حازم نهارصفحات الرأي

العقد الاجتماعي الجديد لسوريا

حازم نهار

 استمرت فكرة “القومية العربية” كمبدأ مؤسِّس للدولة في سورية منذ استيلاء البعث على السلطة عام 1963، وانعكس ذلك في اسمها “الجمهورية العربية السورية”، وفي انتماء القطر السوري إلى الوطن العربي، وحتى على انتماء الفرد، فكون المرء سورياً يعني كونه عربياً بالضرورة، أي أن السلطة تصرفت كما لو أن كل السوريين عرب، ولا يهم إن كانوا أكرادا أو أرمن وشراكسة أو آشوريين، فهذه الهويات السابقة للهوية العربية لا وجود لها من وجهة نظر أيديولوجية البعث.

 هذه الوحدة في الهوية تمحو بشكل صريح أي انتماء إثني أو عرقي آخر في مسعى معلن لحالة من الاندماج القسري في مجتمع متعدد الإثنيات. واليوم بعد مرور سنتين على الثورة السورية، وما خلقته من تحفيز كبير للتعبير عن الرأي، وإظهار لكل الانتماءات التي صمتت قسراً، هل يمكن أن تستمر “القومية العربية” الرابط الموحد لثلاثة وعشرين مليوناً من سكان هذه الدولة؟

 على الرغم من سيطرة العقيدة البعثية القومية على الفضاء العام للدولة والمجتمع، إلا أن الواقع الذي كان سائداً، وإن لم يكن معترفاً به رسمياً، هو أن التمثيل في النظام السياسي السوري كان يقوم على الانتماء الديني والعرقي، إذ كان يجري اعتماد حصص في “الانتخابات” بقصد عدم إغضاب أي مجموعة، وكانت هذه الحصص مرتبطة بالضرورة بمصالح اقتصادية وجهوية بالسلطة القائمة.

 لا بد من الإقرار بأن تجاهل الهويات المحلية يمنع بالضرورة انبثاق هوية سورية قادرة على إعطاء معنى حقيقي لكلام المرء عن نفسه عندما يقول “أنا سوري”، وهو ما أدى في السابق إلى انطواء كل جماعة إثنية على هويتها. ومن شأن هذه الحال إن لم تعالج أن تؤدي إلى ضياع أي إمكانية لتحقق هوية وطنية، بل وربما الإضرار بوحدة أراضي الدولة السورية.

 المشكلة بالأساس هي مشكلة أصحاب الخطاب القومي العربي الذي كان في العموم خطاباً أيديولوجياً غائباً عن الواقع ومتخماً بالأوهام الذاتية، وهو ما سمح بظهور نظم قومية شمولية، ترفع شعارات قومية، في حين كانت ممارساتها ما دون وطنية، فقد أعادت في المآل إنتاج القبلية والعشائرية والعنصرية والمذهبية، وانحطت بالممارسة السياسية إلى الدرك الأسفل، وكانت في الحقيقة كارثة على العرب وغيرهم، وجدنا مظاهرها في العراق وسورية وليبية.

 لم يفهم الفكر القومي التقليدي “القومية العربية” إلا على أساس إثني عرقي يتمظهر في اللغة والتاريخ، وغيرهما مما يسمى “مقومات القومية العربية” التي أُتخمت بها كتب المدارس والجامعات، ومن هنا كانت معاني “الأمة العربية” تستمد وجودها من الماضي والذاكرة والأصل فحسب، فيما الحاضر والمستقبل غائبان. وفي الجانب العملي “المتخيل” كانت “القومية العربية” مجرد تجميع كمي لوحدات وكيانات مجزأة في مواجهة الخارج والمخططات والمؤامرات، ولم تكن سعياً لتحديث بنى المجتمع وإحلال الديمقراطية والاعتراف بحقوق الإنسان والمواطن.

 نزع الفكر القومي التقليدي “المشروعية” عن الدولة القائمة في الحاضر، أي الدولة القطرية، ونظر إليها -صراحة أو ضمناً- باعتبارها دولة مرذولة ومؤقتة. وهو يعارضها بدولة عربية واحدة متخيلة وغير موجودة إلا في الذهن. كذلك فعل الإسلاميون الذين رفضوا الدولة القائمة لصالح الدولة الإسلامية، وكذا الأمر حدث مع الاشتراكيين والشيوعيين الذين احتقروها لصالح الإيمان بالأممية البروليتارية. ومن البديهي القول أنه طالما ظل النظر إلى هذه الدولة باعتبارها مؤقتة وكريهة فإنه من الصعب بناء هوية وطنية.

 المدهش في الأمر أن معظم السياسيين يتذكرون ويستحضرون كل شيء إلا الواقع القائم، مع أن السياسة هي العمل في الواقع لا في المتخيلات، فضلاً عن كون الواقع هو الحاسم في المآل. فقد أهمل السياسيون الدولة والاقتصاد والمجتمع والهويات المختلفة وظلوا يعيشون في عالم الأهداف المتخيلة. والأنكى أن الخوف على الحلم الوحدوي جعل أصحاب الفكر القومي التقليدي يهملون أهمية تحول الدول القائمة إلى دول وطنية حديثة، لصالح الانشغال بخطاب التحشيد والتعبئة الذي لا يقدم ولا يؤخر، وكأن الحلم الوحدوي لا يقوم إلا على أنقاض دول محطمة.

 إن الافتراض الأكثر واقعية هو أن أي مشروع وحدوي ناجح لن يقوم إلا بعد تحويل الدول القائمة إلى دول وطنية ديمقراطية حديثة. وفي هذا السياق، فإنه ينبغي في سورية الانتقال من أفكار “القومية العربية” المتخيلة إلى الوطنية السورية الممكنة التي ظهرت بذورها في خضم الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، ومحاولة بناء الثقافة الوطنية السورية، بما هي فضاء روحي مشترك بين جميع السوريين، وحاضنة لتطور الثقافات العربية وغير العربية، وميدان منفتح على الثقافة الإنسانية.

 فالسوريون مطالبون اليوم بإعادة بناء الهوية الوطنية السورية بالانطلاق من الواقع الحاضر وآفاق المستقبل، وليس الاكتفاء بالركون إلى الأصول والموروثات، وذلك على اعتبار أن الهوية، هوية أي فرد أو مجموعة بشرية، هي كائن متجدِّد على الدوام، وينبغي إعادة بنائها في كل لحظة من حاجات الواقع الراهن وأفق المستقبل، وليس النظر إليها باعتبارها شيئاً تكون في الماضي وانتهى.

 هذه الهوية الوطنية تحتاج إلى إطلاق سيرورة الاندماج الوطني أو الوحدة الوطنية، بما يأخذ المجتمع السوري بعيداً من حالة التشظي والتناثر والانقسام والتحاجز. على ألا يفهم من ذلك الصهر والتذويب إنما وحدة التعدد والاختلاف. وهذا هو وحده ما يسمح بولادة دولة وطنية ديمقراطية حديثة على أساس المواطنة المتساوية، وليس على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي.

 كل تجارب البلدان التي سارت في طريق إلغاء التمايزات والاختلافات في مجتمعاتها كانت تجارب عبثية وغير عقلانية. بالتالي لابد من الإقرار بعدم واقعية (وحتى مشروعية) إقامة دولة نقية عرقياً ودينياً ومذهبياً ولغوياً وثقافياً. فهذا غير ممكن من دون عمليات الاضطهاد والتمييز والتطهير العرقي والديني والثقافي، وهناك تجارب كثيرة في التاريخ تؤكد فشل هذا المسعى وكارثيته.

 كل هذا يعني في هذه اللحظة ضرورة وضع الثلاثية التالية: الدولة السورية، الشعب السوري، المواطن السوري، كأساس ومرتكز ومنطلق للتعاطي مع أي قضايا أو إشكالات مطروحة على السوريين. أما الحديث عن شعب كردي وشعب عربي وشعب تركماني وشعب آثوري في سورية فميدانه المجتمع المدني السوري المنفتح على كل الآراء والمصالح، بما فيها الأحزاب السياسية السورية. وبالتالي لا ينبغي للدستور السوري الجديد أو العقد الاجتماعي الجديد أن يتحدث إلا عن الدولة السورية والشعب السوري والمواطن السوري.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى