتها الفرِحة بي الى زواجي من ابنتها بعد ستة أشهر، قبل تجاوزي التاسعة عشرة من عمري. في ختام الليلة الأولى من عرسي في بيتنا في الضيعة، دخلتُ على عروسي، فاكتشفتُ أنها ليست عذراء، فكتمتُ الأمر عنها كأنني لم اكتشفه. صبيحة النهار التالي استدعيتُ أمّها الى بيت أهلي، وطلبتُ منها أن نتحادث منفردين. كانت تشبه ابنتها كثيراً وتكبرها بـ15 سنة فقط، فاختليتُ بها في الغرفة التي دخلتُ فيها على عروسي. أطلعتُها على اكتشافي حال ابنتها، فاقرّتْ به، وأخذت تنتحب مقبّلة يديَّ، متضرِّعة إليَّ بأن يستر الله عليَّ وعلى عرضي، ولأن أستر على ابنتها التي قالت إنها شريفة ولم تخطئ، لكن الحظ خانها، والحياة قسمة ونصيب، والله عثّرها لأن شاباً “عكروتاً إبن عكروت” وأكبر منها بكثير، اعتدى عليها في غفلة منها واغتصبها قبل بلوغها. كنت شديد الغضب، لكنني رثيتُ لحالها وحالي، وظللتُ صامتاً في حركتي المتوترة جيئةً وذهاباً في الغرفة، ملتفتاً الى صور عراضاتي الكشفية المعلّقة على جدارٍ من جدرانها تنيره خيوط ضوء الصباح المتسللة من شقوق النافذة المقفلة. أتذكر أن غضبي المتصاعد أخذ يخفت قليلاً أثناء حركة المرأة حولي باكيةً، واقترابها مني وإلصاقها جسمها بجسمي وهي تضمّني لمرّتين أو ثلاث الى صدرها، ففوجئتُ بأنني أُثِرتُ واشتعلتْ رغبتي، فيما كانت تخبرني بصوتها الخافت المتقطع المنتحب، كيف غرّر ذلك الشاب بابنتها واغتصبها. ثم ختمت قصتها راغبةً إليَّ بأن نُبقي الأمر سرّاً دفيناً بيننا، فلا أدع عروسي تشعر بأنني اكتشفتُ سرّها، لقاء أن تسعى، هي الأمّ، الى تسفيري الى السعودية، حيث يعمل زوجها الثري، مما يمكّنني من تحصيل ثروة في سنتين أو ثلاث.

فجأةً، فيما كنت لا أزال مُثاراً أو غاضباً، تذكرتُ ليلى، معلّمة المدرسة الخاصة في قريتي، واستعدتُ لقائي الأخير بها في فندق ببيروت، وتخيّلتُ كيف سنلتقي خفية عن زوجها الشيخ في السعودية. في ختام خلوتي بأمّ عروسي، وجدتُني أقترب منها وأعانقها عناقاً ملتهباً، وألتهم شفتيها المبللتين بدموعها، فشعرتُ بأنها تستجيب شهوتي في تلك القبلة المفاجئة التي أنهيناها صامتين، وصامتين خرجنا من الغرفة، فبدا لي وجهها مشرقاً في ضوء الصباح. لكن القبلة تلك هي التي جعلتني أكفر بجنس النساء اللواتي تزوّجت منهنّ تسعاً، وطلَّقتهنّ تباعاً، بعد طلاقي من تلك الأولى التي كتمتُ عنها ما روته لي أمّها، وأكملنا أيام عرسنا في بيت أهلي في الضيعة، مدارياً كمدي وقرفي.

أخذ شعوري بأنني غُدِرتُ يتفاقم ممزوجاً بقلقٍ مضنٍ لا عهد لي به من قبل، ولا بذلك النفور المكتوم من فتاةٍ هي زوجتي التي رحتُ أدخلها كل ليلة مدفوعاً بشهوة الانتقام منها ومن أمّها ومن نفسي، فتكتم ألمها وصراخها. كنت على هذه الحال عندما قدّمتُ استقالتي من الجيش الذي أخذت هيبته تتداعى أمام ميليشيات الحرب الناقمة عليه، مما جعل تنقّل الجنود بين المناطق المسيحية والإسلامية، محفوفاً بالخوف والإهانة. كأنني هاربٌ من هذا كلّه، حالمٌ بالثروة، تركتُ زوجتي في بيت أمّها، وسافرتُ إلى السعودية لأعمل مع والدها هناك. في مطار الرياض عملتُ مسؤولاً عن عشرين من العمّال غير السعوديين، ينقلون التموين إلى الطائرات. سريعاً أرهقني ثقل الحياة وخمولها واختناقها الصحراوي في السعودية، حيث لمرة واحدة، ومصادفةً، التقيتُ المعلّمة القديمة في القرية، ليلى. على مدخل صالون بيت عائلة من الضيعة مهاجرة في السعودية، التقينا، فلم أنتبه إلى أنها هي ليلى إلاّ بعد لحظات من دخولي إلى الصالون، فعدت مسرعاً إلى مدخله وناديتُها باسمها، فالتفتتْ، لكنها لم تمدَّ يدها من تحت ذلك الكفن الأسود الذي كانت ترتديه، وغادرتْ مسرعةً إلى غرفة داخلية، فظلَّتْ يدي التي مددتُها لأسلّم عليها معلَّقة في الفراغ، وسمعتُ من عمق الصالون الذي يغصّ بالرجال صوتاً حلقياً مقعّراً يقول: لا يجوز يا بني، لا يجوز، إتّقِ الله، إن الله لا يحبّ إلاّ المتّقين. كتمتُ قهقهتي ملتفتاً إلى مصدر الصوت، فرأيت رجلاً دميم الوجه ضخم الجثة، متكوّراً داخل عباءة بيضاء فضفاضة، وعلى رأسه عمامة سوداء تتدلى أطرافها على كتفيه.

عدتُ إلى الصالون وجلستُ قرب شابٍ أعرفه، أخبرني بأن رجل العباءة والعمامة هو زوج ليلى الشيخ، ففكرتُ أنه لم يبقِ لي منها شيئاً، وصارت تشبهه، حتى اسمها لم يعد لها، وصار غريباً عنها وعني. في تلك اللحظة قررتُ أن أعود الى لبنان، وأن أطلّق زوجتي الصبية الصغيرة. لكنني حين عدت، وكان ذلك في صيف 1981، وقالت لي زوجتي إنها في الشهر ما قبل الأخير من حملها، أجّلتُ طلاقها إلى ما بعد وضعها مولودها في مستشفى غزة الفلسطيني في محلّة صبرا. مكثتُ أياماً إلى جانبها مع أمّها في بيتهم بحارة الناعمة. في ليلةٍ حاولت أمّ زوجتي إغوائي، لكنني في الصباح غادرتُ إلى الضيعة، ومن هناك أرسلتُ إليها معاملة طلاق ابنتها.

أمضيتُ شهرين أو ثلاثة في الضيعة قانطاً لا أدري ماذا أفعل. إلى جانب صوري الكشفية على جدار غرفة زواجي في بيتنا، كانت أمّي قد علّقت صوري جندياً في دورة التدريب العسكري، فأحزنها نزعي الصور، وكذلك عزوفي عن استقبال مطلّقتي وأمّها، ومغادرتي البيت فور وصولهما قادمتين من حارة الناعمة حاملتين طفلي البكر. لكن أمّي انقلب حزنها سروراً من فعلتي، إذ علمتُ أنها ودّعت مطلّقتي وأمّها بأقذع الشتائم، بعدما اكتشفتْ أن هدف زيارتهما هو ترك الطفل الرضيع في بيتنا لنربّيه ونرعاه. فبعد عودتي مساءً، روت لي أمّي وقائع شجارها وإيّاهما، وكيف حملت الرضيع الذي تركتاه على المصطبة، وركضت به خلفهما صارخة مهدِّدة بأنها سوف ترميه للكلاب إن لم تعودا لأخذه. كان غضبها لا يزال حامياً وهي تروي ما حدث وتؤدّيه بحركات من جسمها، فعصرتْ ثدييها تحت قماش فستانها قائلة إنها صرخت في وجهيهما أن من أين لها بالحليب كي ترضع الطفل؟! ظللْتُ واقفاً في مكاني، ساهم البصر صامتاً برماً، كأنني استمع الى حكاية قديمة. فجأة دوّى طلقٌ ناريّ في مكانٍ في الضيعة، ثم تبعته رشقات كثيرة مختلفة الدويّ والأصداء. حين تصاعدتْ صرخات رجال، تبعها، بعد لحظاتٍ، عويل نساءٍ، قدّرتُ أن اشتباكاً وقع في ساحة الضيعة، فركضتُ في اتجاهها غير مكترثٍ بصراخ أمّي: دخيلك يا ابني، دخيلك، خلّيك خلّيك هون. شو بدّنا فيهن، بيضلّوا يتقاوسوا، ينقبروا، إن شاء الله ما بيطلع منهم مخبّر ولا بيضلّ منهم حدا… كان رجع كلماتها لا يزال يتردّد في رأسي وأنا أركض لاهتاً، فيما أخذ العويل يعلو كلّما اقتربتُ من الساحة، حيث بانت لي أطراف جمهرة كبيرة تحت أضواء مصابيحها الشاحبة في عتمة المساء. من وسط الجمهرة انطلق صراخ امرأة مردِّدةً بصوت نائح كالنادبات: دخيلك يا خيّي، دخيلك، أتلوك؟! (قتلوك؟!) وين بدّي شحّر منديلي، وين؟! دخيلك يا خيّي، لوين رايح وتاركنا؟!، فاخترقتُ الجمهرة موقناً أن أحداً ما قد أصيب في إطلاق النار، لكنني سريعاً اندفعتُ متراجعاً الى الوراء مع رجالٍ ونساء كثيرين دفعوني في تراجعهم متفرّقين، لتنطلق من بينهم سيارة أضاءت مصابيحها جزءاً من الساحة، وتراكضت خلفها نساء صارخات، فأدركتُ أنهم وضعوا الشخص المصاب في السيارة التي انطلقت به الى خارج الضيعة. فتىً من قدامى فوجي الكشفي يحمل بندقية كلاشنيكوف، أخبرني بأن شجاراً مسلّحاً وقع بعدما وصلتْ الى الساحة شاحنةٌ حاملة مساعدات من أكياس الطحين لتوزيعها على أهالي الضيعة، فأصيب رؤوف هاجر، مسؤول تنظيم “المرابطون”، برصاصة في رأسه.

كنت أعلم أن كثيرين من فتيان فوجي الكشفي توزّعوا على “المرابطون” و”اتحاد قوى الشعب العامل”، بعد مغادرتي الضيعة والتحاقي بالجيش اللبناني، فدارت بين الجماعتين مشاجرات وصلتني أخبارها الى بيروت والسعودية. وعقب يومين أو ثلاثة من عودتي الى الضيعة، أخذ يتوافد الى بيت أهلي فتيان كانوا أتباعي في الفوج راغبين إليَّ أن أعيد بعثه من جديد تنظيماً مسلّحاً، كي يتخلّوا عن تنظيمهم ويلتحقوا بي، لأنهم يحبّون قيادتي.

أخيراً أتاني رؤوف هاجر نفسه وأخذ يرجوني كي أنضمّ إلى تنظيم “المرابطون” وأتولّى قيادته العسكرية في الضيعة، ليتفرّغ هو لقيادته السياسية ووظيفته معلّماً في المدرسة الرسمية، فوعدته بأنني سأفكر في الأمر إن لم أغادر الضيعة إلى بيروت. حاول إغرائي براتب شهري مرتفع، لكنني تصنّعتُ الغضب وقلت له إن الثورة والقضية اللتين تجريان مع الدم في عروقي أهمّ من المال. كنت أعلم أنه طيّب القلب والإرادة، مخلص في نشاطه وفي ما يقدّمه من خدمات لأهالي الضيعة، وكثيراً ما يحمل أكياس الطحين على ظهره ليوصلها إلى بعض البيوت المحتاجة، وأنني أحرجتُه في جوابي، فقام عن الكرسي على مصطبة بيت أهلي، وغادر في صمت، كاتماً حرجه واستياءه مني.

بعد إصابته بطلقٍ ناريّ في ذلك المساء، ظلّ أقاربه وجيرانه وبعض من رجال العائلات بينهم معلّمون في المدرسة، ساهرين مع أهله في بيتهم. أما المسلحون الذين كانوا حاضرين في ساحة الضيعة من غير تنظيم “المرابطون” في وقت وقوع الشجار وإطلاق النار، فلم يناموا في بيوتهم. بعضهم لجأ إلى بيوت أقاربهم في الضيعة، وآخرون فرّوا ليلاً إلى بيوت أهلهم في بيروت والبقاع. المسلّحون الذين تجمهروا في الساحة عند وقوع الحادثة مساءً، كانوا في معظمهم فتياناً وشبّاناً من منظمات وعائلات مختلفة، وأمضى كثيرون منهم ساعات ما بعد الظهر يتمشّون معاً على الطريق ما بين ساحة الضيعة ومدخلها في انتظار وصول شاحنة مساعدات الطحين. كانوا يحملون بنادقهم، هكذا، للتباهي بها في استقبال الشاحنة ومواكبتها وحمايتها، على ما تعوّدوا في مناسبات قروية في السنوات الخمس الأخيرة.

أنا الذي كنتُ من المشاركين في تلك العادة المستجدة، وسمعتُ من شاب كان أحد مساعديَّ في تنظيمي الكشفي رواية ما حدث، تخيّلتُهم متجمعين عند مدخل الضيعة لحظة وصول الشاحنة، ثمّ متراكضين نحوها فرحين، صارخين هازجين وملوّحين ببنادقهم. في عمق المشهد الذي تخيّلتُه لهم، تراءت لي ظلال مشهد قديم لفتيان كانوا في عصارى النهارات يتراكضون من بيوتهم الى الكرّوسة حين يسمعون زمّور بوسطة الضيعة قادمة من بيروت، فيروح بعضهم يركض خلفها ويتعلّق بمؤخّرتها، غير آبه لشتائم معاونها الذي يُخرج جسمه كله من بابها الخلفي متشبثاً بحديد النافذة. لقد ولّى ذلك الزمن، زمن دهشة الأطفال والفتيان بالبوسطة وزمّورها الغريب الذي كان سائقها يتمادى في إطلاقه عالياً صخَّاباً قبل وصوله إلى مدخل الضيعة، محتفلاً بعودته إليها، فتقول بعض النسوة: جاء العرس، مشبِّهات نغمات الزمّور بالزغاريد في الأعراس.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى