صفحات الرأي

العقل الذي أعلن الخلافة/ منال لطفي

 

 

لا يعتقد أحد أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام خطّط لإعلان الخلافة بفترة طويلة قبل الإعلان الفعلي على الرغم من أن الفكرة جزء من عقيدته. ويميل من يعرفون مجريات ما يحدث على الأرض إلى الاعتقاد أن “داعش”، التي لم تكن تعرف أن وحدات الجيش العراقي ستنسحب كلياً من أمامها، فوجئت بسلاسة تمدّدها في الموصل. وكان القرار بإعلان الخلافة سريعاً جداً. فالمجموعات القيادية تتحرّك معاً وعددها قليل ولم يكن هناك داع للخلاف، فالجميع كان متفقاً على الخطوة. وبحسابات المكسب والخسارة، كان لدى “داعش” الكثير مما يمكن أن تكسبه والقليل مما يمكن أن تخسره. فإعلان الخلافة يشكل قاعدة تأسيسية لسلطتها السياسية والدينية.

سيف الله يوسف أحد النشطاء الإعلاميين في “داعش” يوضح: “نحن كنا نعتبر أنفسنا خلال الأعوام الماضية حكومة منفى، الهدف منها التحضير للتحول لخلافة إسلامية عبر تجييش المقاتلين، والتمكن من الأرض، ونشر أفكارنا وأهدافنا وإضعاف العدو. لقد تحققت كل هذه الشروط في العامين الماضيين وبات من الطبيعي أن نتحول من حكومة منفى إلى خلافة كاملة الأركان، ونحن نراها كاملة الأركان والشرعية. وهى وإن لم تصل بعد إلى التمدد على كل الأراضي، إلا انها أكتملت كرمز ديني ينتظم المسلمون حوله”. ويقلل يوسف من تأثير الانتقادات التي وجهت إلى “داعش” أثر إعلان الخلافة : “كلها إيلكترونية، أما نحن فنبني الدولة يوماً بعد يوم. قد يتصوّر البعض أن الخلافة خيالات وأحلام، أقول لهم: تعالوا وأنظروا بأنفسكم إلى ما هو موجود على الأرض”.

ولا تعدم “داعش” إلى جانب ناشطيها مدافعين عنها. ففي بيان باسم “رفع الملام عن مجاهدي دولة الإسلام في العراق والشام” دافع أحد المنظرين الجهاديين الجدد أبو المنذر الشنقيطي عن الخطوة، مفنداً الحجج المعارضة، “فإن قال قائل: بأي حق تنفرد جماعة من المسلمين عن سائر الجماعات بهذا الأمر الجلل؟ قلنا: بحق الأسبقية لقوله صلى الله عليه وسلم: فوا ببيعة الأول… ثم إن المجاهدين في دولة الإسلام لم يسعوا إلى التفرد بهذا الأمر وإنما أسسوا الدار وفتحوا الباب ودعوا الناس إلى الدخول وقالوا الأمر أمركم والدولة دولتكم”.

أما عن شخصية أبو بكر البغدادي الذي نصبته “داعش” خليفة للمسلمين وعدم معرفة عموم المسلمين به، فيقول إنه ليس من أركان البيعة رؤية الإمام من طرف الجميع، وقد تحدث البيعة بالرسائل والمكاتبات، و”أما إذا كان العذر في عدم مبايعة الدولة هو الضعف وعدم التمكين وكانت هذه الجماعات تعلم أن تكوين الدولة الإسلامية واجب وتعلم أن وجودها لا يتحقق إلا بتوحد جميع الجماعات المجاهدة وتعلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذا كانت تعلم كل ذلك، فلم لا تبادر إلى مبايعة الدولة؟”.

ويصف محلل غربي يعمل في وزارة خارجية دولة أوروبية إعلان الخلافة بـ”قرار علاقات عامة بامتياز وفي توقيت جيد أيضاً. فمن الناحية السياسية يعطي القرار زخماً فورياً لـ”داعش” وسمعة وانتشاراً وامتداداً. وقد يساعد على تجنيد المزيد من الشباب صغار السن من الجهاديين الأوروبيين. أما عقائدياً فهو ينسجم تماماً مع خطاب وتحركات “داعش” على الأرض. ففي أدبيات الحركة فكرة إحياء الخلافة هو ما يمايزها عن باقي التنظيمات الجهادية والإخوانية والقاعدة”.

كما أن الطريقة التي تتحرك بها “داعش” على الأرض تتلاقى ولا تتنافر مع إعلان الخلافة، فالتنظيم في حالة تحرك مستمرّ وتقوم استراتيجيته على التمدّد في الأطراف وليس المراكز. فمثلاً لم يعط التنظيم حتى الآن اهتماماً للاستيلاء على دمشق أو بغداد. وفي حلب مثلاً اهتموا بأطرافها وتركوا مركز المدينة لمقاتلي الجيش السوري الحرّ وجبهة النصرة. وهم يفضلون الانتشار في الأطراف لعدة أسباب أهمها أن الكثير منها غني بالموادر الطبيعية والنفط والغاز ما يجعل تمويل الدولة الإسلامية مستقلاً وداخلياً.

والسيطرة على الأطراف تعني ضمناً التعامل مع عدد أقل من السكان وبالتالي مع مقاومة أضعف. فالتنظيم يسيطر اليوم على مساحة شاسعة من الأراضي السورية الغنية بالنفط تمتد من حدود العراق شرقاً وحتى الباب في ريف حلب غرباً، مروراً بمحافظة الرقة، أو ما يعادل خمس مرات مساحة لبنان، بعدد لا يتجاوز 15 ألف مقاتل محسوب على “داعش” تنظيمياً.

وفي معادلة الهوامش وليس المركز، والموارد وليس السكان، تستطيع داعش أن تسيطر وتحكم لفترة طويلة. فالموارد تشتري ولاءات السكان. وبرغم تركيز وسائل الإعلام على “استراتيجية الرعب” التي تنتهجها داعش في المناطق التي استولت عليها عبر قتل المعارضين من “الجيش الحر” و”جبهة النصرة” وأي فصيل إسلامي معارض لها، وفرض النقاب وتطبيق الحدود، يجد سكان محليون “داعش” مفيدة ويمكن التعامل معها. فمع “داعش” تأتي العملة الصعبة وفرص عمل وأمن ومصالح متبادلة. ولا تطلب “داعش” في المقابل غير “المبايعة”. ففي اسطنبول كان تاجر أدوية سوري من الرقة يحكي بامتنان كيف دعمه مقاتلون من “داعش” كي ينال تصريحاً لتجارة الأدوية بين اسطنبول والرقة. أحد ملاك الأراضي الكبار في الرقة أصبح عضواً في المجلس المحلي لـ”داعش” في المدينة الذي يضمّ زعماء قبائل محلية إلى جانب مقاتلين من التنظيم. شباب الرقة يرون المطاعم مليئة بزبائن جدد، بعضهم غربي الملامح ولا يتحدثون العربية، لكن الكلّ يدفع بالدولار.

وعلى عكس تنظيم “القاعدة”، فإن هرم القيادة والقاعدة التنظيمية داخل “داعش” يتكون من شرائح عمرية صغيرة السن، الكثير منها من أوروبا. هؤلاء يقاتلون بمضادات الطائرات بيد، وفي اليد الأخرى “آي فون” و”آي باد” للدخول على تويتر وفيسبوك لتحديث تطورات المعركة على الأرض. يتخاطب الكثير بينهم بالانكليزية والفرنسية والألمانية والروسية. وهؤلاء كانوا من بين الأكثر حماسة لإعلان الخلافة.

ومع الجانب العقائدي يمكن اعتبار إعلان الخلافة خطوة تكتيكية من قبل “داعش” لإظهار هامشية “القاعدة” وتقلص دورها في الساحة الدولية، والفجوة الكبيرة بينها وبين الجيل الجديد في الحركة الجهادية العالمية.

فمنذ إعلان الخلافة انضمت لـ”داعش” تنظيمات مثل “جيش الصحابة” و”لواء أحرار السنّة” وفصائل إسلامية في ليبيا، وعناصر من “القاعدة في بلاد المغرب العربي” و”القاعدة في شبه الجزيرة” وبعض أعضاء “أنصار الشريعة” في تونس، ومحسوبون على “القاعدة” في اليمن.

ويلاحظ توماس هيجهامر، الخبير في الحركات الجهادية، أنه منذ إعلان قيام الخلافة لم يعلن البيعة للخليفة الجديد أو دولة الخلافة إلا أعضاء “مغمورين” ومقاتلين من تنظيمات إسلامية في العراق وسوريا أعلنت بيعتها كى تحمي نفسها من ابتلاع “داعش” لها.

لكن هيجهامر يلفت النظر إلى الدعم الذي تلقّاه إعلان إحياء الخلافة على وسائل التواصل الاجتماعي من متعاطفين مسلمين حول العالم. ويقول إنه إذا كانت “القاعدة” تواجه أزمة كبيرة في تماسكها الداخلي وتمويلها وصورتها، فربما يكون الأصح عدم المبالغة في تأثير رفضها لإعلان الخلافة، والتركيز بدلاً من ذلك على التنظيمات الجهادية الجديدة التي أعلنت دعمها لإعلان الخلافة لأنها يمكن أن تعلب دوراً في المستقبل، خصوصاً أن شباب تلك الحركات شنّوا هجمات لاذعة على “القاعدة” بسبب موقفها، فأحد أنصار “داعش” قال على التويتر: “إذا لم تستطع “القاعدة” و”طالبان” إحياء الخلافة بكل ما تمتعتا به من قوة ونفوذ كل هذه السنوات الماضية، فكيف نتوقع منهما فجأة أن يقفا الآن إلى جانب الحق. الخلافة لا تحتاج “القاعدة” و”طالبان”، لكنهما هما من يحتاجان الخلافة”. والواقع أن الترحيب بإعلان الخلافة على مواقع التواصل الاجتماعي كان كبيراً لدرجة أن الخبير في الحركات الإسلامية جي ام بيرجر وصف رد الفعل على مدونته كأن “داعش أقامت حفلة والجميع قرر الحضور”.

“داعش” تنظيم مندفع يتحرّك مع تحولات سائلة، مع تمدّده على الأرض ستتزايد استقلاليته المالية وقدراته العسكرية وعتاده من المقاتلين والأنصار، لكن حتى الآن لم يرفع أحد اصبعاً في وجه “داعش”، لا إقليمياً ولا دولياً. وعلى رغم أن فلييب كراولي المتحدث السابق باسم الخارجية الأميركية وصف “داعش” بـ”آيس كريم في الصحراء”، عمره قصير جداً، إلا أن الحقيقة أن الأميركيين نصحوا المالكي بعدم التعرض لـ”داعش” في المدن التي استولوا عليها في العراق لتجنّب “مذلّة” الهزيمة أمامهم. وهذا يترك “داعش” أمام خيار “المزيد من التمدد” كما يقول سيف الله يوسف “وأول الغيث قطرة والهمّة جناح الحظ”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى