صفحات الرأيموريس عايق

العقل السياسي العربي… عودة إلى الجابري/ موريس عايق

 

 

يصادف هذا العام الذكرى السابعة لرحيل محمد عابد الجابري، والذي نستعيده هنا هو عمله “العقل السياسي العربي” الذي طبع للمرة الأولى عام 1990. في هذا العمل سعى الجابري إلى فهم محددات وتجليات العقل السياسي العربي في سياق تعثر الدولة الوطنية وفشل مشروع النهضة وعودة النزاعات العشائرية والطائفية والأصولية الدينية، والتي تهيمن اليوم على المشهد المشرقي العربي بشكل تام. فالنزاعات آلت إلى حروب، والحركات الأصولية انتهت إلى الدولة الإسلامية والنصرة والقاعدة، وتعثر الدولة الوطنية انتهى إلى تفككها وانهيارها. مما يبرر العودة إلى محاولة الجابري في هذا المجال.

قبل البدء بالحديث عن محددات العقل السياسي العربي لدى الجابري، فلا بأس من قول شيء عن “العقل” العربي السياسي لديه، درءاً لأي سوء فهم أو التباس ممكن عند الحديث عن “العقل” العربي. ما يعنيه الجابري بـ”العقل” هو القوالب أو المفاهيم السابقة على الفعل السياسي والتي نستخدمها لفهم العالم “السياسي” ومن ثم التصرف حياله، والتي تعطي المعنى للفعل السياسي وتبرره وتسوغه، وهي في هذا تشبه المقولات المتعالية الكانطية من حيث إنها تقدم إطاراً لتعقلنا للعالم، كما لمخيلتنا السياسية التي تصوغ أحلامنا وأهدافنا ونوازعنا وأمانينا.

فحين ندرك العالم باعتباره مقسماً إلى أمم، فإننا سنفسر نزاعاته باعتبارها نزاعات بين أمم، ونحاول إرجاع كل نزاع إلى نزاع بين أمم، حتى لو لم يكن كذلك للوهلة الأولى، أي أننا سنسعى للكشف عن الجانب القومي للنزاع المختفي خلف السطح.

ليس المقصود بالعقل هنا عقلاً لا تاريخياً أو لا اجتماعياً، حيث يحيل الجابري إلى التكون التاريخي له ويعرض في مقدمة كتابه نقاشاً مستفيضاً بالإضافة إلى العديد من الملاحظات حول الأصول الاجتماعية لهذا العقل، بما يمكننا لاحقاً من تقديم تفسير مادي لهذا العقل إن شئنا، متعلق بشروط المعاش العربي. ما يسعى الجابري لدراسته هو العقل نفسه، بنيته وتكوينه وآليه علمه كما تجلت في التاريخ العربي الإسلامي.

يرى الجابري أن العقل السياسي العربي يملك ثلاثة محددات تنظم فعله السياسي، وهي العقيدة والعشيرة والغنيمة، والتي بدورها تشرح لنا الكثير مما نراه اليوم من عوامل تمزق العالم العربي، ممثلة بالنزاعات العشائرية والطائفية والأصولية الدينية.

تحيل العشيرة لدى الجابري إلى كل جماعة تنتظم على أساس العصبية في تضامنها الذاتي وتلاحمها في مواجهة الجماعات الأخرى، مما يكرس ضعف الهوية الوطنية وفكرة الجماعة الوطنية التي ننتمي إليها جميعنا. لهذا لا تقتصر العشيرة على القبيلة، بل قد تكون الطائفة أو الانتماء الجهوي مثلاً.

الغنيمة، والقصد منها هو المكسب الذي يتم تحصيله عبر القوة وليس عبر تنمية الجانب الإنتاجي للاقتصاد. في الحالة البدوية، كانت الغنيمة تأتي عبر الغزو والنهب، وهي حالة لم نغادرها في العديد من بقاع العالم العربي إلا مع بدايات القرن العشرين. والغنيمة أيضاً الخراج الذي تحصلت عليه الدولة من الفلاحين بالقسر والقمع، وتولت توزيعه لاحقاً على رجالها، بدءاُ من السلطان مروراً بالحاشية والعسكر والولاة وغيرهم من رجال الدولة أو بطريقة أفضل أهل العصبية. وفي العصر الحديث، هي الريع الذي تتولاه الدولة وتعيد توزيعه على أهلها ورجالها، وتعيد تشكيل التركيب الطبقي للمجتمع، فالثراء والفقر ليسا متعلقين تماماً بالنشاط الاقتصادي، الإنتاجي، بل بالعلاقة مع الدولة. تحتكر الدولة الريع، بدءاً من الثروات الطبيعية وانتهاء بشهادات الاستيراد والتصدير والمناقصات، وتقوم بتوزيعه. ما تعنيه الغنيمة هو أن الثروة مرتبطة بالقوة وليس بالاقتصاد، فلا تقوم على تثمير الموارد وإداراتها بالشكل الأكفأ، مما يفترض عقلانية اقتصادية تكون أساساً للعقلانية عموماً، بل مرتبطة بالسيطرة على القوة التي تتيح النهب والتحكم بمصادر الثروة.

يمكن لهذين المحددين سوية أن يقدما لنا صورة مثيرة عن حال السياسة لدينا، من جهة تكون الدولة أداة السلطان والجاه والطريق الفعلي للثروة، ومن جهة أخرى لا يمكن السيطرة على الدولة وحفظ هذه السيطرة إلا عبر عصبية قوية وشوكة. فتصبح السياسة تنازعاً بين عصبيات غايتها السيطرة على الدولة، واستخدامها لقمع العصبيات الأخرى المناوئة لها وتعزيز التحالفات حول العصبية الحاكمة عبر المال والثروة الخاضعين بدورهما للدولة. فلا يمكن للتغيير أن يحصل إلا عبر عصبية أخرى أقوى وأشد من العصبية الحاكمة، تطيح بها وتدمرها.

ومن هنا يرصد الجابري غياب دولة المؤسسات في التاريخ العربي. تتمحور الدولة بكليتها حول الأمير، الدولة هي الأمير والأمير هو الدولة، فلا تمييز بين ما هو عام وما هو خاص. يستعير الجابري تحليل فوكو لاستعارة الراعي والقطيع لتحليل السلطة في التراث المشرقي، حيث تتماهى السلطة بالراعي الذي يرعى قطيعه، ووجود هذا الراعي هو شرط وجود واستمرار القطيع. الراعي هو الذي يقرر ويجمع القطيع ويحفظه ويقوده إلى الكلأ والماء، والقطيع في النهاية ليس إلا ماشية. السياسة لدينا، كما تجلت في الأيديولوجيا السلطانية وفقه الطاعة، استمرار لتقليد الراعي وقطيعه.

يبقى محدد أخير يقدمه الجابري وهو العقيدة، فكلمة العرب لا تجتمع إلا على الدين والنبوة، فيتجاوزون عصبياتهم التي تمزقهم وتضعفهم. تجاوز العصبيات وتنازعها لا يتم إلا عبر القوة التوحيدية للدين، وهو ما حصل يوماً مع الإسلام. اليوم تظهر الحركات الدينية لتلعب دوراً شبيهاً، ساعية إلى توحيد المجتمع في مواجهة الدولة وأهل العصبيات. لكن هذا الاتكاء على الدين يجعل من هذه الحركات ناطقة باسم الله والإسلام، جاعلةً من تفسيرها هو الإسلام عينه، وليس مجرد أحد التفاسير الممكنة. وبما أن هذه الحركات تخوض صراعاً مع/على الدولة، فإن تفسيرها للإسلام يصبح بدوره محكوماً بالسياسة. فكما أن الدولة هي الأمير، فإن التنازع مع الدولة باسم العقيدة، يُدخل الدولة والأمير إلى العقيدة، لتصبح السياسة هي الحكم الأخير في أمور العقيدة.

هكذا تكتمل الصورة التي يقدمها الجابري للعقل السياسي العربي، دولة السلطان القائمة على العصبية والتي تتحكم بأمور الجاه والثروة (نمط إنتاج يقوم على الريع) بما يحفظ هذه العصبية ويديمها، فيغيب التمييز بين الدولة والسلطان (النظام)، فتكون الدولة بأكملها مخصصة لإدامة حكمه وحفظه، ولا يمكن مواجهة السلطان إلا بالاتكاء على عصبية أخرى.

في المقابل، يلعب الدين الدور التوحيدي للمعارضة في مواجهة هذه العصبية الحاكمة، من أجل تأسيس عصبية جديدة أو هوية متجاوزة للعصبية، لكن عندها تدخل السياسة في الدين، بل وتصبح هي الحكم في أمر الدين، مما يفتح الباب للتعصب والتطرف، وتحويل الدين إلى مجرد وسيلة للسياسة. هكذا تغيب دولة المؤسسات والجماعة الوطنية والتمثيلية والمواطنة والعقلانية الاقتصادية وأية عقلانية أخرى، ولا معنى عندها لمساءلة معقولية السلوك السياسي انطلاقاً من تصور مثالي عن مصلحة الدولة المشتقة من المصلحة الوطنية، فمصلحة الدولة هي مصلحة السلطان.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى